قضية فلسطين

الحرب على غزة.. أو المأساة الفلسطينية المتواصلة

خالد غزال
أياً كانت النتائج التي ستنتهي اليها الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة، وأيا كان حجم الصمود الفلسطيني، سواء فشل في تمكين العدو من تحقيق أهدافه، أم أمكنه إجباره الى التوقف عند حدود معينة، فإن أضرارا بالغة أصابت القضية الفلسطينية والقرار الفلسطيني، وتسببت في إضعاف القوى، سواء كانت قوة السلطة الفلسطينية الممثلة في رئاسة محمود عباس أم كانت سلطة «حركة حماس». وهو ضعف يضاف الى ما أصاب القضية الفلسطينية وموقعها المركزي في الصراع العربي الإسرائيلي. فالمجازر المرتكبة اليوم من آلة الاجتياح الإسرائيلي لا تصيب المنتمين الى حركة حماس وحدهم، بل تطال مجمل الشعب الفلسطيني في غزة، والنوايا الإسرائيلية في وضع حد لسلطة «حركة حماس» لا تتوقف عند هذه الحركة، بمقدار ما تتركز على مجمل الوضع الفلسطيني لإضعافه بشكل أكبر، والامتناع لاحقا عن تقديم أي تنازلات لمصلحة الحقوق الفلسطينية. لذا يجب رؤية الأهداف الإسرائيلية بما يتجاوز هدف حملتها المعلنة، بل رؤية هذا الهدف في استهدافه القضية الفلسطينية بالإجمال.
إذا كانت هذه الاستعادة للتشديد على الهدف الإسرائيلي المركزي الدائم ضد القضية، وإذا كان شلال الدم الفلسطيني المتدفق كل يوم يدفع الى إطلاق الصرخة ضد الوضع العربي العاجز، والدولي المتفرج، إلا أن شيئا من النقاش للعناصر التي ساعدت في الوصول الى ما وصلت إليه الأحداث يبدو ضروريا، على رغم الألم من الكلام النقدي الموضوعي في ظل مناخ شعبي تغلب عليه اليوم الشعارات والاتهامات من هنا وهناك، والتي لا تفيد في تغيير ما حصل بأي شكل من الأشكال. في هذا المجال ينبغي نقاش موقف «حركة حماس» ومسؤوليتها، سواء المباشرة منها أو غير المباشرة، في إيصال الأمور إلى تقديم ذريعة مباشرة للعدو الإسرائيلي بغزوه الراهن. بداية لا ينطلق الكلام النقدي من أي تبرئة لإسرائيل من نواياها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني وسائر الشعوب العربية.
شكلت التسعينيات من القرن الماضي مرحلة جديدة في النضال الفلسطيني اتسمت بالتوجه السلمي والدخول في مفاوضات سلام مع إسرائيل، خلال مؤتمر مدريد للسلام وما تبعه من اتصالات مباشرة. أتى الخيار السلمي بعدما استنفد الكفاح المسلح حدوده وقدراته، ووصل الى اقفال الثورة من الخارج، خصوصا بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982. كانت الانتفاضة الاولى العام 1988 إعلانا صريحا بإقفال البوابات الخارجية للثورة الفلسطينية التي كانت تتنفس منها الثورة منذ قيامها في العام 1965. اتت اتفاقات «اوسلو» العام 1993 لتعكس ميزان القوى الذي رست عليه الثورة الفلسطينية، ولتبين حدود الإنجازات المتحققة في ظل موازين القوى الفلسطينية أساسا والعربية تحديدا، والدولية بشكل عام. لكن الأهم في الاتفاقات كان عودة النضال الفلسطيني الى الداخل، بما يتيحه الوضع المستجد من إمكانات، ودخول القيادة الفلسطينية إلى أرض فلسطين. بصرف النظر عن التقييم الموضوعي لما قدمته اتفاقات «أوسلو»، إلا أنها كانت تشكل مرحلة جديدة في النضال الفلسطيني ومترتباته المستقبلية على صعيد العلاقة مع الدولة العبرية.
اتسم موقف «حركة حماس» برفض هذه الاتفاقات منذ البداية، واتخذت موقفا مبدئيا متوافقا مع مبادئها في نظرتها الى الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وخصوصا رفض الاعتراف بإسرائيل، ورفض مقولات «اوسلو» بالتعامل معها. لكن «حماس» الرافضة لهذه الاتفاقات عادت عمليا وانخرطت فيها من خلال قبولها الدخول في انتخابات قائمة على شروط اتفاقات «أوسلو»، وذلك من دون إعلان أي موقف يتضمن مراجعة لموقفها المبدئي. ساعد دخول «حماس» في مترتبات الاتفاقات مع إسرائيل الى فوزها في الانتخابات النيابية الأخيرة وتسلمها السلطة بشكل ديمقراطي من خلال تشكيل حكومة برئاستها. ابتداء من هذه المرحلة دخلت «حماس» في وضع مستجد يفرض فيه تسلمها السلطة تعديلات جوهرية في علاقتها مع إسرائيل، وما كانت الاتفاقات الفلسطينية ـ الإسرائيلية قد نصت عليه. وهو أمر تفرضه مصالح الشعب الفلسطيني الذي باتت «حماس» في موقع المسؤولية الرئيسة عنه، كما تفرضها مسؤولية مسار القضية الفلسطينية ككل. منذ تسلمها السلطة، وضعت «حماس» نفسها في مأزق الإفصاح عن مشروعها الفعلي تجاه القضية الفلسطينية بالذات.
كانت أغرب القرارات التي اتخذتها حماس هي الانقلاب على نفسها عبر الانقلاب الذي نفذته في غزة، وأنهت بموجبه علاقتها الرسمية بالقيادة الفلسطينية، وما تشكله من شق آخر في السلطة. كيف تنقلب حركة تسلمت السلطة وشكلت حكومة لمجمل الأراضي الفلسطينية والشعب الفلسطيني على ذاتها وتكتفي بموقع محدد في غزة، وتعتبره المكان الوحيد للصراع مع إسرائيل؟ من هذه المرحلة تجب قراءة مشروع حركة «حماس» السياسي الذي أوصلت تداعياته في قسم أساسي منها الى هذه المأساة الفلسطينية المتواصلة، مجازر ودمارا للبشر والحجر في غزة.
لم يكن الانقلاب بعيدا عن هدف مركزي لحركة «حماس» يقوم على اعتبار غزة منطلقا للدولة الإسلامية التي تهدف إلى بنائها والوصول إليها، وهوموضوع يقع في صميم برنامجها المتناسل من برنامج حركة الإخوان المسلمين في مصر، وهو أمر جعل حماس تركز على موضوع مصر أكثر منه على موضوع تحرير الأراضي المحتلة في فلسطين، وجرى التعبير عن ذلك بالتركيز على التناقض مع مصر، ورفض الوساطات التي كانت تقوم بها من أجل توحيد الموقف الفلسطيني، وتضييق شقة الخلاف مع حركة «فتح». هذا من جهة.
من جهة أخرى، أتى الانقلاب وما تبعه من مواقف رافضة للوحدة الفلسطينية من جانب حركة «حماس»، موصولا بارتباط الحركة بالمشروع الإقليمي الذي تقوده إيران بشكل مركزي، وتدعمها سورية فيه. من جهة أخرى أيضا، بنت حركة حماس موقفها المتصلب بإنهاء حالة التهدئة مع إسرائيل، وزيادة وتيرة إطلاق الصواريخ على حسابات إسرائيلية وعربية وأميركية خاطئة. توهمت قيادة الحركة أن الانقسامات الداخلية في إسرائيل عشية الانتخابات تمنع قيادتها من اتخاذ قرارت بالهجوم الواسع على غزة، وهو جهل فاضح بتركيبة بنية السلطة في إسرائيل والحسابات القائمة، حيث إن أكثر ما تتوحد حوله القوى السياسية الإسرائيلية، إنما هو الحروب مع العرب، وأن الزعامات الإسرائيلية تحتاج الى هذه الحروب دوما لزيادة نفوذها، وأن الانتخابات خير وسيلة للتصعيد ضد العرب وليس العكس.
الخطأ الثاني، كان المراهنة على الفترة الانتقالية في القيادة الأميركية القائمة على عدم قدرة القيادة الحالية على دعم حرب إسرائيلية تسبب توريطا للقيادة الجديدة، وهو وهم آخر لا يدرك جوهر السياسة الأميركية الخارجية، حيث لا خلاف بين الجمهوريين والديمقراطيين في الدعم المطلق لإسرائيل في كل ما تراه مناسبا في علاقتها مع العرب.
هذه الأوهام- الأخطاء جعلت حركة «حماس» منفلتة في ممارساتها رفضا للمصالحات واحتكاكا بالصواريخ مع إسرائيل، ورفع وتيرة خطاب مزلزل ومتوعد إذا ما فكرت إسرائيل في شن حرب عليها. أعطيت الحجة لإسرائيل، وهي التي تنتظر إشارات من هذا النوع لتضع نفسها في خانة المعتدى عليها، فتخوض حربها انطلاقا من مقولة الدفاع عن النفس.
في ظل شلال الدم المتدفق اليوم يبقى الشعار الذي لا شعار غيره أن تعود القوى الفلسطينية إلى الوحدة تحت ظل القضية الجامعة، ومغادرة المشاريع التي لا وظيفة لها سوى خلق مزيد من الدمار للشعب الفلسطيني وسائر الشعوب العربية وللقضية الأساس في التاريخ العربي الحديث.

كاتب من لبنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى