ياسين الحاج صالح

هل العربي الموريتاني أقرب إلى العربي السوري من الكردي السوري؟


 

ياسين الحاج صالح

في مطالع خمسينات القرن العشرين تنطع الشيخ علي الطنطاوي، الإسلامي السوري، وصرح أن المسلم الباكستاني أو الاندونيسي أقرب إليه من المسيحي السوري. كان تصريح الشيخ الطنطاوي موجها ضد الفكرة القومية العربية الصاعدة آنذاك في سورية أكثر مما ضد مواطنيه المسيحيين، لكنه أثار سخطا متوقعا، أسهم فارس الخوري، رئيس وزراء سورية ورئيس برلمانها غير مرة، في تهدئته.

وقبل أسابيع قليلة شكا ناشط كردي سوري من أن بعض نظرائه العرب يعتبرون العربي الموريتاني أقرب إليهم من الكردي السوري. في التصريح ذاك كما في الشكوى هذه تلخيص محكم لواحدة من المفارقات التي يقع فيها الوعي القومي عموما، عربيا أم إسلاميا، أم كرديا. يجيب الإسلامي على سؤال ما هي الأمة بالقول إنها المسلمون، ما يحكم بالأجنبية أو بالثانوية على المسيحيين ومجمل غير المسلمين. ويجيب القومي العربي على السؤال ذاته بالقول إنها الأمة العربية، ما يقصي الأكراد وغير العرب إلى الأجنبية والغربة. وكانت عقيدة العروبة المطلقة البعثية مخلصة لنفسها حين ارتضت حرمان ما يتواتر تقديره اليوم بربع مليون كردي من الجنسية السوري يوصف الواحد منهم بأنه “سوري أجنبي”، وأنكرت أية حقوق جمعية للأكراد ككل. ومن البين أن مفهوم الأمة ديني عند الشيخ الطنطاوي وعموم الإسلاميين، ولغوي إثني عند العروبيين. ولأن الإيديولوجية المشرعة للحكم السوري اليوم قومية عربية، فليس ثمة مشكلة مواطنة عند المسيحيين وغير المسلمين، لكن ثمة مشكلة عند الأكراد وغير العرب بعامة. ولو كان أخلاف للشيخ الطنطاوي هم من في الحكم ربما لما كان ثمة مشكلة مواطنة عند الأكراد (أكثرهم مسلمون سنيون)، لكن لشعر المسيحيون وغير المسلمين بالاغتراب.

لا يجد أي شخص منصف ومنفتح الذهن صعوبة في فهم ذلك كله. فسورية مجتمع متعدد إثنيا ودينيا، ومن شأن أية عقيدة سياسية أو نظام رمزي واحدي يفرض عليه أن يثير مشاعر اغتراب عند قطاع من مواطنيه لا يشاركون في العقيدة تلك أو النظام الرمزي هذا. وهذه قاعدة عامة الانطباق. فلو قامت دولة كردية على أساس قومي لشعر من يحتمل وجودهم من العرب بين سكانها بالغربة والهامشية، ولتحول هذا الشعور إلى المرارة والنقمة لو بادرت الدولة هذه إلى وصفهم بالأجانب. وشعور مسيحيين عرب بالقلق من الصعود السياسي والرمزي المفترض للإسلاميين لا يختلف في شيء عن شعور مسلمين في الغرب بعد 11 أيلول من صعود الغربية التمييزية على حساب مبدأ المواطنة. ويزعم العارفون أن المسلمين في الهند هم دعاة العلمانية، لأنهم لن يكونوا غير أقلية هامشية في هند هندوسية، فيما سيكونون مواطنين مثل غيرهم أو جزءا من أكثرية سياسية محتملة في هند علمانية. ويدعو الفلسطينيون في إسرائيل إلى دولة لكل سكانها لأن من شأن توكيد الطابع اليهودي للدولة أن يحكم عليهم بالهامشية والاغتراب. ومؤخرا دعت الحكومة الإسرائيلية العرب إلى الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، وهي دعوة جديرة بالرفض لكونها تحكم بالغربة على مليون ونصف مليون فلسطيني مقيمين في وطنهم، فضلا عن إغلاقها ملف اللاجئين، فضلا كذلك عن أن من شانها أن تكون مكافأة متأخرة لسياسة التطهير العرقي الإسرائيلية.

كل هذه من الوقائع المألوفة إلى درجة الابتذال في الحياة السياسية الدولية. لكن بينما يحصل أن تنجح دول في معالجة المشكلة بأن تسوي بين سكانها دون تمييز على أساس الدين أو العرق أو اللون أو الجنس، تخفق دول أخرى وتعرض نفسها لعدم الاستقرار الداخلي أو للتدخلات الخارجية أو لكليهما معا.

ليس لسورية وضع استثنائي في هذا المجال إذن. بيد أن لها وضعا خاصا يتمثل في هيمنة تصورين استبعاديين للهوية الوطنية في أوساط واسعة من النخبة السياسية، في حين أنه لا يتعذر تطوير تصور استيعابي. ثمة كما أسلفنا التصور القومي العربي وهو يستبعد غير العرب، وهناك التصور الإسلامي أو “القومي الإسلامي” وهو يقصي غير المسلمين من حيث المبدأ. السوريون وفقا لهذين التصورين إما عرب أو مسلمون. لكن لماذا تبدو سوريتهم واقعة غير ذات صلة بهويتهم الوطنية؟ لماذا تبدو السورية ضعيفة الشخصية أمام العربية (العروبة) والإسلامية؟ هذا بينما السورية وحدها يمكن أن توحد السوريين، عربا وغير عرب، ومسلمين وغير مسلمين؛ ومن شأن الاهتمام بها أن يتيح للأكراد والمسيحيين والإيزيديين (دين مستقل، متصل بالزرادشتية، الديانة الفارسية القديمة، يعتنقه نحو 100 ألف من السوريين، وكلهم أكراد)، وبالطبع الأرمن والآشوريين (يعتبرون أنفسهم متحدرين من الآشوريين القدماء، وهم مسيحيون دينا) والشركس.. يتيح لهم هوية إيجابية يشاركون فيها مواطنيهم الآخرين، العرب المسلمين. وليس من شأن ذلك أن يتسبب في انخفاض مرتبة الأكثرية العربية والمسلمة في البلد إلا إذا تصورنا العلاقة بين الجماعات الدينية والإثنية في البلد علاقة صراعية محكومة بمحصلة صفرية. ليس ثمة ما يسوغ هذا التصور، وليس هذا واقع الحال الآن رغم كل شيء.

ثم إن الاستثمار السياسي والمادي والمعنوي في السورية لا يقتضي من العرب جحد انتمائهم والكف عن تعاطفهم مع الموريتانيين..، ولا من المسلمين الجفاء حيال الباكستانيين والإندونيسيين الأعزاء. إنه إعادة هيكلة وتوزيع لعلاقات السلطة بين هذه الهويات، تحظى بموجبه السورية بالسيادة. فالسورية هي التي تعم الجميع، وهي إطار المساواة القانونية والسياسية بين السكان، و”العنف المشروع” يتم في إطارها فقط. وإعادة الهيكلة هذه لا تصطنع واقعا وإنما هي تضفي على واقع قائم قيمة إيجابية وتستجيب إلى الحاجة إلى تطوير وعي وطني سوري متسق معه. فيما تعتبر الواقعة السورية اليوم شأنا عارضا، خفيفا، لا قيمة له، ولا يستحق أن يفكر أو يوَظّف فيه. لعله لذلك فإن أهم الكتب عن سورية كبتها دارسون أجانب، بما فيهم إسرائيليون. وهذا وضع شاذ حتى بالقياس إلى البلدان العربية الأخرى.

والمنظور هذا يستوجب قلب التصور المهيمن اليوم باتجاه اعتبار العرب والمسلمين جزءا من سورية، وعدم التوقف عند اعتبار سورية جزء من “الوطن العربي” أو “الأمة اسلامية”. ولا نتصور من جهتنا كيف يمكن أن يخسر العرب أو العروبة من ذلك، أو كيف يكون سحبا من رصيد الإسلام. هنا أيضا ثمة افتراض ضمني بن العلاقة بين السورية والعروبة والإسلام هي علاقة تنافسية، محكومة بمحصلة صفرية. وهو افتراض مؤسس على تصور بسيط واستبعادي للهوية، وعلى إرادة مطابقة بين الثقافي والسياسي لا تفضي إلا إلى تنويعات عرقية أو دينية من سياسة التطهير. فإذا ثابر بعضنا على تصور أن العروبة والإسلام خاسران حتما من تطوير وطنية سورية تضمن المواطنة والمساواة لسكان البلد، فإن ما ينبغي تصحيحه هو تصورهم هذا وليس أي شيء آخر.

ومن شأن تطوير وطنية سورية استيعابية أن يسهم في إخراج قضية التعاون والتكتل العربي من الطريق المسدود الذي تتخبط فيه الآن، فوق كونه الحل الذي لا منافس له لضمان المساواة في المواطنة والاحترام للسوريين جميع

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى