صفحات سوريةياسين الحاج صالح

نظام ثلاثة مارقين أو أربعة: من أين تأتي العدالة الى منطقتنا هذه؟

نظام ثلاثة مارقين أو أربعة: من أين تأتي العدالة الى منطقتنا هذه؟

ياسين الحاج صالح

يشغل المشرق العربي حيز تداخل وتراكب نظامين إقلميين: النظام الشرق أوسطي الذي تهيمن الولايات المتحدة على تفاعلاته وتضمن تفوق حليفها الإسرائيلي على دوله متفرقة أو مجتمعة، والنظام العربي الذي تشده وتوحد مخيلته روابط ثقافية ولغوية عميقة. ويعني النظام في الحالين نسق تفاعلات متنوعة، جيوسياسية في الشرق الأسط، وجيوثقافية في النظام العربي، يتعذر تحليل سلوك أطراف النظام دون أخذها في الاعتبار. فالنظام هو وحدة التحليل المناسبة لفهم سلوك الدول المندرجة فيه وليس هذه الدول ذاتها.

بيد أن أهم مفاعيل النظام هو أنه إطار التغيرات السياسية المحتملة، أي أن أي تغيير أساسي متعذر في أي بلد واحد من بلدانه. هذا ما يبدو أن نظم الحكم العربية تدركه أفضل من معارضاتها المعزولة عن السياسة الإقليمية والدولية والتي تظن أن تغير نظم الحكم مسألة داخلية. لكن النظم تعلم أن تغيرا يجري في العراق مثلا ليس شأنا عراقيا داخليا، ولا تقتصر مفاعيله المحتملة على العراقيين وحدهم، وإنما هو يمس الدول المحيطة بالعراق بكيفيات متنوعة، سياسية وأمنية ومعنوية واقتصادية وإنسانية. وفي السنوات الثلاث الأخيرة كانت سورية التي تشغل موقعا مركزيا في النظامين الشرق أوسطي والعربي طرفا احتدمت حوله تفاعلات حادة تمخضت عن إخراجها من لبنان، وتبدو محصلتها الراهنة كفالة استقرار النظام وبقائه، وفي الوقت نفسه ضبط سلوكه، بما يحافظ على استقرار النظام ككل. وأكثر ما يكشف عن فاعلية النظام الشرق أوسطي حرص إسرائيل على الستاتيكو السوري، الأمر الذي لا يمنعها من توجيه ضربات تستهدف ما تقدر أنه قد يكون خطرا عليها في المستقبل. فتفاعلات النظام حرجة دوما، لكنها ليست مغلقة ولا إيديولوجية أو تآمرية، تحتمل تفاهمات موضوعية، ولا تستبعد أشكالا من العنف دون الحرب المفتوحة. يوجهها في جميع الحالات حساب عقلاني مبدئيا للمصالح، مصالح الدولة في الحالة الإسرائيلية، لكن كذلك المصالح الانتخابية للحزب الحاكم (الا ان المصالح والمؤسسات الوطنية مستقلة إلى حد واسع عن تبدلات الفريق الحكومي…) ومصالح النظام في الحالات العربية التي تعتبر المصالح الوطنية متماهية معها. لذلك يتعين على التحليل، من أجل الفهم ومن أجل العمل، أن يتحرر من إيديولوجية المواجهة كي يكشف نظامية العلاقات بين الأطراف العربية وإسرائيل. عليه كذلك أن يتحرر من إيديولوجية السيادة كي يدرك ترابط أطراف النظام.

هذا النظام المزدوج والمركّب مكون من تفاعل هيمنات ثلاث: هيمنة أميركية كلية تدين لها السيادة الحقيقية في النظام، وهيمنة إسرائيلية واسعة النطاق لكنها عسكرية حصرا تقريبا، وهيمنة نظم تسلطية عربية على مجتمعاتها المحلية وما تستطيع من محيطها. وبين المهيمنين الأميركي والإسرائيلي علاقات ثقة ومودة عميقة، قلما يعكر صفوها توتر عابر. أما علاقة المهيمنين المذكورين مع الأطراف العربية فتمزج بين عدم الثقة وعدم الاحترام، وهي أقرب إلى علاقة سيد بمسود، يمتزج فيها انعدام الثقة بانعدام الاحترام وبالكره والخوف. ويتمثل المنبع الفياض لعدم استقرار النظام في كون المهيمنين الثلاثة قوى مارقة في الواقع، لا تلتزم بأي قانون.

في المجال العربي الشرق أوسطي بالذات، وفي ظل إدارة بوش الحالية بخاصة، تتصرف الولايات المتحدة باستهتار معلن بقرارات الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي. يظهر هذا بخاصة في تعاملها مع الشأن الفلسطيني الإسرائيلي والعربي الإسرائيلي بصورة عامة. وتبدى بوضوح كذلك في إقدامها على غزو العراق واحتلاله دون تفويض دولي.

وهي تمضي أبعد بكفالتها حصانة إسرائيل أمام الشرعية الدولية وضمان أن لا تلام حين تتصرف بطريقة غير مسؤولة. وحظوتها بدعم أميركي غير محدود، عسكري ومالي وتكنولوجي وثقافي وعاطفي…، فضلا عن عقيدة تفوق يهودي متأصلة وعن إيديولوجية تفوق أخلاقي بسبب الهولوكوست النازي، تبيح لإسرائيل أن تتحلل من القوانين الدولية، خلافا لما تقرره عليها عضويتها في الأمم المتحدة.

إسرائيل وأميركا دولتان مارقتان في النظام الشرق أوسطي، بيد أن الداخل الوطني لكل منهما معزول عن الشرق أوسطية. إلى متى؟ هل ستستطيعان المثابرة على المروق والتصرف بطريقة غير مسؤولة في الشرق الأسط، مع بقائهما ديموقراطيتين داخليا؟ نشك في ذلك. لكن هذا شأن آخر.

أكثر نظم الحكم العربية، بالمقابل، لا تلتزم حتى بالقوانين التي يحصل أن تضعها هي لنفسها. نمط ممارستها للسلطة لا يرفض قوانين بعينها (تنص على حقوق وحريات أو تراقب عمل أجهزة السلطة…) بل يتعارض مع فكرة القانون بالذات، هذا الذي يبدو لها قيدا لا يطاق يحد من حريتها المطلقة في التصرف. وهي تشارك أميركا وإسرائيل عدم الالتزام بالقوانين الدولية ما أمنت لذلك.

ويقع على مجتمعاتنا المحلية وطأة تفاعل قوى المروق، وفائض العنف الهائل الذي تمارسه ثلاثتها حيثما تصورت أن سلطانها يواجه بتحد، واشتراكها بمبدأ الحرب الاستباقية ضد أي خطر مُتصوّر…، الأمر الذي يفسر أكثر من غيره تمزق مجتمعاتنا الجاري والمتفاقم.

من أين الاستقرار لنظام تسيطر على تفاعلاته ثلاث قوى مارقة؟ ومن أين العدالة؟ ومن أين الإصلاح؟

مبدئيا من إصلاح النظام ككل. فالنظام هو وحدة عمل وليس وحدة تحليل فقط. ولا مجال لديموقراطية في أي بلد واحد من بلدانه. إما سيقضى عليها أو تنعزل بأسوار أمنية، أي ستقضي على ذاتها.

ويولد النظام حتمية حافظة له ومضادة لإصلاحه، هي بمثابة غريزة بقائه واستقراره، ولا مناص من التغلب عليها من أجل الإصلاح. بيد أن هذا يبدو متعذرا كل التعذر. فترابط المارقين الثلاثة، وإن يكن حرجا وخصاميا، لا يسمح بتعديل مهم فيه، سرعان ما يحبطه أو يحتويه ويفسده إن حصل. هذا هو جدار المستحيل الذي تصطدم به حركات الاعتراض العربية التي تفكر بدولة القانون والمسؤولية الدولية. ولعل رسوخه وثيق الصلة بعد بظهور حركات اعتراض عربية مارقة بدورها، لا تعترف بقانون دولي ولا قانون محلي، الحركات الجهادية. بيد أن المحصول المرجح لدخول المارق الرابع هذا هو المزيد من تأزم النظام ومن تمزق مجتمعاتنا المنهكة والمشوشة. تبقى حتميات النظام المضادة للتغيير أقوى من الفاعلين التغييريين المحتملين، إلى درجة أنها تجتذبهم وتسخرهم إعادة إنتاجها.

هل من سبيل لإطلاق دينامية إصلاحية في النظام، وأي معنى يتخذه إصلاح النظام؟

لا نتبين بوادر دينامية إصلاحية. لا يزال المجتمعان الأميركي والإسرائيلي يوفران أرضية ثقافية وسياسية ومادية لسياسات مخربة في المجال العربي والشرق أوسطي. ومجتمعاتنا أنتجت الجهاد الذي يبدو مغذيا لحتميات النظام رغم عدائها له وتمردها عليه. من المرجح لذلك أن يمضي وقت طويل، جيل أو جيلان، قبل أن تتولد قوى وطاقات إصلاحية فعالة في نظام المارقين هذا.

ومبدئيا، يعني إصلاح النظام إلزام أطرافه بالقانون، أي نزع الصفة المارقة عنهم، لتمسي إسرائيل دولة مثل غيرها، دون تفوق كياني أو أخلاقي أو عسكري. ولتغدو أميركا دولة عادية، تتفاعل مع دول المنطقة بمنطق توازن المصالح. ولتغدو دولنا دولا عقلانية وديموقراطية. وليندرج الإسلاميون في الحياة العامة لمجتمعاتهم دون عقد تفوق أو نقص.

لكن يبدو أن مروق هذه الأطراف جوهري، وأن نزعه يقتضي لا أقل من الثورة عليها، وعلى النظام ككل.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى