صفحات سوريةمرح البقاعي

سوريا الوطنية، من وجع الناصرية إلى مواجع الفقيه الإيراني

null
مرح البقاعي
ينتظر أن تبدأ قريباً الجولة الخامسة من المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل، برعاية من الحكومة التركية. وقد انتهت الجولة الرابعة من هذه المفاوضات غير المباشرة دون التوصل إلى اتفاق الطرفين على الجلوس إلى مائدة المفاوضات بشكل مباشر، واكتفى كل منهما باعتبار الجولة الرابعة المنصرمة من المفاوضات “جدية و معمّقة”.

يعتبر الجلوس السوري الاسرائيلي غير المباشر هذا، في مجاز علم البيان السياسي، تطورا إيجابيا في لغة التخاطب المستجدّة بين الطرفين المتنازعين منذ عقود عدة. بيد أن هذا التنشيط السياسي الكوزميتيكي لا ينفي ضرورة النظر إلى الوضع السوري الداخلي في علاقته بالنزاع مع إسرائيل، وتحديدا، من زاويةِ أصلِ ما هو متنازع عليه: هضبة الجولان المحتلة!

إن حتلال الجيش الإسرائيلي في حرب العام 1967 لمرتفعات الجولاتن السورية شرعن تمديد العمل بقانون الطوارئ على الصعيد الداخلي، وإلى أجل غير مسمى، بكل تبعات هذا القانون وتردداته المجتمعية والسياسية التي تمظهرت في عسكرةٍ للحياة المدنية، وإجهازعلى الحريات العامة، وانتهاك منظّم لحقوق الإنسان، وترسيخ لفصول الحكم الأحادي الباهظ؛ الأمر الذي انعكس سلباً على فرص التقدم والتنمية التي حرم منها الفرد السوري، وزاد من عزلة سوريا على الصعيد الدولي، وأدخلها في سلسلة من رهانات إقليمية تبعا لأجندات خارجية تخدم مصالح قوى متصاعدة في المنطقة، ولا علاقة لها بالمصالح الوطنية لسوريا أوللسوريّين.

وفي عودة إلى التاريخ المنظور، وتحديدا إلى حرب الأيام الستة، نلحظ تزامن احتلال الجولان السوري مع مرحلة “تورطت” خلالها سوريا في المشروع “القومجي” الناصري، وأضحت الحليف العربي والرديف الوحدوي لعهد جمال عبد الناصر. وحين انكشفت “استعراضية” المشروع الناصري “الوحدوي التحريري” قياسا إلى ما آلت إليه الأمة من هزيمة عسكرية شعواء انعكست انتكاسة مستديمة على الكيان العربي برمته، اختارت مصر”ما بعد عبد الناصر” الدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل انتهت بإبرام معاهدة كامب ديفيد، وزيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات لإسرائيل، وإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين، واستعادة مصر لأراضيها التي احتلتها إسرائيل في العام 1967.

إثر حرب الخليج الثانية عام 1991، انعقد مؤتمر السلام بمدريد برعاية مشتركة من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، وهيّأ المؤتمر الطريق أمام الشروع في مفاوضات ثنائية بين إسرائيل من جهة، والدول العربية من جهة أخرى. واستنساخا للنموذج المصري، اختار الأردن فتح قنوات التفاوض المباشر مع إسرائيل وتوقيع اتفاق سلام مباشر معها، كما اختار الفلسطينيون الطريق عينه، بالرغم من كون المشكلة الفلسطينية هي صلب النزاع في الشرق الأوسط! بينما بقي موضوع الجولان دون أية حلول أوحتى مقاربات دبلوماسية تذكر، وظلت سوريا وحدها ـ إضافة إلى لبنان بحكم “هيمنة” سوريّة آفلة عليه ـ تحمل وهناً تبعات مشروع ” الصمود والتصدّي” المنتهي الصلاحية!

أما عن الجانب الاسرائيلي، فقد كان من أولويات حكومة إسحاق رابين عام 1992 إيجاد حل للنزاع مع سوريا. وقدمت إسرائيل تصورها لإمكانية حل النزاع من خلال ما يعرف بـ “وديعة رابين”، التي تمثلت في خمس مقترحات تعهّد بها هذا الأخير لوزير الخارجية الأميركي آنذاك، وارن كريستوفر، تدور حول تطبيع العلاقات بين البلدين مقابل انسحاب إسرائيلي من الجولان على مدى خمس سنوات وضمان حاجيات إسرائيل من مياه بحيرة طبريا؛ وهي المقترحات التي أجاب عليها الرئيس السوري الراحل، حافظ الأسد، بخمس نقاط أطلق عليها بالتوازي اسم “وديعة الأسد” ونصّت على رغبة سوريا بإقامة علاقات “عادية” مع إسرائيل بدل التطبيع الشامل وضمان انسحاب إسرائيل خلال “أشهر معدودة” من هضبة الجولان، و ضمان حاجيات سوريا و إسرائيل “معا” من مياه طبريا والجولان وليس فقط حاجيات إسرائيل، كما ورد مفصّلا في مقال سابق بعنوان وديعة رابين أم وديعة الأسد.

اليوم، وبعد مرور سنوات على رحيل كل من رابين والأسد الأب، لا يزال موضوع الجولان يراوح مكانه دون أي تقدم يذكر، ولا تزال المفاوضات بين الطرفين مفاوضات “غير مباشرة” رغم وجود أرضية واضحة متمثلة في النقاط الخمس التي سبق ذكرها، و التي يمكن أن تشكل منطلقا جديّا لمفاوضات مباشرة وصريحة بين سوريا وإسرائيل.

مما لاشك فيه أن لإسرائيل مصالح واضحة في هضبة الجولان تبدأ أولا في مياه الجولان وبحيرة طبرية، وقد لا تتوقف عند الأهمية الاستراتيجية للجولان من الناحية الجيوتكتيكية. لكن مصالح إسرائيل هذه لا ينبغي أن تحجب عن الأعين مصالح مفاصل النظام السوري “الأمنية”. فاستمرار احتلال الجولان هو في حد ذاته مبرر لاستمرار حالة “اللاحرب واللاسلم” التي تشرعن العمل بقانون الطوارئ سيء الذكر، والإمساك، تاليا، بخناّق الحياة السورية بقبضة من فولاذ!

من جانب آخر، ومنذ العام 1992 تاريخ تداول وديعتي رابين والأسد، انقضت ستة عشر سنة، ظهرت خلالها على السطح قوة إقليمية عتيدة، مؤججة بدوغماتية أصولية طائفية، وبسلطة مطلقة وربوبية لولاية الفقيه. الكلام يعود هنا على إيران بقياداتها “الآياتية” ومرجعايتها الماضوية التي تؤسس لمشروع امبراطوري ظلامي تعبوي انخرطت فيه، بشكل أو بآخر، سوريا الرسمية، وأضحت طرفاً أساساً منه. وهكذا ما كادت سوريا تتحرر من تبعات المشروع الناصري واصطفافاته، حتى زُجّ بها في مشروع أبلغ عتوا وأشد عنادا يقوده تحالف عماماتٍ، وعسكرٍ، يناطح منظومة العالم ويجاهر بحتمية تدمير دولة، وتصفية جماعات، على الهوية الدينية والمذهبية؛ الأمر الذي دفع إلى مزيد من التشدّد من طرف إسرائيل التي أضافت إلى وديعة رابين شرطا جديدا لمفاوضاتها مع سوريا وهو تخلي الأخيرة عن حلفها المفتوح مع إيران، العدو الأكبر، على حد التوصيف الإسرائيلي لها.

وإذا كان من تداعيات الانخراط السوري في المشروع القومي الناصري احتلال هضبة الجولان بما يعنيه من خسارة على مستوى السيادة الوطنية، ناهيك عن خسارة أخرى على المستوى الإجرائي تمثّلت في تعثّرعمليتيّ التحديث والتنمية، من تسخير للموارد القومية في العمل الحربي عوضا عن توظيفها لصالح التنمية البشرية، ووأد الحريات السياسية بدلا من إطلاقها بحجة الحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية؛ فإن انخراط سوريا في المشروع الظلامي للنظام الإيراني ينذر بعواقب أشد خطورة وأعلى كلفة. ذلك أنه ـ وعلاوة على استمرار انتهاك حقوق المواطنة وعسكرة الحياة العامة ـ سيفضي الانخراط السوري في المشروع الإيراني إلى تمكين التيارات الدينية المتطرفة داخل سوريا بشكل خاص، وفي منطقة الشرق الأوسط بشكل عام؛ تيارات متأصلة على ثقافة الفصل العنصري الطائفيّ الجانح إلى العنف والتصفية على الهوية المذهبية في فكر عقائديّ يدعو إلى حاكمية الفقيه، “الجامع للشرائط”، في قيادة الأمة وإقامة “حكم اللّه” على الأرض!

إن الفرد السوري قد أدّى غاليا ثمن الانخراط في المشروع القومي العربي الذي مثله جمال عبد الناصر، وهو اليوم يدفع أيضا ـ ومن جديد ـ ثمن الانخراط “الرسمي” في المشروع الإيراني. و كأن قدر السوريّ أن يؤدي باستمرار ثمن “تهّور” القرار السياسي في فواصل تاريخية من التحولات الإقليمية التي لا تقارب بحال من الأحوال أحلامه في مستقبل تسوده أسس العدالة، والسلام، ومفاعيل الحياة الديمقراطية في ظل دولة القانون المدنية.

فصل المقال، إن تفكيك حلقات الحلف الاستراتيجي السوري الإيراني لم يعد توجّها ملزِما للسياسة الخارجية السورية في سبيل تسوية محتملة لموضوع هضبة الجولان وحسب، بل هو مطلب وطني ملحّ لضرورة التوقّف الفوريّ عن تداول المشروع الإيراني في المنطقة، وتسعير أدواته، متمثّلة في حزب الله المحارب في لبنان، وحركة حماس الانفصالية في غزة. فحزب الله ليس سوى حالة من “عسكرة” منكرة للصوفية الشيعية بما يتناقض وأصل روح التشيّع “الاجتهادية”، والعنف الذي تمارسه حماس ليس إلا إفراغاً مؤدلَجا لجوهر حركة التحرر الفلسطينية، وشرعنة للقتل العبثي على طريقة قابيل وأخيه هابيل؛ والأداتان تدفعان المنطقة برمتها إلى أتون اقتتال مستطير، لاهوادة فيه، ينفذ سياسات الإلغاء ـ حصراـ على الهوية المذهبية!
نعم، هي ضرورة إسعافية ومطلب وطنيّ عاجل من أجل إخراج سوريا من نفق تراكمات القرن الفائت، التي تحجبها، دولة وأفرادا، عن دخول القرن الحادي والعشرين بتحولات إيقاعاته الإقليمية والدولية كافّة.

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى