ميشيل كيلو

مثقف جديد في دور جديد


            ميشيل كيلو

في السنوات الخمسين، التي أعقبت خروج العثمانيين من الوطن العربي، كان المثقف جزءا من عالم السياسة، وكانت ثقافته موضوعة أساسا في خدمة حزب أو دولة أو تكوين سياسي ما. آنذاك، كان من الطبيعي أن يرى المثقف نفسه بدلالة السياسة، وأن يعترف بالقائد السياسي والحزبي باعتباره مثقفا يجمع المعرفة إلى الممارسة،
من حقه وضع معايير ثقافية أيضا للحقلين السياسي والثقافي، لاسيما وأنه كان يكتسب موقعه ودوره من أسبقيته في اكتشاف فكرة جديدة ما، أو من مكانته الخاصة في ترجمة منظومة فكرية أو أيديولوجية إلى شعارات وبرامج عملية، بمعنى أنه كان يجمع في شخصه سياسيا يعرف، انبثق عن الثقافة، بينما كان المثقف يرى ثقافته ووظيفته تحت أولوية السياسة، لاعتقاده أن دوره سياسي أصلا، وأن الثقافة تفتقر إلى حقل خاص بها ومستقل عن السياسة، مفهومة كتكثيف أعلى لفعاليات مجتمع أو طبقة أو فئة أو حزب، من الضروري والحتمي أن ينضوي فيه كل جهد أو نشاط، بغض النظر عن طبيعته، وإلا جاء ناقصا وشابت العمل العام نواقص وعيوب تسيء إليه وقد تقوضه.

 

هذا الواقع تبدل بدءا من هزيمة حزيران في نهاية الستينيات، التي كشفت حقيقة الوعد الذي كان قد قدمه المشروع القومي الاشتراكي، وبينت أنه لن يجسد الآمال والتوقعات، التي وضعها العرب فيه، وأظهرت أن النخبة الجديدة، القومية الاشتراكية، ليست أفضل من سابقتها، البرجوازية الليبرالية، وأن هزيمتها تؤكد عدم جواز ارتباط الثقافة بسياستها ارتباط تابع بمتبوع، وأن من الضروري فصل الثقافة عن حقلها السياسي القائم، وإلا فإنها لن تستعيد خصوصية واستقلالية حقلها الخاص، ولن تعيد تأسيسه بصفتها الميدان، الذي لا يجوز أن تنزل به الهزيمة، لأنه سيتم انطلاقا منه تأسيس مشروع نهضة عربية جديدة، للرد على هزائم العرب ومآسيهم، التي بدأت في نهاية الأربعينيات 1948 ثم تفاقمت وتلاحقت عام 967ا، وكان استمرارها علامة دامغة وبرهانا ساطعا على فشل مختلف مدارس سياسيي ما بعد الاستقلال، وقصور عالمه، الذي صار رفضه يعني إعادة إنتاج عالم سياسي مختلف انطلاقا من حقل ثقافي مختلف، يعيد الأولوية للمثقف ولدوره في شأن عام قادته سياسات العرب المتتابعة من فشل إلى آخر.

 

هذه المرحلة الجديدة، كانت تحتم القطيعة مع سابقتها في كل ما يتعلق بعلاقة الثقافي بالسياسي والمثقف بالسياسة، بالنظر إلى أن فشل السياسة أعاد العرب إلى نهاية القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، إلى زمن النهضة العربية، التي كان يبدو أنها أنجزت ثقافيا على مستوى الفكر، وأن الاستقلال عن العثمانيين والاستعمار الأوروبي سيوفر الحاضنة اللازمة لإنجازها على مستوى السياسة. وعندما فشلت السياسة، تبين أن جزءا من فشلها يرجع إلى عجز (البرجوازية) عن ترجمة فكر النهضة إلى واقع قبل الستينيات، ثم إلى قفز (الاشتراكية) السريع عنه بعد ذلك، بذريعة أن فكرها يتخطاه ويتجاوز مهامه الديموقراطية والليبرالية، التي طرحها على العرب، لكنها تقادمت، فطواها العصر الجديد وتخطاها، إما لأنها لم تعد ملائمة، أو لأنه احتواها في ذاته. في هذا الواقع، رفض المثقف الجديد، مثقف أيامنا، السياسة السائدة واستعاد مشكلات وقضايا عصر النهضة، وخاصة منها تلك المرتبطة بالإنسان وموقعه من الوجود والواقع، وبالدولة وقضاياها، والتي تركز على الفردية والحرية والديموقراطية والمواطنة والسيادة الشعبية… الخ، وشرع يدرجها في حاضنة العالم الراهن، الذي لم يعد عالم النهضة الأولى، عالم الصناعة والاستعمار، بل صار عالم الثورة العلمية التقنية وثورة المعلوماتية والاقتصاد الرمزي والفكر الوظيفي والأيديولوجيا الأدواتية والتواصل اللحظي.. الخ.

 

ألا يفسر هذا أسباب بروز دور المثقف في الشأن العام خلال العقود العربية الأخيرة، ويلقي الضوء على البيئة التي استعاد من خلالها مشكلات عصر النهضة والإحياء العربي في حاضنة جديدة، ويشرح لماذا برزت في فكره مفاهيم جديدة كالمجتمع المدني والدولة الديموقراطية، ولماذا ابتعد عن منظومات الحقبة السابقة الأيديولوجية وتكويناتها السياسية والحزبية، ولماذا ابتعد عن الأيديولوجيا بإطلاق وأخذ بأولوية المجتمع باعتباره هيئة مواطنين أحرار يتوقف مصيرهم على مبادرتهم الذاتية، لا يجوز أن ينوب عنهم أحد، حزبا كان أم سلطة، في تدبير شأن عام هم أدرى به من غيرهم، لأنه شأن شخصي ومباشر في مستواهم الفردي المتعين، وإن اكتسب طابعا مجردا على مستوى المجتمع والدولة.

 

كانت سنوات عالمنا العربي العشرة الماضية أعوام تبلور وبروز دور المثقف الجديد، الذي لم يعد تائها بين شعب غُيِّب حتى لم يعد له من وجود، وسلطة حضرت حتى لم يبق لغيرها حضور أو دور، وأقلع عن محاولة إقناع السلطة بأنه قناتها إلى الشعب، وإقناع الشعب بأنه محاميه أمام السلطة، وهجر دوره القديم في جسر الهوة بين المعرفة والأمير، وشرع يلعب دورا جديدا باسم الأمة الغائبة، التي يريد إيقاظها وإحياءها وإعادتها إلى التاريخ، والمجتمع المدني، الذي يعمل على ترميمه وتحديثه، والمستقبل، الذي يبدو غائما، لكنه ينير دربه بفكره وممارسته، ويؤدي دور المرشد والضمير والمرجعية الأخلاقية في زمن سياسي مات ضميره وغدا بلا مرشد أو مرجعية!.

 

قال جرامشي في واحد من مقالاته ما معناه: الثقافة هي الجبهة التي يمكن إعادة إنتاج الواقع انطلاقا منها، مهما تأزم وهزم، إن بقيت متماسكة ولم تسقط. أعتقد أن الثقافة العربية تعطي نفسها اليوم دورا كهذا، وأنها تريد مساعدة الأمة على تبين طريقها وسط الصعوبات والمآزق، وأن المثقف يمارس دوره الجديد لاعتقاده أنه إما أن يكون نقطة تشع منها وتتكثف فيها الحرية، أو أنه لا يكون مثقفا بأي معنى، ناهيك عن أن دوره لا يكون دورا جديرا بالفكر والمعرفة، يستنهض الأمة ويضع مصيرها بين يديها.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى