صفحات سورية

رهانات عربية على دمشق

null


هافال أمين

قال الرئيس السوري بشار الأسد ذات يوم، أن “الشرق الأوسط يمثل قلب العالم، وأن سورية تمثل قلب الشرق الأوسط”، مؤكداً بذلك واقعاً قائماً فعلاً.

خلال الأيام الأخيرة، تحركت أربعة بيادق من دمشق، في الوقت نفسه تقريباً، على رقعة الشطرنج الشرق الأوسطية: أولاً، إتفاق الدوحة، وهو ليس شأناً لبنانياً فقط، وإنما أيضاً خارطة لتوازن القوى والمصالح بين أطراف إقليمية ودولية. وقد كان لدمشق دور مهم في إنجاحه ممّا حدا بالرئيس الفرنسي، ساركوزي، أن يجري اتصالاً هاتفياً مع الأسد، شاكراً جهوده، بعد شبه قطيعة في العلاقات بين بلديهما، منذ اغتيال رفيق الحريري. أما ثانياً، فالإعلان رسمياً عن بدء المفاوضات بين سورية وإسرائيل. ثم ثالثاً، توقيع مذكّرة تعاون دفاعية بين سورية وإيران، هي الثانية من نوعها، حيث جرى توقيع مثيلتها في العام 2006، كشراكة عسكرية تنص على إنه إذا تعرّضت مصالح أو أراضي إحدى الدولتين لخطر إقليمي أو دولي، فعلى الدولة الثانية تقديم الدعم اللوجستي، والسلاح. أما رابعاً وأخيراً، فجولة الرئيس الأسد الخليجية.

لقد كان مؤتمر القمة العربي الأخير الذي انعقد في دمشق، آخر محاولة لعزل سورية، حيث لم يحضره معظم القادة العرب، ومنهم القادة ذوو الصلة الوثيقة بالملفّات الحساسة في الشرق الأوسط، مثل الصراع العربي- الإسرائيلي، والموضوع اللبناني، وما يجري في العراق، وكذلك التوسع الإيراني (مع تحفّظي على هذه الكلمة)، وأيضاً الدور التركي في مجمل هذه الأحداث والأحاديث.

رسالة العزل كانت بليغة، وكان على دمشق أن تتحرّك، فهي بحكم موقعها في قلب الشرق الأوسط، لا تستطيع أن تبتعد عن العرب الكبار، وللسبب نفسه لا تستطيع أن تتجاهل قوى إقليمية كبرى كإيران وتركيا.

قدر دمشق أن تكون عربية وإقليمية في نفس الوقت، وأن تكون لها علاقات مع إسرائيل، وبالتأكيد ليست علاقة حرب.

من الواضح أن هناك زخماً من التطورات في المنطقة، يجري بإيقاع متسارع. لا أعتقد أن بلوغ ولاية بوش نهايتها هو السبب، ففي كل الأحوال لا يمكن إنجاز قفزات نوعية في هذه الأشهر الستة الأخيرة من ولايته، ولكن التمهيد لها حاصل ومستمر في دائرة الزخم، فالمسألة لا تتعلّق ببوش، وإنما بالولايات المتحدة. كما لا أعتقد أن ترنّح إيهود أولمرت على مقعد رئاسة الحكومة الإسرائيلية، هو الدافع الخفي لطلب السلام مع سورية، فالقضية قضية إسرائيلية وليست قضية أولمرت. هناك تواصل وتشابك بين كل الأطراف، ولعلّها المرّة الأولى في تاريخ الشرق الأوسط، التي يلتقي فيها الأصدقاء والأعداء بهذه الكثافة، وراء الكواليس حيناً، وأمامها أحياناً.

كان الغزو الأميركي للعراق، مقدّمة للقضاء على النظام في كل من إيران وسورية. وهذا ما لم يتحقق، بل إن العراق نفسه ما يزال يخوض في دوّامة، لإثبات وجوده الجديد. كما هدفت حرب إسرائيل في العام 2006، على الأراضي اللبنانية، للقضاء على حزب الله. لكن ذلك لم يتحقق، بل صار حزب الله أقوى، وفرض خلال أيام من أيار/ مايو الماضي، تراتبية جديدة في المشهد اللبناني. وربّما كان التعبير الذي استخدمه زعيم التيار الوطني الحر، ميشيل عون، بإعادة القاطرة إلى سكّتها الصحيحة، توصيفاً للأحداث المسلحة التي حصلت في الشوارع اللبنانية، أدق ما قيل عن تشخيص الحالة الراهنة، وخلاصتها أن هناك أكثر من قوة ومصلحة في لبنان، بل في الشرق الأوسط كله.

سقطت، إذن، بعض الرهانات، إما لاستحالة تنفيذها، أو لخطر نتائجها. فالهجوم على إيران مثلاً، أمر لا تُحمد عواقبه، وقد ناقش الرئيس حسني مبارك مع نائب الرئيس الأميركي، ديك تشيني، في مارس من العام 2006، الدمار الذي يحدثه الهجوم على إيران، ونصح بتجنّب ذلك لأن إيران تملك إمكانية الرد في بلدان الخليج العربية. كما أن القضاء على النظام السياسي في سورية، يقود إلى جملة من الأمور، أقلها سيطرة إيران الكاملة على العراق، لإحداث توازن على حدودها في مقابل حلفاء الولايات المتحدة الجدد في دمشق، إضافة إلى الانفجار الكبير الذي سيحدث في الشرق الأوسط، لأن سورية ستكون ساحة أكبر للنزاع الإقليمي في كل الاتجاهات، كونها ذلك القلب النابض للشرق الأوسط، وأهم بؤرة في الصراع العربي – الإسرائيلي.

تحرّكت دمشق، وحرّكت أربعة بيادق، لتكون هي مركز الرهانات. ما هي تلك الرهانات الناجمة عن الحركة والتحريك؟ إنها:

1- الرهان المصري: فبعد مضي ثلاثة عقود على اتفاقية السلام المصرية- الإسرائيلية، لم يحدث اختراق جوهري لعملية السلام. كما أن التطبيع على المستوى الشعبي يترنّح، ويتراوح في مكانه، وهو البارومتر الحقيقي للسلام، أو كما قالت غولدا مائير ذات مرّة، بأنها تريد أن تتسوّق في خان الخليلي، كما تتسوّق في أي متجر في باريس أو لندن. ولعلّ مقولة العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، بمناسبة مرور ستين عاماً على قيام إسرائيل، بأنها لم تنجح في تحقيق القبول في محيطها برغم كل قوتّها العسكرية، حقيقة واضحة من حقائق التطبيع الوهمي. إن إخراج مصر من الصراع، لا يعني إحلال السلام وإنهاء الحرب. مصر تراهن على دمشق لاستكمال الجانب الآخر من الصراع، أي السلام.

2- الرهان السعودي: إن أي خلل في ميزان الشرق الأوسط على حساب حقوق الشعب الفلسطيني والمقدّسات الإسلامية، يؤثر سلباً على واحدة من أكثر دول المنطقة نفوذاً من الناحية الروحية والاقتصادية وهي السعودية. إن النظام السعودي قائم على الشرعية الدينية، ولهذا فإن السلام الذي يجلب الحقوق الفلسطينية ويعيد المقدسات، يريحه، ولهذا فإن عينه على دمشق ومدى تقدمها في عملية السلام.

3- الرهان الأردني: في الأردن مقومّات حداثة صالحة لبيئة السلام، خطّط لها بشكل مدروس، وصمّمت لها بنيتها التحتية. بيد أن التوتر القائم في الشرق الأوسط، يفرض عليه أن يبذل جهداً إضافياً لضمان الأمن، خاصة في ظل محيط يغيب عنه السلام، ويرقص على البارود، ويتغنّى بالمدافع. موقع الأردن بين دول قوية متناحرة، أو غير مستقرة، يفرض عليه أن يكون محصّناً من الداخل، لكن استمرار حالة اللا استقرار، قد يُحدث صدعاً في جدار الحصانة، وعليه فإن الأردن لا يتوانى عن مباركة خطى البيادق الدمشقية.

4- الرهان العراقي: العراق هو العمق الجغرافي لسورية في حالة أية حرب مع إسرائيل، وذلك ما لم يطبق بسبب الخلافات الأيديولوجية بين بغداد ودمشق. أما وقد انتقلت بغداد من حالة إلى أخرى بعد سقوط صدام حسين، فإن هذا العمق الجغرافي قد انتهى، فضلاً عن استحالة الحرب مع إسرائيل. تنعكس المعادلة هنا لتكون سورية هي العمق الأمني والآمن للعراق في الظروف الراهنة، ولاستقراره وديمومة الحياة السياسية الجديدة فيه، وذلك ما لا يتحقق في غياب الضمانات السورية.

5- الرهان اللبناني: لقد تبيّن للأكثرية اللبنانية، بأن لبنان لا يستقر من دون سورية، بدليل ما حدث في الصراع الداخلي الأخير خلال الشهر الماضي. لذلك أسباب عديدة؛ منها ما هو تاريخي يمتد إلى أيام العثمانيين، ودور دمشق في حياة لبنان، والتحالفات التي كانت تُقام فيها بين الجماعات المتخاصمة، التي كانت ترجع إلى والي دمشق بين حين وآخر. ومنها ما هو اقتصادي، يفرض نفسه على لبنان كبلد لا يحتضنه سوى البحر، وعدو لا يربطه به سلام الآن. ومنها أيضاً ما هو اجتماعي، تحكمه الأواصر التي تمتد لمئات السنين. ومنها كذلك ما هو جغرافي أمني، يجعل من سورية بمثابة الرئة التي يتنفّس منها لبنان، ويجعل لبنان بمثابة العين التي ترى بها سورية العالم المتوسطى نحو أوروبا، وبعيداً نحو مواطن العم سام. ومن الطبيعي أن هذه ليست دعوة لتوحيد السيادة بين البلدين، فلكل بلد استقلاله وسيادته، كما إنها ليست دعوة إلى عودة الوصاية السورية على لبنان، فهذا الزمن قد انقضى، فضلاً عن أن دمشق لا تفكّر حالياً في السير بهذا الاتجاه. وعليه، فإن أي سلام تنشده دمشق، إنما يصبّ في العصب اللبناني. هنا، لابد من الإشارة إلى وجود اعتقاد مفاده أن الرئيس اللبناني الجديد ميشيل سليمان، الذي دُعي لزيارة الولايات المتحدة، سيقوم بأول زيارة رسمية له خارج بلده إلى دمشق، بعد تشكيل الحكومة الجديدة لفؤاد السنيورة، والتئام شمل الأطراف اللبنانية.

لابد من التأكيد أن التاريخ والاقتصاد والاجتماع والجغرافيا والأمن، كلها تؤكد أن العلاقة بين سورية ولبنان، تشبه حركة الجينات داخل الجسد الحيّ.

كاتب هولندي مقيم في عمّان


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى