صفحات الحوارمرح البقاعي

مرح البقاعي.. ومشنقة الياسمين ! حوار لاهث مع طقلة دمشق الأبدية في هروبها عبر مدن العالم

null
جهاد صالح

هي أكثر من أنثى، وأكثر من ذات إنسانية.. ربّة من أوغاريت، لاتشبه إلا نفسها، حكاياتها مرايا للعابرات ولجرح آدم في تفاحة الغواية والتمرد على الآلهة، وهي سمكة ما زالت تبحث عن جدول ماء ونهر لايموت في لوعة العطش وبحر يرتشف الحبر من دوران الأرض وصيرورة الحرب والسلام. طفولتها لاتكبر أبدا فقد خلّفتها وراءها في أحياء دمشق المتكئة إلى جادة ياسمينها والقمر، دمشق التي ما زالت تفترش الانتظار كل صباح أملا بعودة طفلتها، المهاجرة المغرّبة، مع أول سنونو وآخر نسمة حرية.

تمتطي صهوة الريح والزمن، في سلالها قصائد وأقلام ملوّنة، كتبت في ذاكرة التاريخ منحوتات نارنجية : (الهروب إليه 1987 – وجه النار الآخر 1988 – ماء ولغة 1989 – جولييت تنهض من قبرها  1991 – وآخر عناقيد العنب الشعرية كان باللغة الانكليزية وهو ( 0 ) في فلسفة جديدة وتقمّص حياتي دفع بها إلى عوالم سريالية دون أن تكشف لنا عن سرّها الكبير!

إعلامية وصحافية توقع في السياسية والاجتماع والفكر، أسّست مجلة \هاي\ للتبادل الثقافي في واشنطن، وتسير بخطوات واثقة في اتجاه بلورة حوار ثقافي بين الشعوب، في ظلال الحداثوية ودورة العصر، بعيدا عن أصولية متزمتة وشعواء.

تعمل حاليا أستاذة لمادة الإسلام المعاصر في جامعة جورج تاون بواشنطن، ومستشارة إعلامية في منظمة فايتال فويسز العالمية.

للشعر والقصيدة والنص زمن وتاريخ في قواميسها وشخوصها الكليمة، فالذاكرة تنزف وطنا وحرية من أوراقها، ولا ملح يداوي صرختها سوى القصيدة المسافرة بأجنحة العالم دون رقابات وغيوم سوداء.

من وراء الأطلسي أعلنت عن موتها في حمأة وجوديتها المشبعة، وأوصت العصافير أن تحرق جسدها ليسجّى رمادها في جرّة فخارية ستستقر على أحد الرفوف في متحف الشعر بواشنطن، في خريف ميتافيزيقي ما! إنه موت مجنون وسرمدية صلصال دمشقي وماء بيروتي ينتهي داخل جرّة! هو الوطن النهائي في حياة كانت بلا وطن.

في شرق يتوه عن شعرائه، وفي زمن آثم، يغتال فيه الإنسان في صميم بياض الإبداع فيه، تفتح الشاعرة السورية الأميركية مرح البقاعي قلبها، وتفرش أوراقها على رصيف الحبر، لتسرد لنا حكاياتها في معبد الكتابة وطقوس الاحتراق، ولتزيل في وضح النهار غبار المتراكم عبر السنين، وهلوسات الإثم والخطيئة واغتيالات الكلمة. من هنا كانت الصرخة والحديث والإستشراف الروحاني الحرّ والطلق، في شفافية مرتجلة حطّمت الصمت، فكان صوتها عاليا وأكثر جلجلة :

* هل نجحت الغربة أن تأخذك في أثوابها فأصبحت أسيرة عوالم المهجر دون أن تفكري بالعودة إلى الوطن حيث التربة والجذور الأولى؟

مرح: بداية، أنا لا أأتلف ـ لغويا ـ مع لفظة “المهجر” التي مصدرها الهجر، وهو فعل مضاد للوصل؛ بمعني أنه لا يمكنني إلا أن أتواصل مع الأرض الأولى حيث مسقط الرأس، أو منبته، لافرق؛ هناك حيث مساحة الولادات المتكررة التي شكّلت مساري الحياتي بوجهيه، النفسي الغادق الشاعر، واليومي العملاني الإجرائي. ومن هذا المنطلق الاجتهادي، أسمي نفسي”مغادرة” لا “مهاجرة”، مغادرة برسم العودة المؤجلة.

الأرض الأولى أضحت، من مكاني الذي أنتسب إليه الآن، شريطا دراميا من صور الطفولة الراجفة، بدءا بمزارع التفاح والدرّاق في جبال مصيف بلودان العريق حيث اختبرت رعشتي الأولى وقصيدتي الأولى أيضا، مرورا بمشهد الطابور الصباحي الطويل واليومي على أبواب الفرن الذي يقابل شرفة بيتنا في حي المهاجرين، هناك حيث نبتت أشواك وعيي السياسي المبكّر بحقيقة اعتلال الحياة المدنية في دمشق ورجاحة كفة “العسكر”، حين كنت أشهد الوقفة المذلة لأهل الحي، سيدات وشيوخا وأطفالا، على أبواب المخبز، بانتظار الحصول على ربطة من الخبز، في حين يتمكن سائق سيارة جيب عسكرية، تتوقف بعصبية استفزازية على الرصيف، من اختراق صفوفهم في برهة، ليأخذ المذكور خبزه فورا، متجاوزا كل المنتظرين، بحجة ضرورة إسراعه للالتحاق بمهامه العسكرية، والتي كانت، في حقيقة الأمر، مهام أمنية بامتياز! وصولا إلى مشهد جهاز “الهاتف الأسود” الضخم والمرموق الذي كان يتربع في صدر غرفة جلوس العائلة في منزلنا الدمشقي، ذلك الهاتف الذي كان أبي يحظّر علينا استعماله، لأي ظرف، لأنه ببساطة ملك للدولة التي ائتمنته عليه لتصريف مهام الأمن العام الذي كان يديره ـ طبعا هذا في زمن كان الأمن فيه مسخّرا لحماية المواطن وتأمين سلامته على أرضه، لا للتجسس عليه وترهيبه واختلاس خصوصيته. هذه صور تتشبث بجدران الذاكرة الرطبة عن بلدي، أدوّرها كل يوم في رأسي حتى لا أبتعد، أو تبتعد.

* ما الذي تخفيه الشاعرة مرح بقاعي في حقائبها؟ هل هي  قصاصات ممنوعة، أم أمل بمستقبل أبيض؟

مرح: أنا بطبعي لا أجيد لعبة التخفّي، وحقائبي دائما مفتوحة للريح والمصادفة، مشكلتي الوحيدة أن “رئتيّ أعرض من هذا الهواء” ، وأن اللغة تضيق بي أحيانا فألجأ إلى اللون لأعبر من خلال صمته العريض عن شهقتي، نشوة أو تعبا. خط الزمن موصول في ذهني، فأنا لا أؤمن بالمحطات الرتيبة بين الماضي والحاضر والمستقبل، بمعنى أني  متصالحة مع تاريخي ولا أشعر بالندم على هفواتي، بل أستدعيها لأتعلم من ثغراتها أن أسدّ الثغرات؛ أما الحاضرفهو، بالنسبة لي، مواجهات يومية، وحوار لا ينقطع مع المحيط الضيق، والعالم الأوسع؛ والمستقبل أراه أشبهَ بخلطة معقّدة، تشكلها عوامل متناقضة، وتتداخل فيها مؤثرات الزمن، والفرص، والمجهول، ليشكلوا خالة هشّة وغامضة أرفض التعامل معها، لذلك فأنا لا ألجأ ـ منهجيا ـ إلى إجراءات برمجية رتيبة، بل إلى  التأصيل فيما هو قائم ، توازياً مع التحفّز الرشيد لمجاهيل الآتي.

* الشرق يتوه عن مثقفيه ومبدعيه لطغيان ثقافة الإقصاء والتعتيم وكم الأفواه، في حين نجد الغرب البيئة الصحية والحاضنة الملائمة لأن يكتشف المرء ذاته  في مناخ من الحرية والمشاركة. ما قولك في ذلك؟  .

مرح: كتبت وقلت وأقول مجددا إن حال المثقفين العرب اليوم من حال ثقافتهم؛ فهي، بحكم سيرورة الشرط المعرفي، زائغة، مقموعة، هاربة، منفية، متناقضة، خائفة، مترددة، انتهازية في الأغلب الأعم، وفردانية المذهب في القليل النادر.  لكن هذا كله لا يحول دون وجود مسلّمة التغيير والتجديد الثقافيين كحالة قائمة وممتدة الجذور في دراما تتابع الأجيال، لكنه، ولسوء الطالع، ليس ملموسا أو عضويا حتى الآن، بل هو عبارة عن حالات أشبه ما تكون بالبوارق المجرّدة المحدودة وغير المؤثرة في الواقع الاجتماعي والسياسي وذلك كما كان عليه الحال في الستينات والسبعينات من القرن الماضي حيث كانت الحركة الثقافية العربية منتعشة بتواتر الأفكار والمناهج والتيارات السياسية والثقافية على اختلافها.

إن تراجع نفوذ المثقف بشكل عام، بات ظاهرة عالمية، خصوصا بعد تصدع الأيديولوجيات الكبرى وانهيار الأنظمة الشمولية المتمثلة في الاتحاد السوفييتي السابق وكتلته الاشتراكية داخل أوروبا الشرقية وخارجها، وكذا إثر تقدّم العولمة الاقتصادية التي تفرض قيمها وإعلامها ومفاهيمها الثقافية المتصلة باقتصاد السوق وسحر متطلباته. والمثقف العربي ليس في نجوة من هذا الواقع العالمي، لكن الثقل مبهظ عليه بأضعاف مسؤوليات غيره، ذلك لأنه يعاني أصلا من قمع “رسمي” مزمن، ومن غياب الديموقراطية والحرية، ومن فرصة إقامة حوار نديّ ومتكافئ مع أصحاب القرار، هذا فضلا عن انعدام فرص إشباع حاجاته الأساسية، الأمر الذي أدى إما إلى تقويض جهوده وأحلامه، وإما إلى جعله عرضة للسجن والنفي والتهديد، أو، وفي أسوأ حال، اضطراره للتنازل عن مشروعه كاملا مقابلا للقمة عيش.

أما خارج مجتمعه الممزق، فالمثقف العربي فرد منتج وفاعل. إنه يشارك بحيوية إبداعية في المعارف الكونية التي تضخها مركزية الحضارة الغربية الحديثة، وهو أصلا الذي يضفي حضورا مكمّلا على معارفها المتحركة وذلك بامتحانها، والمشاركة في معترك أنساقها ومناهجها، وبتشريحها ونقدها، ثم بإعادة إنتاجها، وبشكل مستقل ومتكامل مع ما يجري في محيطه التاريخي وفي مناطق أخرى من العالم.

يبقى أن يمدّ هذا المثقف العربي المقيم في الخارج نفوذه الحرّ والحيوي إلى داخل مجتمعه الكبير ليسهم في عملية التغيير، ذلك أن الثقافة التي لا ترتبط “عضويا” بمن ينتجها تتغرّب أيضا حتى عن محيطها المباشر، فكيف بالمحيط البعيد عنها!

*  تعاني الحالة الثقافية في سوريا من واقع هيمنة لغة الجلاد على لغة المجتمع، ورغم كل ذلك وجدنا ونجد أقلاماً سطرت في خضم التوحش ومن وراء القضبان حكايات وقصائد تنحني بخشوع أمام قدسية القضية والوطن. ما قولك؟ وأين أنت من كل ما يحدث؟

مرح: صدّقني إذا قلت لك إني أشعر بالأسى لعزلة هذا الجلاد، عزلته عن شرطه الإنساني أولا، لأن النفس البشرية لا تحمل بفطرتها كل هذا القبح والغضب والتشفي الأعمى! ذاك الجلاد يحتاج إلى عيادات نفسية متعددة الاختصاصات يتردّد عليها بانتظام ليعالج عاهته الأخلاقية أولا. هذا الجلاد ضعيف جدا، أضعف من جنين ولد بنصف قدم ونصف قلب. والمثقف السوري كان دائما “يتحايل” على هذا الضعف المكتسب في جلاده، الضعف الذي لم يكن ليزيده إلا اندلاعا فكريا، وتوثبا إبداعيا؛ وأبرز قامة ثقافية تمكنت من “ليّ” ذراع هذا الجلاد، الكاتب المسرحي والمفكّر السوري سعد الله ونوس. فالمتابع للمسيرة الكتابية الإبداعية لونوس، كعلامة من علامات الثقافة السورية والعالمية أيضا، يدرك تماما مدى العجز الذي كان يعاني منه الجلاد أمام قامة فكرية من هذا الحجم الانتشاري، عمقا وعرضا، ويدرك تماما أن الذي يعزف على عصب مزامير الأفراد ليس تماما كالذي يعزف على خشب عصى السلطة.

* برأيك هل الشعر والشعراء كائنات خارج مدارات الطبيعة لرهافة حسهم وشعورهم الإنساني كما يراه الآخرون المختلفون عنهم؟ فلكل مبدع طقوس هي جنون تلازم  نهاراته وتتشبث بأذياله في كل الفصول، هل لك أن تضعينا في لون طقوسك وفصولك الشعرية؟

الشعر في إيقاعاته هو نبض عصب واهج، وهو انتباهة الروح إلى عوالم قد تتّسع وتضيق قياسا إلى حجم فكرة. يبدأ الشعر عادة بومضة، إلا أنه لا يتبلور في قالب القصيدة إلا إثر نحت لغويّ و بيانيّ بليغين في جسد النص؛ وهذا الفعل، اللغوي والحسيّ في آن، يتطلب تنقيبا في أوراقنا المعرفية والثقافية من جهة، وسبرا حسّياً عميقاً لمخزون اللغة ومكنوناتها البلاغية والبيانية بما يخدم دفق السيالة العصبية للقصيدة، ويحدد مسارها البياني. العملية الشعرية قد تكون مرادفة، من حيث نزوع الطاقة والتأهب، لعملية الحب.. فكلاهما يهاجم بؤرة التوق فينا، وكلاهما يثمر حزمات من الضوء والرؤى التي لا تُحد.

الارتباط بالكتابة الشعرية يكاد يوازي المرجعية إلى الحبل السريّ بالنسبة لي. فالقصيدة رجّة تدهم  السكون وتنشر نسغها في أصابع الشاعر. وحين تثبت الرؤيا وتنفلت القصيدة، يبدأ العدّ التنازلي لتوليد الكلمة من رحم المعنى . ولأنه كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة، يأتي الفعل الشعر ليضغط الكلمات في سبيكة من المقاربات والتقلبات الحسّية والنفسانية المديدة.

*ما بين دمشق وبيروت قصص وحكايات وأساطير وملاحم مسافرة، والمبدع بينهما يرحل في عشق زمني ومكاني ليرسم لنفسه تاريخ في عوالم الأدب والشعر. هل للمدينتين من أثر وهمس في أوراقك وأنفاسك الكتابية.

دمشق هي سبحة قديس يثرثرها قلبي حبةً من ماء وحبةً من لغة. هي صفصافة الشرق الحزين، وعشّ لأفراخ القمر. هي مشنقة من ياسمين وانجرار في خوابي العسل. هي أزقة باب توما الضيق والحميميّ كرحم. هي اندلاع الأطفال على بوابات المدارس بصراخهم السيمفوني الطريّ! لي في دمشق حكايا من التعب المجلل بفرضيات الحب، ولي الكثيف من النوستالجيا العالقة في غبار الجمجمة، ولي ضباب من رخام يتمدد في صمته جسد أم لم أشهد حتى طقوس موتها!

أما بيروت فنمنمات “الأزرق” الشفيف يستقبلك بشبق عاشق ملدوغ حالما تجتاز البرّ السوري المدجج بكوابيسه الأمنية التي تنشر على طرفي الطريق المزروع بالعسكر ومهرّبي السجائر، وزجاجات الويسكي، ومركّبات الهذيان الأخرى! بيروت مخمل الحكايات، وباقات الزعتر البريّ، وصخرة الولادة، وشهوة الصبح حين تبكّر في الجنس يضرّج المكان بماء الفاكهة، هي مسار الشهقة، ووتر الاستجابات، وغيمات الذين ذهبوا في الريح والسؤال. وبيروت أيضاً هي اشتقاقات السياسة، وهلوسات الطوائف، والنافل من العسكر ومن المتحاربين الجدد. وبيروت ترتيلة فيروزية عتيقة تلاحقني بإمعان في انشداد العصب: “إذا يا حبيبي الأرض مدوّرة/ رحنرجع نتلاقى يا حبيبي/ نتلاقى بالفيّ / بضو القنطرة/ إذا ياحبيبي الأرض مدوّرة”.

* في زمن ليس ببعيد كانت بيروت تبكي ومقاهيها ترثي نفسها وذكرياتها في لحظة مغولية، استبيحت الحياة، تحت سطوة أصحاب القلوب السوداء ونجوم الليل، فأغتيلت الأيام وتلوثت الحمراء وجرحت الكلمة في الصميم .. ما زالت بيروت تنزف كبريائها ، فهل من ملح يداوي. ومتى يتوقف نزيف الجرح؟

مشكلة بيروت، وسرّها أيضا، يكمنان في تناقضاتها! لا يمكن إعادة بيروت من لجّة الجنون إلى جادة العقل إلاّ من خلال جنون موازٍ، وهذه ليست طبيعة العواصم الاعتيادية، بل هي مقادير فعل الحب والحرب في مدينة استثنائية في إقليمها، هي أقرب إلى نصف عاشقة نصف انتحارية.

* ديوانك الشعري الأخير والذي صدر باللغة الإنكليزية سميته (o).. ما السّر في ذلك، وماذا تبغين من ورائه؟

الاسم تحدّر من عنوان إحدى قصائد المجموعة وهو” آه” بالعربية؛ والحرف “O” بالانكليزية يكتب بشكل دائرة، التي هي المعادل التشكيلي للرقم 3 ـ ” الثالوث” ـ  رمز الكمال في الحضارات القديمة.  إنها، أعني الدائرة، الرمز الكوني للحركة، فالكون يتحرك في دوائر لا تنتهي، والصوت الشعري ليس سوى دائرة في  لجّة تلك الدوائر.

جاءت المجموعة في 28 قصيدة كتب بعضها باللغة الإنكليزية مباشرة، على سبيل المثال، قصيدة “كامب أكس ري” Camp X Ray، التي هي مقاربة بين علاقة عشق خانقة، وبين ما يدور خلف أسوار معتقل غوانتانامو في زمن الحرب والحب. فبعد الولاء الأعمى لدم العاشق تسجّل امرأة غونتانامو اعترافاتها: “أزحف عارية السريرة/ على جمر من حَجَر خطيئتك والكَرب/ عليك أن تواجهها/ ساطعاً وعالياً/ لتسمعك على الأقل/ كل الضباع العطشى/ لقد انتهكت حقوقي في مبارزة عادلة/”…. قصائد أخرى نقلت إلى الانكليزية من مخطوط  مجموعتي الخامسة باللغة العربية والتي تحمل عنوان” وأفئدتهم هواء”، والتي ستصدر قريبا عن دار نشر “الوارف” التي أسستها هنا في العاصمة واشنطن.

وللتعريف النقدي بالمجموعة”O” ، أستعير اقتباسات لقراءة “الآخرون” لنصوصها،  فالدكتور ستيفين ليفينغستون أستاذ علم الاتصال في جامعة جورج واشنطن، وكما جاء على غلاف المجموعة، يسجّل: “بشخصها الحازم، الجلي، والحاد الذكاء، تكشف مرح البقاعي النقاب، بواسطة كل اللغات التي تجيدها، ومن خلال القصيدة، عن العوامل السياسية والطائفية التي تدير الحوار الأحادي الطرف للتحدّي الأصولي في الشرق الأوسط”.

أما الشاعر أحمد فرحات فكتب في جريدة “أوان” الكويتية يقول:”من قلب المجتمع المعلوماتي، والاقتصاد المعلوماتي، ولهاث المفكرة الإلكترونية فيها، وفي ذاكرتها، تولد قصيدة الشاعرة الأميركية من أصل سوري مرح البقاعي.. تولد هكذا مضمّخة بالفطرة الأولى.. بالكينونة الأولى.. الكينونة المهاجمة، المتغيرة، المعزولة والعازلة، والمتلبسة لكل ما هي عليه في جهاتها.. ناسجة أيضا، وبقوة، فرجتها العميقة والمدفوعة بمجهول الأسباب ومعلومها”.

ودوّنت المستشرقة والصحافية الأميركية جين يانغ في قراءتها للمجموعة:” نصوص البقاعي هي خلطة شعرية فريدة من الغوص، وبلا حدود، في الحلات الشاذّة من هذا العالم! هي تشقّ بمبضعها مواقع حساسة في العقيدة، والجنس، والهوية، كاشفة عن حُميات الظلم والنفاق اللذان تعاني منهما الإنسانية اليوم.

* كيف تقرئين خريطة الشعر العربي في الولايات المتحدة؟

الأدب العربي في أميركا تحكمه معضلتان: الأولى تتعلق بالتقصير في الترجمة ونقل الأدب العربي إلى الإنكليزية، والثانية تكمن في منطق السوق الذي يعتمد بشكل أساس على “الترويج” للبضاعة – حتى لو كانت منتوجا فكريا خالصا- ، وهذا يتطلب زخما دعائيا، ويخضع أيضا لقانون العرض والطلب.

ولا ننسى هنا أن الإقبال على قراءة الشعر يشهد تراجعا ملحوظا على مستوى القارئ العالمي، وذلك نظرا للتغيرات البنيوية الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، ناهيك عن موجة النزوع  إلى الوجبات الثقافية السريعة بعيدا عن منطق الكتابة الشعرية الرصينة.

أعتقد أن التاريخ هو محصلة للجغرافيا بامتياز. ما أقصد هنا أن الانتقال في الأمكنة يعزز تواصلا متتابعا بالثقافات العالمية، ويثير شهوة التعدّدية المعرفية، ويؤدي بالمحصلة إلى شحنة عالية من تراكم ثقافي ومعرفي يغنيان بيئة النص الأصلي بإشارات ومعادلات ذهنية تسيربه من دائرة المحلية لتدخله بوابة العالم.

* ايقاعاتك تشدقت في ” وأفئدتهم هواء” ـ مجموعتك الجديدة التي ستظهر قريبا باالغة العربية، حيث رفعت صوتك عاليا بوجه سياسات الإستبداد ، وغرزت قلمك ما بين عيون الأصولية المتكاثرة بشهوة مارقة. هل على المرأة الكاتبة أن تسير وتحطم هذا الثالوث المحرّم في عرفنا الشرقي ؟

ثالوث (الجنس ـ الدين ـ السياسة) ليس من المحرمات على المرأة فحسب، بل هو أحد التابوات التي تعيق فعل الكتابة في الفكر والإبداع عند الرجل أيضا،. إنها آفة الفعل الثقافي عند الرجل والمرأة معا، طالما كلاهما مغرّبان عن شرط المواطَنة، بحقوقها المدنية والزمنية كافة، والتي تقرها الشرائع السماوية قبل الدولية. والمجموعة الجديدة ليست ببعيدة عن نهج اتخذته صراطا في مدوناتي الشعرية، وهو الكشف المبرّح عن أبعاد هذه الآفة بمسبّباتها، ونتائجها.

نصوص الكتاب هي مجموعة من المواجهات الشعرية لكل ما هو خارج  الانسجام مع العصر ـ الذي خرجنا منه جماعيا، قبل أن ندخل فيه، أمةُ ضالةً. والنصوص محصلة من استعارات للعقل والعاطفة معا، تعيدنا إلى الوارف البشريّ الذي غيّبته انتهاكاتُ الجلاد لدوائرَ نمارس فيها فعل الحياة والتعبيرعنها أيضا، في العمق والاتساع، كما يمارسها كل أحرار العالم.

* في واشنطن تنزلقين كسمكة في بحر الحياة لتتعلمي الجديد، في حين لم تستطيعي أن تتعلمي في حضن وطنك ما تريدينه أنت بحرية . ماذا أعطتك مدينة واشنطن؟

مرح: أنا لا أنكر المحصلة العلمية والفكرية التي اكتسبتها في دمشق، فقد نشأت وتخرجت من المدرسة الفرنسية، وأتيحت لي من فرص السفر والاتصال مع الثقاقات الغربية، وأخصّ منها الفرنسية والروسية والألمانية، ما ساهم في تشكيلي البنيوي الشعري بشكل لا يمكن إلا الاعتراف بمرجعيته. المشكلة في دمشق كانت في ممارسة ذلك الزخم الفكري الجامع، والذي امتدّ من تسعير ماياكوفسكي ورصانة تشيكوف، إلى شرور بودلير وجدلية كامو، ولم ينته بعبث ريلكة وطاغوت نيتشة، وهي بعض من محصلتي المعرفية؛ فحجم الحرية في مدن تضيّق عليك الأنفاس، وتحصيها عليك عيون أمنية تنتشر حتى تحت جلدك، ينسدّ عليك أفق التغيير والممارسات التجديدية، وتقصر يدك عن الامتداد إلى المبضع لمعالجة ذلك الورم المستشري، ولا تجد منفذا لتلك الحرية التي ترتد إلى نحرك إلا أنت تغادر جهة “الغرب”. وحين تقرر الذهاب “غربا”، مخلّفا وراءك تلك النفحة من الحنان التي لن تستعاد، تبدأ حيوات نبتت لقهوتها الصباحية مخالب! إنها القسوة المنظَّمة في مجتمع مبرمج و”سيستمايك” إلى حد تفريغ نقي الروح. مجتمع من “الأفراد” ذوي الاستقلالية المتعالية، تلتقي عيونهم سريعا في محطات المترو، ولا وميض. أفراد يملكون إرادة الخيار، وسلطة المعرفة، وغطاء الاقتصاد، وحرية لا يصدمها إلا مجاوزة القانون، لكن لا رعشة. أفراد في مجتمع مصلوب إلى ساعة من إسمنت، عقاربها تلدغ من يقسِرعن الدوران في سرعةِ عسفِ رحىً يومي لا يلين حيث الكل مشغول، بدراية وتركيز عاليين، في تصريف الأعمال والمهمات  بـ “مهنية” موصولة، قد لا تشوبها إلا انقطاعات غير متوقعة في سيالات العصب، الذي يزوع أحيانا عن إلحاح الآلة،  ليلاحق فراشة تحلق في محيط  من الزئبق. فجر رمادي ولا ألوان إلا ما تفرضها عليك مراكز التسوّق المبهرجة كبائعة هوى من الطراز الذي يقدّم على موائد أولي الأمر! أضواء تهاجمك، وبضائع تتحداك بجودتها، وبائعون مسعورون لرفع معدلات الاستهلاك، ولحفظ ماء وجه وجيب أمراء الحروب في وول ستريت! فجر راجف يجعلك تنكمش إلى جسدك وتطوي قلبك تحت معطفك حتى تكنّس عنذاكرتك أن لا يد دافئة ستمتد في الصباح لتوقظ ما تبقى لك من عافية بشرية.

بعد الذهاب، وحين تتحول فاطنا عن مورّثات البداوة، وتخلع عامدا غريزة الاقتراب، تتضاعف المسافات بينك وبين النفس، ويرتفع سياج من الكترونات خفية، تنخر في عظم روحك، مساء مساء، لتحيلها إلى زوبعة من التناقضات، والخشونة، والشك. بعد الذهاب، تصير اللغة الأولى نسغا في الدماغ، والحب الأول أيقونة، والأم المشققة جفافا من فراق الولد، تصير نبيا!

في مدينة الجمادات هذه، يختفي حفيف الأصحاب، وواصلو الرحم، ليرتفع أزيز العجلات المسرعة على الإسفلت الواشنطني السميك. هنا يتداولك الكل، ويكرّمك الكل، ويحترم خصوصيتك الكل، وأيضا، ينفيك عنه الكل!

أن تكون ـ بمحض اختيارك ـ  وحيداً و أعزلاً في مدينة كواشنطن، يعني أن تواصل الانجرار من عتمة نفق، إلى نفق، إلى نفق، حتى تتكسر أظافرك، وتضمر روحك، وينسد صمّام قلبك من نقص في دفق عسل الوصل.

فبعيدا عن المشهد ” الهوليودي” للمدن الأميركية، وقريبا جدا من أرضية الحياة اليومية هنا، تبدو واشنطن أشبه بـ ” معسكرات عمل” أدخل كل يوم دورتها اللاهثة، منتصبة كأفعى تغادر وكرها ” الأنيق” كل صباح، تشدّ بنطلونها الضيّق حتى يكاد أن يقبض على أنفاسها، لتبدأ مناوراتها في مضيق من الحديد البارد والمياه المالحة والدخان الأبيض.

وإذا سألتني لماذا أستمر بالعيش في الولايات المتحدة، وفي وطأة هذا العسف الروحي الذي أدّعيه، أجيبك  ببساطة وقوة: هذه البلاد ضمنت لي حق وحرية الاختيار حية، وميتة أيضا. فأنا كما اخترت مهنتي، وتشكيلة حياتي الاجتماعية، وتوجهاتي وانتماءاتي السياسية هنا، بإرادة محضة لا يحكمها سوى الحرية المسؤولة، فقد اخترت شكل موتي أيضا . فأنا من أصحاب طريقة حرق الجثة Cremation، إثر الموت، وهذه البلاد  الطافحة بالخيارات، تؤمن حرية اختيار الفرد لطريقة الانتقال من هذا العالم إلى عوالم أخرى، وأنا تخيّرت “صراط النار” لموتي، تماما كما اصطفيته نهجا لحياتي. وإذا سألتني عن قبري، فقد اخترته على الانترنت، وهو هرم أسود يوضع فيه رمادي إثر احتراق كامل. وإليك الرابط لمن يريد أن يطلّع على هذا القبر الاستثنائي:

http://www.perfectmemorials.com/dominion-pyramid-cremation-urn-p-136.html

أختم هذياني المديد هذا بترتيلة داوودية :”انفلتت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين، الفخ انكسر ونحن انفلتنا ”

وأرتل أيضا “ماء الذهاب” في  نص مثلث من مجموعة “وأفئدتهم هواء”:

ماء الذهاب

1

سَفَر

يدهمني الطريق/ في إلحاح رواحي/ بين صنوف الغوايات

أنجز المسافة/ رشْفا-/ من بئر المكان

يلدغني الكشْف/ حين أباغته/ بانسجام المفتعل طيشَه

*

هم رجال/ بعضهم نهارٌٌ/ وآخرون ذبذبات

وللضفة تاريخها /من العناصر

ولها كبرياء التصادم/ ولها اقتراف الورد

*

أقلم خطاي /وأفرد ضفائري/ جدلا

أتهذّب/ في استمالة الطائر /إلى فضاءٍ-/ وكر.

* * *

2

جزيرة

ملفوحةٌ بنزقِ الأزرق/ أُرجع الريحَ إلى غاياتها/ ثم أنتفضُ/ كأوراق شاعر

ينتابني وهنٌ /أو حنين/ حين يتداولني الماءُ/ غصةً / غصة

أجرُّ زعانفي/ إلى ما تسنّى /من رملٍ/ أو فاكهة/ فيكون:

صدرُك

* * *

3

جدل

مفتون بحمى الجهات/هذا الذاهبُ،/ ويتنشّف بريشة هدهد

أهي عتمة تلوذ بأصابعه/ أم هي شهوة ارتجال؟

كانت.. حكايته النذيرة/ كانت ذهب هذيانه العميم/ هي المدلهمّةُ حبا،/المكسورةُ من نبع

كلاهما يحاكيه/ امرأةٌ وبخورها

لكنه/ يدور/ يدور/يدور

درويشا-

تاخمه الحرير/ فانطفأ.

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى