صفحات ثقافية

مسلســل ناصــر… التنقيــح

null
عباس بيضون
ليست المرة الأولى التي نرى فيها شريطاً عن جمال عبد الناصر. سبق فيلمان والريبورتوار الناصري على زيادة. لا تفاجئ العودة المتكررة الى عبد الناصر بل لعلها أقل من المتوقع ولا أشك في انها لا تزال في البداية. ثمة هذا الوعي المستجد بأننا بتنا نملك تاريخاً حديثاً وهو وعي دونه الى الآن تردد وخجل وعقبات كثيرة. هناك اولا ممانعة دائمة من أن يكون لنا تاريخ حديث. ثمة من يغذي هذا الاحساس المستديم بأننا حشرنا في هذا الموقع ولم ندخله بإرادتنا. الاحساس بأننا أجبرنا على غلط ليس لنا فيه يد، وأن ما نسميه تاريخنا ليس سوى ما صنعه الآخرون لنا وباسمنا. ليس هذا في نظر الآخرين ليس سوى عبث المستعمرين وأتباعهم بنا، سوى تمادينا في البعد عن إرادتنا وأنفسنا، سوى استلابنا المتراكم. انه الآخر الذي تلبّسنا وشيّدناه بايدينا وهو بالطبع اغترابنا وتشردنا واستتباعنا ولن يكون تاريخا لنا. فيلم عن عبد الناصر لا يعني ان فكرة كهذه باتت في الغياب بل هي قد تكون في صلب المعالجة السينمائية. لا تعني المعالجة السينمائية او التلفزيونية بالضرورة اعترافاً بهذا التاريخ او محاولة لامتلاكه، قد لا تكون اكثر من اعادة رواية بالمفردات نفسها وقد لا تقول اكثر من: اليكم ما فعله الآخرون بنا. قد تكون براءة جديدة من هذا التاريخ وتبسيطا اضافيا لهذه الرؤيا الثنائية. عمود هذه الرؤيا اسقاط متماد لولادة استعمارية زائفة، تستمر اللحظة الاستعمارية والولادة الزائفة من الاستعمار زمن الاستعمار وما بعده، بل وتستمر بالقوة نفسها في النضال ضده. يقال الآن على سبيل المثال انه هو الذي اخترع القاعدة وضرب الشيعة بالسنة وأقام الارهاب الاصولي ضد نفسه، اذا بدا ان هذه الفكرة تخلو من المنطق فانها تستند الى ما هو أصلب منه، استمرار هذه الولادة الاستعمارية، انها الفكرة التي لا تحتاج الى منطق فلديها من الجذب والسحر ما يكفي. ثمة ضغينة مشروعة لا شفاء منها وخجل بالذات يبرران ذلك ويجعلانه بديهياً.
العودة الى عبد الناصر وحتى الى طلعت حرب وفاروق ليست تماماً في السياق نفسه، كان مسلسل فاروق مفاجئا لكنه نبهنا الى ان الزمن ابتعد بما يكفي عن انقلاب يوليو ،١٩٥٢ امكنت العودة بلا ضغينة الى العهد الملكي. اذ لم تعد »ثورة ١٩٥٢« بحاجة الى تبرير، عدا عليها ما يكفي من الزمن والتحولات وغابت تقريبا نقطة البداية. بل بات مطلوباً الخروج من الزمن الاسطوري الثوري والاستراحة عند »واقع« لن يكون بالمصادفة وحدها مستنفذاً وفي تاريخ ابتعد بما يكفي ولم يعد محرجاً. سيأنس المتفرج المصري والعربي بخبايا القصر الملكي وسيكون فاروق ونازلي وحسنين باشا والنحاس باشا عالماً من الدمى المسلية. انه ايضا الوقت لتغدو الثورة المصرية بتمامها في الاسطورة وبعد فيلمين عن عبد الناصر قاما بما يكفي من التنقيح لواقع، سيكون هذا هو التنقيح الأخير التام. في النسخة الثالثة سيكون الحرج اقل وسيتم هذه المرة نسيان امور كبيرة لمصلحة مسائل منسية. ستربح الرواية على التاريخ بمبررات هي أحيانا تاريخية. سيُبنى هرم رابع حقيقي وسنبدأ الاسطورة من الأول. لم تعد هناك عقبات، ستجري عملية تطهير واسعة من البداية، ولن نجد على طول الطريق ما يستفز او يزعج او يحرج. سيكون المتفرج وبالطبع المخرج والسيناريست مطمئني الضمير. لم يسببا أي حرج لأحد. لقد جبّا كل المنغصات والمزعجات والاشكالات عن الطريق لن يسمحوا لأي سؤال فظ، وبلا احترام، ان يرتفع واذا صادفهم واحد او آحاد فسيلتفّون عليها. الزمن بعيد وصار في وسعنا ان نرى كل ذلك بأذى أقل او بدون اذى على الاطلاق، الزمن بعيد وصار في وسعنا ان نتسلى، حتى بالعظائم التي كانت في حينها كذلك. ليس بناء اسطورة فحسب ولكن اسطورة زهرية بالطبع، فليس من شأن الافلام تصديع الرؤوس بألغاز ومسائل عالقة. ثمة رواية بسيطة لكل ما يجري وليس مهماً بعد الاصطدام بالتاريخ.
تنقيب تاريخي وعمل تفعيلي على التاريخ. يقول المخرج والسيناريست »مسلسل ناصر« بثقة في محلها. لقد استندوا الى مؤرخين. لكن المؤرخين لا يصبغون افلاماً، صانعو الأفلام هم الذين ينتخبون ما يشاؤون لروايتهم. هذه الرواية ستبدأ من الأول. من البيت، من الوالد والوالدة، من الصف المدرسي، من المراهقة الأولى. الوطنية في الدم وفي الحليب وفي كل الأعمار، في الطفولة والمراهقة شواهد عليها. البطل يولد بطلاً وينشأ بطلاً، وينمو بطلاً. سيركز صانعو الفيلم على هذه اللمحات، ستكون بعض جديدهم، سيقولون انهم بحثوا ليجدوها. سيقولون انهم يضيفون لمحة كهذه من الواقع، انهم يتكلمون هكذا عن البطل كانسان له بيت وأهل وطفولة ومراهقة. لكن الأنبياء ايضا يولدون ويعيشون بين أهل وفي بيوت، ولا يكونون مع ذلك اطفالا كالأطفال ولا بيوتهم كالبيوت، انهم أنبياء منذ يولدون وبيوتهم بيوت انبياء. منذ ذلك الحين. طفولة عبد الناصر هي طفولته الوطنية وشبابه شبابه الوطني. لقد بدأ الأمر منذ ذلك الحين، لم يفعل رواة سيرة »كيم إيل سونغ« شيئاً آخر.
يقال ان السيدة هدى عبد الناصر تدخلت في السيناريو ولم يرق لها ان يتجول عبد الناصر في البيت بالبيجاما بدون روب. لا نعرف اذا صحت هذه الرواية او لم تصح ولا يهمنا ان نعرف فالأمر سيان. لقد بدأ الفيلم من عبد الناصر الرئيس والحاكم والبطل ورأى كل شيء وكل ما سبق في هذا الضوء. لقد ولد عبد الناصر بطلا، لكنه ولد ايضا حاكما ورئيسا، وليس لمن ولد كذلك ان يتجول بالبيجاما بدون روب. تدلنا الافلام المصرية المتواترة ان الروب فوق البيجاما كان، بوجه خاص، علامة الطبقة الوسطى المصرية، »مثقفين وموظفين مهمين وضباطاً…«. لطالما رأينا هذا الروب المزخرف على افرادها. سيكون عبد الناصر لذلك في هذا الثوب الذي امتازت به طبقته، لكن الأمر لا يتوقف هنا فهذه سيرة عبد الناصر الفتي والشاب تخضع للتنقيح الطبقي عينه. ليس مناسباً للحاكم والرئيس والزعيم المستقبلي ان يجر وراءه سيرة ضنك وبؤس وما يلحقهما من ضيق وقذارة وحاجة. لقد انتهت السيرة الفلاحية لجمال حسين عبد الناصر الى الأبد. هذه السيرة وبدون تفاصيل كانت متواترة في بدايات الثورة وبدايات صعود عبد الناصر وظلت متواترة بعد وفاته. كان عبد الناصر إبن الفلاح وابن الصعيد هو ابن الشعب المصري وابن همومه وآلامه. هذه الرواية التي كانت ركيزة في الاسطورة الناصرية طارت الآن. من يعرف مصر ومعيشة المصريين يعرف ان هذه البيوت المهواة الواسعة نسبياً، الموزعة الى مرافق مختلفة، الحاوية صالونات ذات كنبات نظيفة مرتبة هي بيوت الطبقة الجديدة. يعرف ان اللباس الغربي بالطقم والكرافات كما يرتدي اعمام عبد الناصر هو »للبهوات«. ان الأعراس والمآتم في السرادقات ليست للفلاحين وأبناء الفلاحين. لقد تم تنقيح طبقي أقرب الى الخيانة، لكن تنقيحاً كهذا لا يجرح فقط اسطورة عبد الناصر بل كل اسطورة الثورة المصرية. الكعب الفلاحي ذو وجود فقري في اسطورة هذه الثورة كما هو في رواية عبد الناصر. الذين أعادوا هذه الرواية بمنطق ونظر الطبقة الجديدة يجازفون بتجويفها تماماً. ماذا سيكون عبد الناصر ان لم يكن ابن فلاح؟
يعتد صانعو الفيلم بأنهم دخلوا الى بيت عبد الناصر وحياته الشخصية. هناك قصة زواجه وعلى طريقة الافلام المصرية. هنا كان علينا ان نرى عيني عبد الناصر معلقتين بالفتاة التي تسمرت في مكانها ولم تتحرك الا بصعوبة، لتتوقف في ركن غير قادرة على مفارقة عيني عبد الناصر المعلقتين بها. حب من النظرة الاولى »صعقة الحب كما يقول الفرنسيون«، بالاضافة الى المونولوغ العاطفي الذي أداه امامها. لحظة للرمانطيقية كما يقال. لكنها المرة الأولى والوحيدة التي نرى فيها عيني عبد الناصر تلمعان بهذه القوة، لن نحظى بنظرة كهذه في كلّ تضاعيف المعاناة الكبيرة التي اجتازها فيما بعد. سنراه باستمرار جالسا (حين يكون جالساً بالطبع) مائلاً إلى الطاولة بلا نظرة واضحة على الاطلاق، يكسبه هذا الانحناء الى الطاولة الذي يصر عليه المخرج ويكاد يلازمه بالاضافة الى الصوت المنخفض مظهراً غير واضح، ليس مظهر الرئيس بالتأكيد ولا مظهر الحاكم ولا مظهر الصديق، انه يمنحه انفصالاً نسبياً اكثر مما يمنحه سلطة وهو فيه اقرب الى المعلم والمبشّر المسترسل في ما يشبه مونولوغات سياسية. هي الحال نفسها في اجتماعاته، انه دائما بالجذع المنحني والصوت الرتيب اللذين يبقيان بالنظرة ذاتها والردود ذاتها موحيين بانفصال وبمقام اقرب الى المعلم او الحكيم منه الى الحاكم والرئيس. لا أعرف اذا كان هذا المظهر العُلوي هو صورة صانعي المسلسل عن القائد وقد دخل في الأسطورة.
بعد التنقيح الطبقي والتنقيح الشخصي هناك التنقيح السياسي، لا ننتظر بالطبع نزولا عن الأسطورة، لكننا على الأقل لا نتوقع التفافا على كل المواجهات التي خاضها حكم عبد الناصر، فالرواية الزهرية قلما تتحمل الصعوبات، هكذا يعاد تمهيد كل شيء فيبدو المسار سلساً وأنيساً. لا صراع على السلطة بالطبع فمن ولد رئيساً لن يصارع ليصل، اما الصراعات داخل النخبة الحاكمة الجديدة فستمر بلطف وكأنها لم تكن. سيمر كل شيء باللطف نفسه حتى هزيمة .٦٧ لا داعي لنبش الخصومات لا داعي لاتهام أحد. من الأفضل تدوير الصراعات التي أطاحت بأكثرية مجلس قيادة الثورة، اما الصراع مع الاحزاب والمثقفين فيوضع في خانة أخرى ولا يثير أي سؤال جوهري. كل ذلك او جزء منه صار في الأرشيف. لا يمكن بالطبع الا في مسلسل زهري ان تمر بخفة على حبس كل المثقفين المصريين تقريباً اعواما وأعواما طويلة، لكن المسلسل لا يريد ان يعكر بغمام كهذا سعادتنا بالثورة. يمكن بالطبع ان تبدو حرب الـ ١٩٥٦ في رؤية ما نصرا مظفرا وليس مطلوبا بالطبع ان نرى هنا بوادر الـ ،١٩٦٧ ففي القصص الشائق يمكن ان نخترع او نعدل. الرواية تنتصر على التاريخ، كل هذا من الفن فالفن لا يلتزم بالضرورة بالوقائع. هذا فن لكن اينه في البطل المنحني دائما على الطاولة والمتكلم من فوق السحاب »لا اقصد مسرحية اريستو فان لكن ذكرها في محله هنا«. الرواية تنتصر على التاريخ. هذا صحيح خاصة عندما يكون التاريخ غير واثق من نفسه، لكن هزيمة حزيران ليست شيئاً يمكن ان نحيله او نمر عليه بأجنحة الملائكة. المسلسل الذي نبش في طفولة جمال عبد الناصر يتنكب عن ان نبش في هزيمة حزيران أمّ تاريخنا الراهن كله، تحقيق المسلسل التاريخ لا يلزمه »للعجب« بأن يخوض في تفاصيل حرب حزيران التي لم تعد سراً، لا داعي بالطبع، في المسلسلات الزهرية، لفتح صندوق باندورا واثارة الاشباح وفضح العار، لا التقصير الذي سبق الحرب ولا القرارات الطائشة ولا الصراع بعد الهزيمة، لا اتهام لأحد، لقد تم غسل الهزيمة وتبييضها. انها تحصل في المسلسل كأنها لا تحصل، قدر فحسب. حتى انتحار المشير يتم تمويهه، ليس الا ما نشرت جريدة عن »وفاة« المشير. الرواية تنتصر على التاريخ. انها هنا خلاص من التاريخ وما ينتصر ليس الرواية بل السذاجة بل والمحافظة والتقليد. انه الرئيس كما تراه عائلته والتاريخ بحجم عائلي. عفا الله عما مضى، الرئيس والعائلة يسامحان على كل شيء. عفا الله عما مضى، انها طيبة ولياقة حقيقية لكن شيئاً آخر هو الذي يصنع الأفلام، شيئاً آخر هو الذي يقرأ التاريخ.
السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى