صفحات ثقافية

ثقافة بلا سلطة

null
خيري منصور
ثمة عناوين تتكرر على نحو موسمي، وهي رغم جاذبيتها ووعودها باجتراح آفاق محرّمة ومحظورة إلا أنها تدور حول نفسها كالنوافير لأنها إما تنطلق من أسئلة خاطئة بحاجة إلى إعادة صياغة أو أنها أشبه بالخبر بلا مُبتدأ، مبتورة ولا تبدأ من الجذور .
سؤال السلطة والثقافة في العالم المعاصر وكله حظي باهتمامات واسعة في النطاقين الإعلامي والأكاديمي خصوصاً في فرنسا التي شهدت لأول مرة بعد أزمة درايفوس إشكالية مصطلح المثقف والسلطة، وكان للحراك الثقافي والأكاديمي فيها الدور الأكبر في الغرب كله عندما أعلن فوكوياما نظريته عن نهاية التاريخ وخاتمة الانسان، لكن عالمنا العربي لا يزال يلثغ بإشكاليات كهذه، لأن السلطة ذاتها لم تكتمل ولم تتبلور تاريخياً، وكذلك مفهوم المثقف، فالعرب يعيشون الآن حقبة ما قبل الدولة إذا شئنا تعريفاً أقل عمومية للدولة، وثمة نفوذ للأعراف والتقاليد يفوق نفوذ القوانين في بعض الأحيان .
إن سلطة المثقف لا تبدأ إلا حين يكون هناك اعتراف بدور هذا الانسان، لهذا فأي كلام عن دور المثقف في حال غيابه أو تغييبه هو تبديد للوقت ومجرد ثرثرة عديمة المعنى .
قبل فترة حاول كاتب عربي إحصاء عدد المثقفين العرب الذين يعيشون من مهنتهم ولا يرتهنون للوظيفة، فوجد أن الرقم بالغ التواضع إذا قورن بعدد المثقفين الغربيين الذين يرتكزون إلى قاعدة القراء فقط، ومنها يستمدون القوة والشرعية التاريخية والنفوذ .
والمثقف الأعزل إلا من قلمه ليس كالسلطة المدججة بكل الأسلحة المادية والمعنوية، إنه يدرك في العمق هامشيته . لكنه يحاول اختراق المتن بالكتابة وما يقترن بها من نشاط، سواء كان اجتماعياً أو سياسياً، وإن كان كل حراك هو بالتالي ذا بعد سياسي، لأن السياسة بمعناها الدقيق هي علم تغيير المجتمعات وليست فقط حرفة المشتغلين في حقولها الملغومة .
وحبذا لو يكف المثقفون الأكثر ارتهاناً عن الحديث في هذه المسألة، ليس فقط لفقدان المصداقية وكون فاقد الشيء لا يعطيه، بل لأن خبرتهم في هذا الميدان شحيحة وهم أشبه بمن يتعلم السباحة على السرير أو يصعد الجبال ويبحر في المحيطات من خلال الخرائط الملقاة على أرض الغرفة .
المثقف الفاعل هو لقاح ومصل أخلاقي بقدر ما هو ضرورة، لأنه إن كان وفياً لدوره التاريخي يناط به فقد الذات، والمراجعة الدائمة، لهذا قيل ذات يوم في هذا السياق وقدر تعلقه بالتجربة الأوروبية . . يجب أن يكون المثقف مع أرسطو ضد أفلاطون ومع أفلاطون ضد أرسطو كي يستمر التاريخ بجدليته وقابليته الدائمة لتعدد القراءات من مختلف الزوايا .
تعقد ندوات ومؤتمرات عديدة في معظم عواصم العرب تحت عنوان الثقافة والسلطة لكنها تنتهي بتفسير الماء بالماء، لأن الخطوط الحمر أكثر من عدد الكلمات، ولأن إدمان التأقلم والقدرة على الاختفاء وراء البلاغة والمجاز تتيح الفرار حتى للمشلول .
لهذا فالخسارة مزدوجة، فلا السلطة تستفيد مما يطرح بشأن ثقافتها ولا الثقافة تنتفع بما يثار حول سلطتها . وأول ما يقتضيه المنطق لكي تعاد الاسئلة إلى وضعها السوي والقويم هو تحديد المسافة بين السلطة والثقافة فالتداخل الآن في ذروته، والفوضى تتنامى بشكل أعمى، وما من بوصلة أو غربال أو أي معيار جدي يمكن الاحتكام إليه . . وربما لهذا السبب توازت الثقافة والسلطة ولن تلتقيا
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى