صفحات مختارةغياث نعيسة

الماركسية والثورات: دراسة حول (الماركسية و – قاطرات التاريخ-)

null
غياث نعيسة
مدخل
تشهد السنوات الأخيرة عودة إلى ماركس وكتاباته ، باعتباره المفكر الأهم الذي لا يمكن تجاوزه في أية محاولة لفهم الرأسمالية كمدخل لمناهضتها. وتأتي عودة الاهتمام به هذه بعد نحو عقد من محاولات وضعه على رف التاريخ ، ليتم نسيانه مع هيمنة إيديولوجيا ” نهاية التاريخ” و ” أبدية الرأـسمالية” . و بعضها الأخر حاول ،في أحسن الأحوال ، تعليب أفكاره في دراسات أكاديمية وجامعية تنزع عن ماركس ونظريته جوهرها أي كونها نظرية الممارسة (البراكسيس).
لعل هذه العودة للاهتمام بالماركسية يمكن تفسيرها بحالة استمرار الفوضى العالمية (أو العولمية) الاقتصادية والسياسية للنظام الرأسمالي في بدايات القرن الحادي والعشرين.فقد نشرت صحيفة الفايننشال تايمز في 25 آذار/مارس 1998 مقالاَ يؤكد أن البيان الشيوعي “لماركس وانجلز وصف وضعاَ للاقتصاد العالمي يشبه ذلك القائم عام 1998 أكثر منه ذلك في عصرهما عام 1848”.
ترتبط عودة ماركس والماركسية بقوة، من جهة، بانكشاف أكذوبة “النظام العالمي الجديد” و ” الشرق الأوسط الكبير” على حقيقتهما مع اندلاع الحروب الامبريالية والمذابح الجماعية في منطقتنا وفي البلقان وأفغانستان والصومال ورواندا وفلسطين ولبنان و ….، وفشل ما سمي “بمعجزة” اقتصادات النمور الأسيوية ، و إفلاس الأرجنتين التي كانت تسمى بالتلميذ النجيب لليبرالية المتوحشة. و من جهة أخرى ، باندلاع حركات جماهيرية واسعة وعالمية ، كحركة مناهضة العولمة الرأسمالية ، وحركة مناهضة الحروب الامبريالية ، والإضرابات الواسعة في دول أوربا المتقدمة كفرنسا وغيرها ، والانتفاضات الجماهيرية في الأرجنتين واندونيسيا ..الخ، وانتصارات اليسار في أمريكا اللاتينية.
تناقض هذه الوقائع تماماَ الصورة المثالية التي يسعى دعاة الرأسمالية وإيديولوجيا الليبرالية إلى طرحها. فلم تقدم الرأسمالية ولا الليبرالية لا سلاماَ ولا رفاهاَ. بل يقدمان حروباَ واضطهاداَ واستغلالا وفوضى عالمية لا مثيل لها .
في الوقت نفسه ، لا تعني عودة ماركس ، في كل الكتابات المنتشرة هذه الأيام ، عودة متكاملة لأعماله. فهناك من يركز ويعترف بدقة تحليل ماركس للرأسمالية وتناقضاتها ، وهنالك قراءات أخرى ،أكاديمية أو شبه أكاديمية، ميتة ” تفقد النص روحه” حول الديالكتيك ، تعزل بعض الأفكار التي طرحها ماركس قبل أن تحنطها.
لكن ما تفتقر له اغلب هذه الكتابات هو الإشارة إلى القناعة الراسخة والواضحة لدى ماركس بالكمون الثوري والتغييري الأساسي للطبقة العاملة.
وإذ تشكل هذه الفكرة حقاَ حجر الزاوية في فكر ماركس وتحليله للرأسمالية ، فإنها تمثل بلا شك العلامة الفارقة للماركسية عن سواها من النظريات الاشتراكية للعديد من المفكرين قبل ماركس. لأن مضمون الفكر الماركسي يقوم على مقولة ” أن التحرر الذاتي للطبقة العاملة والمأجورين هو وحده الذي بإمكانه أن يقدم بديلاَ عن الرأسمالية”, لأن حركة الطبقة العاملة ، وفق ما ورد في البيان الشيوعي هي ” الوعي الذاتي والحركة المستقلة للغالبية العظمى من الناس في مصلحة غالبية الناس”.
مثلما لا تعني هذه العودة إلى ماركس بالضرورة عودة إلى التراث الماركسي الثوري. إذ يصعب، مثلاَ، فهم التطور الراهن للرأسمالية وعولمتها ، وأوضاع ” دول العالم الثالث” والنزعات القومية ، والانتشار الواسع للإصلاحية وأسبابها وجذورها ، وتحليل الامبريالية اليوم وغيرها من القضايا ، دون أن يمتلك ماركسيو اليوم وعياَ بأعمال مفكرين ماركسيين كبار مثل لينين وتروتسكي وروزا لوكسمبورغ وغرامشي وآخرين ، بالرغم من تمايزاتهم، ولكن باعتبارهم مكونات لكل موحد هو التراث الماركسي الثوري.
الجيل الشاب والجديد ذو المزاج الراديكالي ، ما يزال ينفر من بعض كتابات مثقفي الجيل السابق لعام 1986 ، التي تتميز –كتاباتهم- بالطابع الأكاديمي أو المعقد أو المحافظ ،أو بكل هذه المساوئ معاَ.
هكذا جيل شاب كان في السابق يجد، أحيانا، ، ملاذا له في الأحزاب الشيوعية والإصلاحية ، ولكن مع انهيار الاتحاد السوفياتي وأنظمة أوربا الشرقية ، وزيادة ضعف نفوذ هذه الأحزاب أو تفككها والتي يسود ما تبقى منها تشوش فكري وعملي واضحين. فان هذا الجيل الشاب الراديكالي إنما هو اليوم بحاجة إلى أن يلتحم بعلاقة حميمة مع الفكر الماركسي الثوري ومع نضالات المأجورين والمضطهدين ، لكي لا ينتهي به الحال إلى مجرد خوض تجربة ثقافية أو فكرية عابرة دون أدنى اثر اجتماعي يذكر لها.
وعلى أرضية الاهتمام بماركس والماركسية حصلت ، وما تزال تحصل، تجارب عديدة في العالم لإعادة تكوين َمجموعات يسارية أو ماركسية أو حتى تجمعات يسارية أوسع, لكن فشل اغلبها إن كان في مسعاها على صعيد تغيير الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية أو داخل الأحزاب الشيوعية أو في تجارب إنشاء أحزاب “من طراز جديد” ، أدى إلى تخلى الكثيرين من الناشطين فيها حتى عن فكرة “الاشتراكية” و”دور الطبقة العاملة” لصالح مفاهيم عائمة عن “الديمقراطية”. أو بقي البعض ممن يجتر مقولات ستالينية أو قومية-يسارية محنطة.
ما يطرح نفسه وبإلحاح في الوقت الراهن ، وهو ما يبرز من خلال النضالات والتجارب العالمية ، هو حاجة النشطاء والمناضلين إلى “شئ ما” يتجاوز أسلوب مجرد “لم شمل مجموعة من الأفراد” إلى “شئ ما آخر” يقدم لهؤلاء النشطاء والمناضلين رؤية إستراتيجية ونظرية وتربوية ، ويكون إطارا سياسياَ مفتوحاَ للأفراد ، وباعتباره كذلك يسعى إلى تجاوز الهويات الفردية من خلال دعمه وبنائه للنضالات. هذا الإطار السياسي (الحزب) هو ضرورة من اجل الالتحام بالحركات والنضالات اليومية لجماهير العمال والمأجورين والمضطهدين ، بأفق تغيير المجتمع. لذلك فان الفكر الماركسي الثوري ، ليس ضرورياَ لفهم العالم والتاريخ البشري فحسب، بل هو أيضا “مرشد للعمل”. فالنشاط العملي السياسي هو الذي يعطي الحياة للنظرية ، وبدونه لا قيمة لأية نظرية مهما كانت. وتطمح هذه المقالة للاندراج في هذا السياق.

هل أفل عصر الثورات؟

أدت ثورات 1989 إلى إنهاء عصر ، أشاعت خلاله الأحزاب الشيوعية-الستالينية- عالمياَ مقولة أن حركات الطبقة العاملة لا يمكنها القيام بالثورة الاشتراكية حتى يتم انجاز وتحقيق مهام الثورة الديمقراطية . بالرغم من ذلك ما تزال تتردد مثل هذه الأطروحات بالرغم من غياب البنى التي كانت تدعو لها سابقاَ . وللمفارقة التاريخية فقد حصل الشئ نفسه بعد ثورات 1848 وثورة 1905 . سنتناول لاحقاَ وبإيجاز بعض الدروس الأساسية لسلسلة من الثورات.
تتضمن مقدمة كتاب ماركس” نقد الاقتصاد السياسي” المقولة الأساسية التالية : ” لا تزول تشكيلة اجتماعية إطلاقا إلا بعد أن تنمو كل القوى المنتجة التي بإمكانها أن تستوعبها بأقصى ما يمكن ، ولا يمكن لعلاقات إنتاج جديدة وأرقى أن تحل محلها قبل أن تتوفر شروط الوجود المادية لهذه العلاقات ضمن المجتمع نفسه” . هذه المقولة تحدد الحقل السياسي، بمعنى انه صحيح أن البشر يصنعون تاريخهم التي تشكل الثورات قاطراته ، لكنهم يصنعونه ضمن شروط محددة ، لا يمكن تجاهلها . بهذا المعنى كانت الثورة الفرنسية عام 1789 آخر الثورات البرجوازية (الاجتماعية)، لأنها أجهزت على الإقطاعية سياسيا واجتماعيا ، وأحلت محلها نمط حكم جديد ونمط اجتماعي –اقتصادي جديد أيضا . بينما لم تكن ثورات 1848، التي شهدت بروز البروليتاريا كطبقة نشطة وفاعلة ، وما بعدها ثورات برجوازية بالمعنى السابق (بمعنى ثورات اجتماعية) بل كانت ثورات “ديمقراطية”، شهدت أشكال عديدة من الصفقات والتسويات بين الطبقات المالكة (البرجوازية والإقطاعية ..) على حساب الطبقة العاملة وفقراء الفلاحين . لقد فقدت منذئذ البرجوازية روحها الثورية.
في هذا الوضع (1848) لبرجوازية ” يقف وعيها في تعارض مع الشروط الموضوعية لبسط سيطرتها ” وفق تحليل تروتسكي في “نتائج وتوقعات” ، وطبقة عاملة لم تتوفر بعض شروط انتصارها ، فكما وصفها انجلز لاحقاَ في كتابه ” الصراع الطبقي في فرنسا” إن هذه الأحداث ” كشفت بوضوح أن حالة التطور الاقتصادي في القارة الأوربية لم تكن بعد ناضجة من اجل إلغاء الإنتاج الرأسمالي”. وبالرغم من ذلك فقد رأى ماركس أن ثورة برجوازية في ألمانيا تحققها البروليتاريا بالتحالف مع البرجوازية الصغيرة يمكن أن تنتقل إلى ثورة بروليتارية بشرط أن تخلق البروليتاريا نوع من ازدواجية السلطة تمنع البرجوازية من سحقها بمجرد وصولها إلى السلطة وحدد ماركس وجهة نظره هذه في خطابه الذي وجهه إلى العصبة الشيوعية في نيسان/ابريل 1850 ” عليهم (العمال) أن يبذلوا أقصى جهدهم لإحراز النصر الأكيد عبر توعية أنفسهم على مصالحهم الطبقية ، وتبنيهم بأسرع وقت ممكن لموقف حزبي مستقل ، وبرفضهم أن تحرفهم العبارات الخبيثة التي يرددها ديمقراطيو البرجوازية الصغيرة ولو للحظة واحدة، عن تنظيم حزب البروليتاريا بشكل مستقل. يجب أن يكون شعار نضالهم : الثورة الدائمة”.

حول الثورات البرجوازية الكلاسيكية

يسمح تاريخ الثورات البرجوازية الكبرى (القرنين 17 و 18) بإلقاء الضوء على سمتين أساسيتين للعلاقة الحديثة التي تربط مابين الثورة الديمقراطية والثورة الاشتراكية .
السمة الأولى ، هي دينامية التجذير والراديكالية التي تفعل فعلها في القلب من كل الثورات. فمن المعروف ، في كل هذه الثورات ، أن أولئك الذين يصنعونها لا يدخلون الصراع والمعمعة بوعي يقوم بالضرورة على فكرة واضحة هي الإطاحة بالنظام القائم. ولكن الأزمات الداخلية المتكررة للسيرورة الثورة هي التي يمكنها أن تضعهم وجهاَ لوجه أمام هذه الضرورة. وتشهد سيرورة الاستقطاب هذه انتقال العديد من الشخصيات ، بل والعديد من المنظمات السياسية، وبشكل مأساوي من يسار الثورة إلى يمينها ، أو الانتقال من المعسكر الثوري إلى المعسكر المعادي للثورة.
ودينامية التجذر والراديكالية هذه شهدتها الثورات البروليتارية مثلما شاهدتها الثورات البرجوازية.
السمة الثانية ، وهي السمة الاكثر وضوحاَ التي تفرق بين هذين النوعين من الثورات . إنها الاختلاف في الشروط الاقتصادية-الاجتماعية التي تميز كلاَ منها.
فالثورة البرجوازية هي التي تقوم في مواجهة بنى اجتماعية ما قبل رأسمالية. بينما الثورة البروليتارية إنما تقوم في مواجهة البنى الرأسمالية (الصناعية المتقدمة).
هذا الإطار الموضوعي للشروط الاقتصادية الاجتماعية يحدد بصرامة تخوم السيرورة الثورية . وهو الذي يضع حداَ لا يمكن القفز فوقه او تجاوزه حتى لأكثر البرامج الثورية جذرية.

بما يخص السمة الأولى ، توضح الثورتين البرجوازيتين الفرنسية والانكليزية إن تحالف الجناح الديمقراطي البرجوازي الأكثر جذرية فيها مع الجناح الجذري الشعبي للثورة ( مثل اللامتسرولون) إنما كان بالنسبة للجناح الديمقراطي البرجوازي هو نوع من التحالف مع الشيطان. وسرعان ما استدار الأخير لضرب الجناح الراديكالي الشعبي للثورة ، حيث قضى روبسبيير على اللامتسرولين وكرومويل على الجناح الراديكالي للثورة الانجليزية. ونتيجة هذا السلوك كانت متشابهة في كلتا الثورتين ، حيث أن الحكومة الثورية ، بفقدانها لسندها الراديكالي ، إنما تحولت إلى فريسة سهلة لأعدائها اليمينيين، وانتصرت الثورة المضادة.
أما فيما يخص السمة الثانية، فإننا نلحظ أن موقف ماركس وانجلز تطور مع دينامية الثورات. إذ كان موقفهما في بداية الثورة (1848) يقوم على أساس ضرورة “حث” البرجوازية من قبل قاعدة يسارية مستقلة والقيام بتنظيم الطبقة المستغلة باستقلال عن البرجوازية ، بهدف الضرب المشترك على النظام القديم . والإعداد لتحالف ديمقراطي يشمل البروليتاريا والبرجوازية الصغيرة والفلاحين يكون قادراَ على قيادة الثورة في حال تراخت البرجوازية وأظهرت علامات “برودة في قدميها”.
بيد أن موقف ماركس وانجلز تعدل وفق تطور ثورات 1848 . فقد أظهرت الأشهر الثلاث الأولى للثورة الألمانية أن البرجوازية غير حازمة ، ويجب دفعها إلى موقف ونشاط حاسم. لكن مع تطور الثورة ، تحولت البرجوازية إلى موقف مشلول ومائع. لتصل في “أيام حزيران /يونيه” إلى حالة واضحة تقف فيها كل الطبقات المستغلة بما فيها البرجوازية وغالبية ممثليها “الديمقراطيين” في صف الرجعية. عندئذ مال ماركس وانجلز إلى تبني موقف جديد وهو أن الطبقات المستغلة أي العمال والفلاحون هم وحدهم القادرون على دفع الثورة إلى الأمام .
لقد أوصل خداع البرجوازية الكبير بماركس وانجلز إلى موقف استراتيجي ينص على ” أن النشاط المستقل والنقدي للطبقة العاملة ، إن كان على صعيد القضايا التكتيكية أم المسائل النظرية تجاه البرجوازيين الديمقراطيين هو أمر جوهري”.
لقد دفع تطور الثورة إلى تفاقم الانقسامات السياسية داخل المعسكر الثوري على أساس الفرو قات الطبقية. هذه الاستقطابات دفعت ماركس إلى التركيز على أهمية التنظيم السياسي المستقل للطبقة العاملة ، مؤكداَ انه بمقدار ما يزداد الأخير قوة بقدر ما يمكن دفع الديمقراطيين إلى اليسار. وطمح ماركس إلى أن تزداد قوة الحركة العمالية لدرجة تسمح لها بالثورة ضد الديمقراطيين الليبراليين.
وتبلورت قناعته بأن هذه الثورة يجب أن تكون ثورة اشتراكية. هذا الأفق دفع بماركس إلى التوصل إلى استنتاج بان جهاز الدولة ليس جهازاَ محايداَ ، بإمكانه أن ينتقل من يدي طبقة إلى أيدي طبقة أخرى . بل على الطبقة العاملة أن تعمل على بناء جهاز دولتها الخاص بموازاة وبمواجهة جهاز الطبقات المالكة. وانه سوف تنبثق في الصراع ضد النظام القديم أشكال تنظيمية جديدة مثل “لجان الإضراب” و”هيئات مندوبي العمال المحليين” و”الاجتماعات الجماهيرية”. وفي ظروف النضال الملائمة سيتضمن هذا تشكيل ميليشيا عمالية مسلحة بما يمكن أن يتوفر لها. وقد أطلق ماركس على “منظمات مناهضة الدولة” اسم “المجالس الثورية المحلية” أو الحكومات العمالية الثورية” التي رأى أنها لا يمكن أن تتعايش طويلاَ مع الدولة البرجوازية دون حسم من هو الطرف المنتصر : تحطيم العمال للدولة البرجوازية ، أو سحق الدولة لهيئات السلطة العمالية.
وهكذا نرى ، وفق ما سبق، أن أفق الثورة الدائمة لم يكن أول من طرحه هو تروتسكي عام 1906 بل كان ماركس عام 1850 . هذه المقولة ـ أي الثورة الدائمةـ تعني وجوب طرح أفق استراتيجي من أجل استقلالية التنظيم الاشتراكي للطبقة العاملة ، ليس فقط منذ بداية الثورة فحسب بل ومنذ المرحلة التي يدعم فيها الحزب العمالي المطالب الديمقراطية ، بهدف خلق ازدواجية السلطة ومن ثم الثورة الاشتراكية.

مع انتهاء ثورات 1848 انتهت بشكل نهائي حقبة كانت فيها البرجوازية قادرة وراغبة على الفعل بصفتها طبقة ثورية.
لم تحصل بعد ذلك التاريخ ـ وفي كل البلدان ـ أية محاولة للبرجوازية لقيادة جماهير الشعب ، من خلال ثورة مفتوحة، ضد النظام القديم. هذا لا يعني أن البرجوازية أصبحت الآن مباشرة هي السلطة السياسية الحقيقية ، حتى في أكثر البلدان تقدماَ ، بل يقوم بهذا العمل ،اغلب الأحيان، موظفون و سياسيون وخبراء من الشرائح الوسطى والعليا.. يدافعون ويتفرغون لخدمة مصالحها العامة. كما أن غياب الإرادة الثورية للبرجوازية لا يعني أن الانتفاضات الشعبية ضد النظام القديم أصبحت شيئاَ من الماضي.

دروس ثورات 1848

قبل اندلاع ثورات 1848 كان ماركس وانجلز واضحان حول نقطتين . الأولى ، أن الثورة القادمة ستكون ثورة برجوازية، أي أنها ستقيم دولة رأسمالية سيكون شكلها السياسي ، في أفضل الحالات، ديمقراطي وجمهوري.
الثانية، انه يجب العمل على دفع البرجوازية نحو مواجهة حاسمة ضد النظام القديم. مع خشية أن تقوم الثورة البرجوازية ، بسبب القوة المتزايدة للطبقة العاملة ، بوضعها جانباَ هي والدولة الإقطاعية.
مع اندلاع الثورة رأى ماركس وانجلز أن الثورة في ألمانيا ستحصل “في أفضل الشروط المتقدمة للحضارة الأوربية ومع البروليتاريا الأكثر تطوراَ مما كانت عليه في انجلترا القرن 17 أو فرنسا القرن 18” ولهذا السبب فإنها “ستكون المدخل لثورة مباشرة لاحقة هي الثورة البروليتارية”.
وهكذا نجد في البيان الشيوعي الذي كتب قبل اندلاع الثورة انه إن كان على الطبقة العاملة ” أن تناضل مع البرجوازية في كل مرة تتصرف فيها بطريقة ثورية” إلا انه على الاشتراكيين ” أن يطرحوا، وبالشكل الأكثر وضوحاَ ، في صفوف الطبقة العاملة الوعي بالتناقض التناحري بين البرجوازية والبروليتاريا”.
بالرغم من هزيمة ثورات 1848 إلا أن نتائجها تحققت واختبرت خلال القرن التاسع عشر .
النتائج الأولى ، استمرارية الانتفاضات الشعبية التي شهدت ازدياد تجلي الوعي الذاتي للطبقة العاملة على صعيدي النشاط والتنظيم. وكان تتويجها في عام 1871 كومونة باريس التي ازدهرت خلالها ، ولوهلة قصيرة، أول ثورة عمالية ناجحة.وأضحت السلطة العمالية تطرح في كل الانتفاضات اللاحقة ، وقد حددت روزا لوكسمبورغ الموقف الماركسي من النضالات الجماهيرية من اجل الإصلاحات بربطها دوما –عبر المناضلين الاشتراكيين- بأفق الثورة البرليتارية ” لأنه بالرغم من تقليص برنامجنا ليقتصر على العمل من اجل الإصلاحات الاجتماعية والعمل النقابي المعتاد ، إلا أن الهدف النهائي للحركة لا يلقى به جانبا، لان كل خطوة إلى الأمام إنما تؤدي إلى ابعد من الهدف المباشر المعطى ، ولان الهدف الاشتراكي يبقى قائما كوجهة في التقدم المفترض” ( لوكسمبورغ، إصلاح اجتماعي أم ثورة).
النتائج الثانية ، هي استمرار محاولات البرجوازية ـ من خلال إصلاحات فوقيةـ في تطوير الأشكال السياسية للحكم والدولة بما يتوافق و الشروط الجديدة لتراكم رأس المال.

الثورة الروسية ودروسها، ستالينية الثورة على مراحل

كان موقف لينين الأولي حول الثورة في روسيا ،والذي عبر عنه بشكل واضح في كراسه “خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية”، هو أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في روسيا ليست متطورة بشكل كاف يسمح بان تكون الثورة القادمة في روسيا ثورة اشتراكية، وشرح في كتابه ” تطور الرأسمالية في روسيا” الآليات الكلاسيكية لتطورها في روسيا . وهو موقف متراجع حتى عن مواقف ماركس وانجلز منذ عام 1850. واعتقد لينين في الوقت نفسه أن البرجوازية الروسية من الضعف إلى درجة عاجزة فيها عن قيادة الثورة الديمقراطية ، لذلك يقع على عاتق الطبقة العاملة أن تقود الثورة لإسقاط القيصرية وإقامة جمهورية ديمقراطية . لكن موقف لينين اقترب كثيرا من موقف تروتسكي ” في أطروحات نيسان” وهو الموقف القائل بأنه من اجل أن تكون الثورة اشتراكية ، وليس-في أحسن الأحوال- مجرد اقتصاد رأسمالي وجمهورية برلمانية ، فمن الضروري أن تنتشر-أي الثورة- إلى البلدان الصناعية المتقدمة. وحدد تروتسكي وجهة نظره في كتابه “نتائج وتوقعات ” بان ” البروليتاريا تنو وتتضاعف قوتها بنمو الرأسمالية ، بهذا المعنى يكون تطور الرأسمالية هو تطور البروليتاريا في اتجاه تحقيق دكتاتوريتها . على أن توقيت انتقال الحكم إلى أيدي الطبقة العاملة لا يعتمد بشكل مباشر على المستوى الذي بلغته قوى الإنتاج ، وإنما على العلاقات في الصراع الطبقي وعلى الوضع العالمي ، وأخيرا على عدد من العوامل الذاتية كتقاليد الطبقة العاملة ومبادرتها واستعدادها للنضال …..إن التصور بأن قيام دكتاتورية البروليتاريا يعتمد بطريقة ما على تطور البلد المعني وعلى موارده إنما هو زعم من مزاعم المادية “الاقتصادية” التافهة “. وهذا التصور هو الأساس النظري الذي أنشأت على أساسه الأممية الثالثة. مثلما دافع تروتسكي عن مبدأ ارتهان نجاح وانتصار ثورة أكتوبر بانتشارها العالمي.
لقد اكتشف لينين عام 1817 ما سبق أن اكتشفه ماركس وانجلز في زمنهما ، وهو انه حتى في روسيا المتأخرة فان على الطبقة العاملة أن تقوم مباشرة وفي نفس الوقت بحل قضايا الثورة الديمقراطية والاشتراكية . وانه إن وجد نوع من “المراحل” في تطور وعي الطبقة العاملة عام 1917 فان هذا لا علاقة له بالشروط الاقتصادية الموضوعية للثورة الاشتراكية ، بل يتعلق بحقيقة أن العمال يبدأون المعركة بثقة بقياداتهم التقليدية التي تنزع إلى القيام بتسويات مع النظام الرأسمالي. هذا قد يؤثر على انخراطهم في البداية لكنه لا يضع حداَ لمدى التزامهم تحت تأثير النضالات الثورية.

لكن الستالينية قطعت الرابط بين إمكانية الثورة الاشتراكية في بلد من جهة وبين ضرورة النضال من اجل نشرها عالمياَ ، من جهة أخرى.
فاشتراكية ستالين في بلد واحد إنما ارتكزت على مقولة أن الدولة الروسية لوحدها بإمكانها إقامة المجتمع الاشتراكي ، وانتقدت تروتسكي “لاستخفافه بالفلاحين” .
وبالتالي فان أنموذج الثورة الذي نشرته الدعاية الستالينية في العالم الثالث هو أنموذج الثورة على “مرحلتين” . المرحلة الأولى هي الثورة الديمقراطية والتي يجب خلالها- حسب الأيديولوجيا الستالينية- أن تخضع الطبقة العاملة طموحاتها الاشتراكية الخاصة لمصلحة “تحالف واسع” يهدف إلى إنجاز الثورة الديمقراطية. وفقط بعد إنجاز الثورة الديمقراطية يمكن رفع المطالب الاشتراكية.
هذا الطرح الستاليني كان يعني أن الثورة لم تعد بحاجة للطبقة العاملة العالمية من اجل تحقيق النصر( في عصر الإمبريالية) ، وأصبحت الثورة الديمقراطية منذئذ قابلة للتحقيق عبر تحالف متعدد الطبقات للقوى التقدمية التي تعمل في بلد محدد فحسب. وهكذا أصبح مقبولاَ للاشتراكيين أن ينادوا بتحالف الطبقة العاملة مع “الأقسام التقدمية” للبرجوازية في الثورات القادمة.
لقد أدى هذا الطرح الستاليني إلى كوارث في صين عام 1921 واسبانيا 1936 من خلال إخضاع ثورة الطبقة العاملة لصالح البرجوازيين القوميين في الصين أو البرجوازيين البرلمانيين (الأحزاب الجمهورية)في إسبانيا. والنتيجة كانت ثورة مضادة ودكتاتورية في كلتا الحالتين.

هل التصنيع والتحديث ورأسمالية الدولة تعني الاشتراكية؟

إذا كان المشروع الأصلي لماركس وانجلز ما يزال صالحاَ ، وهو ” النضال من اجل مجتمع شيوعي حقيقي يكون فيه الأفراد متحررون من اللامساواة الطبقية ومن قمع الدولة” وهو في الوقت نفسه مجتمع ” يتجاوز ويرقى مستويات الإنتاج والاستهلاك التي تعرفها الرأسمالية ،لذلك فان ندرة المواد الأساسية سوف تزول فيه.. وسيشهد قيام شكلا جديدا من الحكم الذي سيحل محل بقايا أداة الدولة”.
لكن اقتصادات الدولة في ما كان يسمى بالدول الاشتراكية تميزت بسمتين متناقضتين. من جهة هي اقتصادات موجهة(التخطيط) بمعنى أنها لم تكن خاضعة للميل المتكرر لازمات فائض الإنتاج الذي تشهده الرأسمالية. ومن جهة أخرى، فان هذه الميزة كان يتم إهدارها من قبل إدارة بيروقراطية رديئة ، إضافة إلى توجيه الإنتاج لصالح تحقيق الاحتياجات الاستهلاكية للبيروقراطية الطفيلية. وهذا التناقض استند عليه طرح بعض اليساريين الذين يصفون هذه الاقتصادات بأنها “تقدمية” مقارنة بالرأسمالية “لأنها اقتصادات تخطيط” ، وإذا كان طرح بعض هؤلاء اليساريين نقدياَ فانه كان يضيف بان هذه الاقتصادات كانت تدار من قبل مستبدين وتعاني من تشوه بيروقراطي.
والحال، فان دينامية اقتصاديات هذه البلدان ( الاتحاد السوفياتي و أوربا الشرقية سابقاَ والصين وكوبا..) إنما يكمن في حقيقة إخضاع كل النشاط الاقتصادي من اجل بناء وسائل الإنتاج. وما يعنيه هذا من نتائج على كل الصعد.
لأن سيطرة اقتصاد يعمل من اجل بناء وسائل الإنتاج – في أي بلد كان- هو الذي يمكن أن يفسر الخلل الهيكلي والفوضى والهدر في كل مجالات الإنتاج. فان النمو الصناعي الذي نتج عنه بوتيرة سريعة ترافق مع انخفاض مذهل في منتوجات المواد الاستهلاكية والغذاء والسكن لغالبية السكان. وكان ثمن هذا التوجه هو سحق الوعي السياسي للطبقة العاملة لابتزاز الفائض منها ومن الفلاحين لتحقيق هذا التوجه الاقتصادي من خلال استغلال مضاعف . لأنه ،وفق فكرة ماركس ،”فان العمل الحي ليس سوى وسيلة لزيادة العمل المتراكم. أما في  المجتمع الشيوعي، فان العمل المتراكم ليس سوى وسيلة لتحسين واغناء وتعزيز وجود العامل”.
ويدعي بعض اليساريين بان البيروقراطية في دول ما كانت تسمى بالاشتراكية لم يكن لها من خيار أخر، سوى تصنيع البلاد باعتباره الطريق الوحيد للدفاع عن الدولة العمالية.
ولكن في الواقع هنالك بديل أخر، وهو القيام بتصنيع محدود لا يدمر ويستنزف حياة العمال والفلاحين ، ويسعى إلى تطوير الثورة العالمية كطريق وحيد ، على المدى البعيد، لمنع قوى الإنتاج الأرقى التي تملكها الدول الرأسمالية المتقدمة من أن تستخدم لسحق الدولة العمالية. وقد كان هو الخيار الذي طرحه قادة البلاشفة لغاية عام 1924 ومن ثم المعارضة اليسارية . ولكنه لم يكن خيار البيروقراطية الستالينية.
ونتيجة ذلك فقد تم دفع الاقتصاد نحو دينامية جديدة ، إذ عوضاَ عن الإنتاج لصالح استهلاك الطبقات المختلفة حل الإنتاج من اجل التراكم.
وأصبح التراكم ، عوضاَ عن الاستهلاك، هو هدف النشاط الاقتصادي ، وهو ايضاَ الرد على الضغوط الخارجية.
وباعتبار البيروقراطية الحاكمة كانت جزء من نظام عالمي تنافسي ، .فقد كانت هنا ، تحديدَا، تكمن جذور أزمة هذه الأنظمة ، أي الضغط من اجل التراكم في سبيل مزيد من التراكم. ويمكن القول ، في هذا السياق، أن الخصخصة ، التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي ، كانت بالنسبة لأقسام من البيروقراطية، إنما هي محاولة لحماية أنفسها من الأزمة العامة للنظام ، ولم تكن ، كما يعتقد البعض، سببا للازمة.
لذلك فإننا نجد أن الكثير من اليساريين وعلى خلفية الأنموذج السوفياتي ، كان يخلط – والبعض ما يزال- بين رغبته بالتغلب على التخلف الاقتصادي لبلاده وما بين الاشتراكية و “التنمية الاقتصادية” . والبعض منهم يرى – حتى اليوم- أن هدف الثورة الروسية كان “التصنيع ” والتحديث .
والواقع ، أن وجهة نظر البلاشفة في عام 1917 كانت غير ذلك.
كان اليسار الماركسي الروسي يرى أن روسيا بلد معزول. وان الطريق الوحيد للتغلب على تخلفه هو طريق التطور الرأسمالي ، الذي يقع على عاتق البرجوازية الروسية .
وما كان يفرق البلاشفة عن المناشفة قبل عام 1917 هو أن البلاشفة كانوا يعتقدون أن الطبقة الرأسمالية الروسية هي من الجبن إلى حد أنها لن تسعى إلى إسقاط القيصرية. وان هذه المهمة تقع على عاتق تحالف الفلاحين والعمال ، أي ما يسمى ب”الدكتاتورية الديمقراطية”. وكان يرى البلاشفة انه بمجرد أن أنجزت هذه المهمة فان العمال سينتقلون إلى صف المعارضة ، للدفاع عن مصالحهم في مواجهة الآثار السلبية للتصنيع الرأسمالي. وقناعتهم هذه تستند على إيمانهم بان الاشتراكية أصبحت ممكنة التحقيق لان تطور الإنتاج في ظل الرأسمالية ابرز ، ولأول مرة في تاريخ البشرية، إمكانية الانتقال إلى الاشتراكية.
لكن البلاشفة غيروا من موقفهم هذا إلى موقف أخر اقرب إلى موقف تروتسكي القائل بإمكانية البدء ببناء الاشتراكية في روسيا ، ولكن دون أن يعني هذا القيام بالتصنيع داخل حدود الاقتصاد الروسي المغلق. وكثيراَ ما كرر لينين فكرة أن فرص التقدم نحو الاشتراكية ممكنة ومتوفرة ، لأن انتشار الثورة عالمياَ سوف يتغلب على تخلف روسيا.
وتؤكد التجارب في الدول التابعة أو شبه المصنعة أن برامج “التنمية” التي تهدف إلى اللحاق ( وفي إطار بلد واحد) بمستوى قوى الإنتاج القائم في الدول عالية التصنيع (المتقدمة) في العالم لم تتم إلا من خلال امتصاص كتل هائلة من الفائض من العمال والفلاحين.
ومن الوضوح أكثر ، يمكن القول انه في حالة انتصار ثورة في بلد شبه مصنع ، فان الثورة يمكنها أن تحقق تحسناَ في مستوى حياة جماهير الشعب من خلال توزيع ثروة الأكثر غناءاَ لصالح الأفقر ، ويمكنها أن ترفض دفع الفوائد والأرباح للرأسمال العالمي ، ويمكنها أيضا أن تبدأ بإحداث نقلة في الصناعة والزراعة لصالح سياسة إنتاجية تهدف إلى تحسين شروط حياة الجماهير. وبإمكانها أيضا – إذا توفرت الشروط الموضوعية – أن تسعى وبالتدريج إلى رفع مستوى الإنتاجية للمجتمع ككل ، وخاصة من خلال دعم الزراعة الفلاحية بما يسمح بتوفير المزيد من الغذاء للسكان وبما يوثق من ارتباط الفلاحين بالمشروع الثوري.
بالرغم من ذلك ، ليس بإمكان الثورة أن تبدأ برفع مستوى قوى الإنتاج إلى مستوى مشابه لما هي عليه في الدول المتقدمة ، إلا في حالة واحدة هي أن تعيد التجربة الروسية ، أي أن تقوم الثورة بمهمة الرأسمالية وليس الاشتراكية . بمعنى أخر أن تقوم بالتراكم من اجل التراكم ، وبناء وسائل الإنتاج على حساب شقاء جماهير الشعب….
وسيجد النظام الثوري نفسه ، على المدى المتوسط ، أمام خياران قاتلان ، طالما بقي معزولا في بلد واحد.
الأول هو أن ينعزل عن السوق العالمي ، وحينئذ سيعاني من انحدار في مستوى قواه الإنتاجية ، وسيخسر إمكانية تحقيق تنمية تقنية لها قيمة على الصعيد العالمي، مما سيؤدي إلى ركود اقتصادي ، وخسارته للدعم الشعبي.
والثاني هو أن ينفتح النظام الثوري على النظام العالمي ( وهذا ما حصل في فيتنام وكوبا..) ليجد نفسه ،في تبعيته اللاحقة، أسير لتقلبات النظام الرأسمالي العالمي.
لذلك على اليسار الماركسي أن يقول هذه الحقائق ، إذا رغب بالقطيعة مع الأطروحات ” التنموية والتصنيعية والتحديثية” على الصعيد المحلي التي لا تعني سوى استمرار ومفاقمة استغلال العمال والفلاحين.

حركات التحرر الوطني في العالم الثالث والاشتراكية

عرف لينين الامبريالية باعتبارها ” الاستعباد الكولونيالي والمالي للغالبية الواسعة من سكان العالم من قبل أقلية محدودة من أغنى البلدان الرأسمالية وأكثرها تقدماَ” (أطروحات حول المسألة القومية والاستعمار). وكان أول ماركسي طرح ضرورة تحالف عالمي بين الثورة البروليتارية في الغرب وحركات التحرر الوطني في الشرق . وطالب بضرورة دعم الشيوعيين لها في النضال ضد “الامبريالية” ، لكنه حذر في الوقت ذاته من الخلط” بين مصالح الطبقات المضطهدة ومصالح جماهير العمال والمستغلين وبين مفهوم “المصالح الوطنية” ككل ، والذي يعني ضمناَ مصالح الطبقة الحاكمة”
ولذلك فقد أعلن المؤتمر الثاني للكومنترن ” ضرورة النضال الحازم ضد محاولات إعطاء صفة شيوعية لتيارات التحرر الديمقراطية البرجوازية في البلاد المتخلفة.. . وعلى الأممية الشيوعية أن تدخل في تحالف مؤقت مع الديمقراطية البرجوازية في البلاد المستعمرة والمتخلفة ولكن عليها ألا تندمج معها ، وعليها تحت كل الظروف الحفاظ على استقلالية الحركة البروليتارية حتى لو كانت في أكثر أشكالها جنينية”.
أما السياسة الستالينية للدولة السوفياتية فقد سارت في الاتجاه المعاكس تماما. ومع الخمسينات والستينات أصبحت تقريبا كافة أنظمة حركات التحرر الوطني تسمي نفسها “اشتراكية” والعديد منها ادعى الماركسية ، فيما ينطبق عليها مقولة ماركس في (18 من برومير ولويس بونابرت) :” كما يميز المرء في الحياة الخاصة ، بين ما يعتقده ويقوله شخص ما عن نفسه وبين حقيقته وحقيقة ما يفعل . فينبغي التمييز بدرجة اكبر في الصراعات التاريخية بين مقولات وخيالات الأطراف المشاركة في هذه الصراعات ، وبين تكوينها الحقيقي ومصالحها الحقيقية. وما بين تصورها لنفسها وبين حقيقتها”.
كيف يمكن تفسير ذلك ؟

والحال ، فان مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، أي مرحلة نزع الاستعمار وحركات التحرر الوطني ، قدمت أنموذجا “معكوسا” لنظرية الثورة الدائمة لتروتسكي.
بمعنى أن نظرية الثورة الدائمة تقوم على مقولتين أساسيتين ، الأولى هي حقيقة أن البرجوازية أصبحت عاجزة عن استعادة ماضيها الثوري في الظروف الحديثة، وبالتالي هي عاجزة عن بناء دولة رأسمالية موحدة ومستقلة في مواجهة طبقات قبل-رأسمالية أو كولونيالية حاكمة. الثانية هي ضرورة أن تقوم الطبقة العاملة بملء الفراغ السياسي الناتج عن ما سبق، وبالتالي عليها أن تحل وبنفس الوقت قضايا الثورة الديمقراطية والاشتراكية.
ولكن ماذا يمكن أن يحدث إذا كان الشرط الأول متوفر وصحيح ،أي الضعف الموضوعي للبرجوازية . بينما الشرط الثاني ،أي الدينامية الذاتية للطبقة العاملة ، لم يتحقق بعد؟
إنها قوى اجتماعية أخرى هي التي تلعب دوراَ سياسياَ هاماَ . فقد شهدت ثورات الصين وكوبا( طوني كليف، الثورة الدائمة) وإيران وغيرها لحظات تفكك فيها النظام القديم نتيجة أزمة اجتماعية واسعة ، مع وجود طبقة عاملة عاجزة . في حالة الصين شكل الفلاحون الجسد الرئيسي لقوى الثورة ، ولكن منذ أن أضحت الثورات الحديثة يطغى عليها الطابع المديني ، فلم يعد للفلاحين إمكانية تقديم قيادة سياسية تنبع منهم، وهكذا قيادة توفرها في كل الأحوال شرائح من الطبقة الوسطى هي الانتلجنتسيا.
فإذا كانت هذه الشريحة قد لعبت دوراَ هاماَ في قيادة الثورات البرجوازية الكلاسيكية ، إلا أن دورها برز أكثر في المجتمعات “النامية” الحديثة.
لقد وفرت شروط ضعف الطبقة العاملة لهذه الطبقة الوسطى أن تلعب دوراَ قيادياَ في الحركات الشعبية. لكن الثورات التي نتجت عن هكذا شروط كانت تحديثية وقومية ومناهضة للاستعمار ، ولكنها لم تكن ولا بأي حال ثورات اشتراكية.
يجد أفراد هذه الشريحة الوسطى ، الباحثون عن اله جديد ، غايتهم في مفهوم “الشعب” وخاصة تلك الأقسام منه التي تعاني من صعوبة شديدة في تنظيم نفسها أي الفلاحين. وتترافق رغبتها بالالتحام ب”الشعب” ووضع حد لخضوع البلد أو “الأمة” مع شعور متنامي بالفوقية . فهذه النخبة تشعر بان الجماهير(ها) هي إلى درجة من التخلف و البلادة تعيقها عن القيام بالثورة لوحدها ، هذه المقاربة تفسر ميل وانجذاب اغلب هذه البلدان النامية (مصر، الجزائر، سوريا ، غانا، اليمن الجنوبي……) إلى شكل سياسي من الحكم الفردي ورأسمالية الدولة. وقد أطلق على هذه السيرورة مصطلح ” الثورة الدائمة المنحرفة ، أو بالمقلوب)
في كل مكان كانت فيه القوى الاجتماعية الأساسية ، وبشكل خاص الطبقة العاملة ضعيفة أو مفككة وتفتقر إلى قيادة سياسية اشتراكية ، فقد استمرت فيه هذه الشرائح الوسطى بلعب دور سياسي طويل حتى بعد اندثار وتفكك تجسيداتها الإيديولوجية. وانهيار الاتحاد السوفياتي وحقبة الحرب الباردة.

و ماذا عن “الكتلة التاريخية”؟

لا يمت مفهوم “الكتلة التاريخية” لدى غرامشي(دفاتر السجن) بأي صلة بمفهوم شاع عنه باعتباره نوع من التحالف مع البرجوازية. مثلما أن مفهوم الهيمنة لدى غرامشي لا تعني عنده حجة لكل من يرغب بتقديم تنازلات للطبقات المالكة أو السعي للاتفاق معها.
لقد أكد غرامشي ، بما لا يترك مجالاَ للشك، على  ضرورة بناء تحالف بين حركتي العمال الصناعيين والزراعيين. كما أكد على الدور الحاسم للمثقفين في تشكيل هذه التحالفات . لأنه يرى بان المثقفين يلعبون دوراَ رئيسياَ في ربط الفلاحين بطبقة ملاك الأراضي ، لذلك دعا إلى الحاجة لكسر هذا الرابط من خلال بناء تيار يساري في أوساط المثقفين.
وإذ أشار غرامشي إلى أهمية توفر شكل من التوافق مع أوساط الجماهير الفلاحية كشرط أولي قبل تعبئتهم في مواجهة الرأسمالية، فانه إنما يعني التحالف مع الفلاحين وليس مع الرأسماليين من اجل قطع علاقتهم مع طبقة كبار ملاك الأراضي.
هذا هو مفهوم “الكتلة” التاريخية” الذي له دور محدد في التغيير الاجتماعي ، لا علاقة له بأي شكل من الأشكال مع دعوة التحالف أو التعاون بين العمال والرأسماليين ، أو بين العمال وبين الأحزاب الشعبوية أو الليبرالية أو ما شابهها.
لأن تحقيق الهيمنة السياسية تعني – وفق غرامشي- قدرة الطبقة العاملة على قيادة تحالفات سياسية ، وان تصبح شعاراتها ومطالبها هي شعارات ومطالب الشرائح الوسطى والفلاحين والشرائح المفقرة من الطبقة الوسطى ، باعتبار تحقيق ذلك شرط أولي لتحقيق النصر.
الثورة ، في النظرية الماركسية ، لا يمكن أن تكون سوى من عمل الجماهير الواسعة، وليست أبدا من عمل أقلية صغيرة كائناَ ما كانت ، والانتفاضة هي أوج هذه السيرورة ولحظة نوعية تنظم كفن.
ومن اجل إقناع وكسب الجماهير للثورة الاشتراكية ، فان عمل يومي وشاق سيكون ضرورياَ … من اجل ” مراكمة القوى داخل الطبقة العاملة”. فالدعوة للثورة الاشتراكية والسلطة العمالية لا تتضمن في كل الأحوال أدنى تبني للمغامرات اليسارية المتطرفة التي تدفع بالجماهير في شروط يتم فيها هزيمتها وسحقها. ومهمة الماركسيين أن يعرفوا تماماَ التمييز بين مرحلة مراكمة القوى وبين مرحلة استخدام هذه القوى في العمل الثوري.
الخطأ الفادح الذي ارتكبته الاشتراكية –الديمقراطية كان تحويلها لإستراتيجية مراكمة القوى إلى إستراتيجية دائمة. وتحويلها للمشاركة في الانتخابات إلى إستراتيجية لاستلام السلطة وليس لمراكمة القوى.

الديمقراطية والدكتاتورية

تقوم أنظمة الحكم على آليات من نوعين : الأولى تحقيق الرضاء والثانية الإكراه. وفي حين نجد أن وزن الأجهزة الإيديولوجية ووسائل الإعلام كبيرة وهامة في الديمقراطيات، دون غياب الإكراه والقوة . فإننا نرى بان آليات القوة والإكراه هي الأهم والأبرز في الدكتاتوريات ، دون إلغاء حاجتها إلى حد ما من الرضاء. وعلى الرغم من سيطرة الأنظمة الدكتاتورية على مفاصل نشاطات المجتمع ، ووجود –او غياب- مؤسسات برلمانية شكلية إلا انه يبقى هناك دائما مساحات ومجالات يمكن الصراع عليها.
إن سيرورة هزيمة هذه الأنظمة- بقراءة التجارب العديدة الحديثة(وخاصة في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق أسيا)- تنمو من خلال عملية تراكم القوى بطئ وسري ، حتى تنفجر النضالات في بعض القطاعات المؤثرة إن كانت الحركة الطلابية أم النقابية أو الحركات الشعبية. وتشير قراءة هذه التجارب إلى انه ليس مهماَ ماهية القطاع الذي يبادر بالحركة ، والتي تأخذ عموماَ طابع تحرك جماهيري ينفجر بعد فترة طويلة من الاختمار والإعداد . وتحمل هذه الحركات مطالب ديمقراطية ( مثل شعارات لتسقط الدكتاتورية أو لتسقط الحكومة) مما قد يؤدي في البداية إلى تعديل موازين القوى مع الدكتاتورية ، حتى يصل إلى نسف أسسها.
إن التحركات الجماهيرية تبدو في البداية وكأنها “حرب حركة” ، إذ يؤدي بروز نضالات كبيرة يعمق التناقضات الاجتماعية ، إلى أن تظفر القوى السياسية بمساحات جديدة للعمل والتوسع في عدد من المؤسسات وان تعيد بناء ذاتها وتراكم مزيد من القوى، مما يسمح لها بنشاطات أكثر هجومية ، حتى لو كانت إمكانياتها ما تزال محدودة ، مثل “احتلال” أماكن للتظاهر والاعتصام والدعاية والنشاط..الخ.
وتأخذ التحركات الجماهيرية في ظل الأنظمة الدكتاتورية ،في العادة، طابع طبقي تعددي ، وتشمل حتى قطاعات من البرجوازية . ولكن البرجوازية ، كطبقة غير حازمة حتى في الصراع من اجل المطالب الديمقراطية، لا ترغب بأي ثورة خشية أن لا تذهب الجماهير بعيداَ في المطالبة بما هو أكثر من مجرد تغيير أشكال السيطرة (الطاقم الحاكم). ومشاركة أقسام من البرجوازية في الصراع من اجل الديمقراطية يأتي عموماَ عندما يصل هذا الصراع إلى ذروته، وتحاول أن تضعه في إطار وحدود الرأسمالية. إذن ، تقوم البرجوازية باستخدام قوتها الاقتصادية والاجتماعية للتلاعب بالثورة وتجميدها في مرحلتها الديمقراطية.
على سبيل المثال، ترافق الضغط الثوري من الأسفل (الجماهيري) في البرازيل عام 1982 مع إصلاح –ذاتي للدكتاتورية أدى إلى انتقال ديمقراطي متفاوض عليه وحافظ على سيطرة البرجوازية المدنية، بينما لم تلعب الطبقة العاملة البرازيلية دوراَ مستقلاَ بل انحلت في الحركة الديمقراطية العامة.
أما في الأرجنتين عام 1982 فان الثورة وسقوط الحكم العسكري لم يترافقا مع بروز هيئات مجالسية أو هيئات ازدواجية سلطة. ولم يكن هنالك أي حزب ذو نفوذ جماهيري ، مما أدى إلى قيام أقسام من البرجوازية باستلام السلطة.
ليس المثال الأرجنتيني يتيماَ. فقد شهدت بلدان أمريكا اللاتينية سيرورات مشابهة . أي أن سقوط الدكتاتوريات مع غياب لهيئات سلطة بديلة أدى، مع وجود طبقة حاكمة جاهزة لاستخدام مؤسسات البرجوازية الديمقراطية ، إلى حرف النضالات الجماهيرية وتجميد السيرورة الثورية.
والدرس الرئيسي من هذه التجارب هو ضرورة أن يجهد الاشتراكيون في العمل داخل صفوف الحركة العمالية وأوساط الشباب والمنظمات الشعبية والفلاحية. . والقيام- على أساس هذه الإستراتيجية الدائمة- بالتنظيم من الأسفل(القاعدي) والسعي لتوحيد الصفوف والشرح الصبور والمثابر لضرورة بناء نظام من نوع جديد يقوم على الحشد الجماهيري الدائم وقيام الجماهير العاملة والمأجورة بتنظيمها الذاتي وإدارتها الذاتية للحكم.

الثورات المخملية

إن محصلة تجارب ثورات أوربا الشرقية عام 1989 كانت مزيجاَ من الانجاز وخيبة الأمل في الوقت نفسه.
الانجاز الحقيقي لثورات 1989 هو أنها أسقطت أنظمة سياسية دكتاتورية وأقامت محلها شكل للحكم يسمح فيه للعمال بحق تشكيل والانضمام إلى النقابات التي لم تعد تحت سيطرة الدولة. و الاعتراف بحقهم في التنظيم السياسي والتعبير عن أنفسهم ، وحرية لم يعهدوها في ظل الأنظمة الستالينية السابقة.
أما خيبة الأمل فتنبع من أن مثل هذه الحركة الثورية العالمية قد انتهت بإقامة نظام اقتصادي وسياسي يحافظ على السلطة الواسعة للطبقة الحاكمة ، متيحاَ لها في المجال بإعادة تجديد سيرورة تراكم رأس المال ، من خلال مفاقمة استغلال العمال. هذه الخيبة يمكن النظر إليها من زاويتين . الأولى هي تحرر العديد من الشخصيات القيادية لهذه الثورات من أوهامها ،وقد أجادت روزا لوكسمبورغ في وصفها بان ” المصلح البرجوازي الصغير يرى جوانب (حسنة) وأخرى (سيئة) في كل شئ . انه يقضم قليلاَ من كل أنواع الأعشاب” .والثانية هي في فداحة الاستغلال الاقتصادي وعملية العزل السياسي الذي تتعرض له جماهير العمال في مجمل دول أوربا الشرقية . والذي يترافق مع تدهور حاد للمستوى المعيشي لغالبية السكان.
بالمقارنة، فان خيبة أمل ثوريي ثورات 1989 هو نوعياَ مختلف عن خيبة أمل ثوريي الثورات البرجوازية الكلاسيكية . لأن برنامج الأخيرين لم يكن ممكناَ تحقيقه بسبب الشروط الاقتصادية- الاجتماعية للعصر . بينما تم هزيمة برنامج البلاشفة في روسيا من خلال ثورة –مضادة هي الستالينية. أما ثوريي الديمقراطية لعام 1989 فان خيبتهم نتجت –على العكس من الأخيرين- من أن برامجهم قد تحققت . والخطأ (سبب الخيبة) يكمن في البرنامج وليس في شروط الوضع الموضوعي أو سلطة القوى التي واجهتهم.

خاتمة

تشير دروس كل الثورات السابقة إلى أن كل الثورات ومن ضمنها الثورات الاشتراكية تبدأ بالمعركة من اجل المطالب الديمقراطية. وعلى الاشتراكيين أن يكونوا في مقدمة النضال من اجل كل أنواع الإصلاحات الديمقراطية.
وقد أكدت التجربة الاندونيسية، مثلاَ، حقيقة أن الدولة الاندونيسية هي دولة رأسمالية ، وان البرجوازية الاندونيسية مرتبطة عضوياَ بالدولة، مما يوضح وببساطة حدود السياسات الديمقراطية الصرفة، والسرعة التي يمكن أن تبرز من خلالها السياسات والمطالب الاشتراكية في دينامية الثورة اللاحقة، مما يعزز من أهمية طرح مطالب اشتراكية.
بل أن الأهم ، هو أن يرفع الاشتراكيون المطالب الديمقراطية بطريقة مختلفة عن اؤلئك الذين هم مجرد مشاركين في “الثورة الديمقراطية”. وان يلجأوا إلى وسائل وتقنيات تنظيمية مختلفة لتحقيق هذه المطالب.
وكان قد أكد ماركس عام 1848 على ضرورة أن يبقى العمال متقدمين” بخطوة” أمام المعارضة الليبرالية ، وان تكون مطالبهم، وان كانت “ديمقراطية” ، ذات محتوى طبقي خاص تضع العمال في مواجهة الديمقراطيين الليبراليين.
كانت قضية التكتيكات والشعارات اليومية بالنسبة لماركس جزء لا يتجزأ من فهم استراتيجي أوسع يتمركز حول أن الهدف الذي نسير نحوه هو الثورة الاشتراكية . وهو لذلك لم يتحدث عن حكومة مؤقتة يشكلها العمال أو حاول التكهن بشكل الحكومة المؤقتة التي يمكن أن يشكلها الديمقراطيون البرجوازيون.
لقد أدرك ماركس وانجلز أن الاستقطاب الطبقي يقسم ويفرز المعسكر الديمقراطي. وقد أشار انجلز إلى أن كل الثورات تبدأ ب”وحدة ديمقراطية متعددة الطبقات في مواجهة النظام القديم . ولكن تطور الثورة في مراحلها الأولى يفسح في المجال للانقسامات والاصطفافات السياسية ضمن المعسكر الثوري على أساس التمايزات الطبقية . هكذا كان الحال في كل الثورات السابقة ومن ضمنها الثورات البرجوازية الكلاسيكية.
لكن كل الثورات اللاحقة لعام 1848 تتميز –بسبب الشروط الموضوعية لتطور الرأسمالية والامبريالية – بإمكانية أن يتطور هذا التفاوت الطبقي إلى درجة يقوم فيها العمال بإقامة سلطتهم المتميزة أي المجالس العمالية. فالاشتراكية عند ماركس هي ” التحرر الذاتي للطبقة العاملة ، ولا احد أخر يمكن أن يحقق الاشتراكية لهم”.
وقد برزت هذه المجالس ، كهيئات للنشاط والنضالات، عموما بشكل عفوي في كل الانتفاضات الثورية : في ألمانيا 1918 وهنغاريا 1919 وايطاليا عامي 1919 و 1920 وفي اسبانيا 1936 وهنغاريا 1956 وتشيكوسلوفاكيا وفرنسا 1968 والبرتغال 1974 وتشيلي …..

ولأن مقولة أن”تحرر الطبقة العاملة هو من عمل الطبقة العاملة نفسها” هي من المقولات الأساسية في الماركسية ، فان مجالس العمال والمنتجين ،التي هي هيئات غير حزبية، تمثل الأقسام المتعددة لنضال الطبقة العاملة . وقد تمر فترة طويلة يكون فيها الهيمنة هي لاشتراكيين”معتدلين” من الباحثين عن تسوية مع الحكومة المؤقتة ، كما حصل مع سوفييتات الثورة الروسية التي سيطر عليها المناشفة وحلفائهم معظم عام 1917 ، ولكن نتيجة و مصير الثورة الروسية لم يكن بالإمكان حسمه إلا من خلال قدرة الثوريين –أم لا- على الظفر بالأغلبية داخل السوفييتات خلال مسار الثورة. وفقط عندما حازوا على هذه الأغلبية داخل السوفييتات قادوها إلى القضاء على الحكومة المؤقتة.
إن تطور الرأسمالية الحديث يجعل البرجوازية تخشى الطبقة العاملة أكثر من خشيتها من النظام القديم الذي يجثم على كاهلها.
وأخيرا، فان انهيار ما كان يسمى بالأنظمة “الاشتراكية” في فترة ثورات 1989 لغاية انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 فتح الباب أمام حقبة يسودها خطاب ديمقراطي يتمحور حول الحدود الدنيا من الليبرالية البرلمانية والانتخابات مع ربط المطلب الديمقراطي “حكماَ” باقتصاد السوق. ويتم في هذا الإطار فصل إمكانية تحقيق الديمقراطية عن النضالات الشعبية التي كانت دائماَ شرطاَ ضروريا للظفر بالحريات الديمقراطية.

غياث نعيسة
ك2 /يناير 2007
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى