ميشيل كيلو

عيد الجلاء: تحية إلي الجولان وأسراه


            ميشيل كيلو

تذكر مناسبة الجلاء، التي تحولت إلي روتين يتكرر كل عام، بأمر واحد رئيسي هو: المسألة الوطنية وأبعادها الداخلية والخارجية، وبفكرة واحدة رئيسية هي أنها كان يجب أن تكون مسألة السياسة السورية المركزية، التي يتم انطلاقا منها إنتاج الحياة العامة بما فيها من أفكار ومواقف ومصالح، رسمية وشعبية، ويتوقف علي الرغبة في حلها لصالح الوطن كل أمر آخر، وترتبط بها مهام السلطة والدولة والمجتمع، والتربية التي يتلقاها المواطنون، وأشكال التفاعل التي تقوم بينهم ومع الجهات التي تمثلهم، أحزابا ونقابات وسلطات.

لكن الجلاء يعتبر، في العقل السياسي السائد، مناسبة من الماضي تذكر بما حدث فيه مرة كل عام، فليس لها أي حضور تفاعلي مع الراهن، باستثناء تلك الاحتفالات والمهرجانات والمناسبات الخطابية، التي تقام لساعات قليلة هنا وهناك، ثم يطويها النسيان طيلة عام كامل، كأن البلاد ليس عندها مسألة وطنية، أو كأن الجولان ليس محتلا منذ حوالي أربعين عاما هي ثلثا تاريخ سورية المستقلة، أو كأن الدولة ليست منقوصة أو منتهكة السيادة، وفق أي معيار قانوني ووطني وعقلاني، ما دامت عاجزة عن ممارسة شرعيتها علي جزء من أرضها الوطنية، وعاجزة عن استعادته سلما أو حربا، بعد أن تحول إلي قضية ـ فرعية ـ من قضايا السياسة، ودخل في ملابسات تضعه تحت عناوين كثيرة ليست ذات أهمية مركزية، وصار مجرد الحديث عنه مؤجلا للمناسبات، في غير علاقة السلطة بالداخل السوري، حيث تحريره مسألة تتوقف علي عدم وجود معارضة أو اعتراض، باعتبار أن العدو القوي لن تقهره سورية منقسمة علي ذاتها بسبب المعارضة، يضعف وحدتها ويشتت تركيزها ما يصدر هنا وهناك من نقد أو اعتراض، ويرفع من مطالبات بالحريات والإصلاح . هل من حاجة إلي القول إن ثمة هنا مفارقة غريبة: ذلك أنه في الوقت تلاشت فيه المسألة الوطنية نحو الخارج، نجد أنها تضخمت كثيرا، ولكن كمسألة سلطوية في الداخل، سلاحها الأقوي خطاب رسمي يكرر دون ملل ـ ودون قدرة علي الإقناع ـ أننا في مرحلة تحرر وطني تجعل التفاف جميع القوي حول السلطة قضية مقدسة، وتجعل من الخيانة ـ أو الضلال ـ إرباك من بيدهم الأمر والنهي من خلال طرح مسائل ـ قد تكون مهمة ومحقة ـ في وقت غير ملائم، يعني قبول السلطة بها تأجل التحرير وإدخال البلد في متاهات تخدم العدو المحتل والمتربص!

بسبب هذه المفارقة، التي حولت مسألة مركزية إلي قضية داخلية من طبيعة محض سلطوية، ابتعدت المسألة الوطنية عن الوعي العام، وغابت وراء ألف مشكلة ومشكلة، وازدادت ضبابية وغموضا، وصارت رهنا بأوضاع دولية تارة، وعلاقات عربية طورا، ألقيت مسؤولية الآثار السلبية، التي تترتب علي العجز عن حلها، علي هذه الجهة أو تلك، دون بينة أو دليل. بل إنه مر حين من الدهر كان ممنوعا فيه حديث السوريين عن الجولان، لأن حديثهم عنه كأرض محتلة كان يسيء إلي أجواء تضج بأحاديث انتصارات القيادة في كل ميدان وصعيد. لذا، لم يبق له مكان علي ألسنة بنات وأبناء الشعب، وسياسات السلطة، وأدخل موضوعه، الشديد الوضوح، في تعقيدات غامضة، نأت به أكثر فأكثر عن الوعي الوطني والعام، خاصة بعد فصل القوات عام 1974، الذي حوله إلي جزء بعيد وهامشي من الوطن، وربط مصيره بألف مجهول ومجهول، ففقد نهائيا مكانته وصفته كمسألة مركزية للدولة والمجتمع في سورية ـ وصفه أحد المسؤولين في حديث مع الكتاب بجملة ها الكام صخرة ، منه تبدأ السياسات والمصالح، وبمعياره تقاس، وإلي تحريره تؤول

أين نحن من الجلاء، جلاء الصهاينة عن أرض الوطن، وليس جلاء الفرنسيين عن أرض سورية، الذي حققه آباؤنا وأجدادنا بغالي التضحيات، بعد أن جعلوا منه هدفا لهم لا يعلو عليه هدف، وكرسوا حياتهم لتحقيقه، وعملوا من أجله واستشهدوا في سبيله، واتحدوا وتآلفوا وتعاضدوا وتضامنوا، لعلمهم أن بلوغه رهن بوحدتهم وتآلفهم وتعاضدهم وتضامنهم، وأنه لا يجوز أن يغيب وراء أي قصد أو هدف غيره، وأن تحقيقه يتطلب جهدا يتخطي أي حزب وأية سلطة، لن ينجزه غير مجتمع حر لمواطنين أحرار، لحرية وطنه معني وجودي بالنسبة إليه، لأنه لا معركة بلا حرية ولا حرية بلا كرامة. عندما أيقن المحتل الأجنبي أن سورية بلغت هذا الطور، حمل عصاه ورحل، دون أن يلتفت كثيرا إلي الخلف.

واليوم، وسياساتنا لا تعتبر تحرير الجولان قضية تري بدلالتها قضاياها الأخري جميعها، في الداخل والخارج، وتعتقد أن تحريره ليس أمرا ملحا يستحق أن تخاطر من أجله بما في يديها، وتواجه مشكلة حقيقية هي أنها لا تستطيع العودة إلي لغة السلاح بعد أن أخفقت في لغة المفاوضات، مثلما لا تستطيع العودة إلي لغة المفاوضات لأن توازنات القوي لا تسمح لها بالعودة إلي لغة السلاح، فإن البلد يجد نفسه أمام خيارات صفرية، مع أن لدي شعبه من القدرات والطاقات ما يمكنه من خوض أي نزال، وقهر أي عدو، إذا ما توفرت الشروط التي أقامها إبان معركة الجلاء الأول، وتتلخص في نقطتين جوهريتين: الحرية والعدالة، المواطنة والمشاركة.

هذا التشابك بين المسألة الوطنية، التي تحولت إلي مسألة خارجية أو برانية، وبين المسائل الداخلية، جعل الجولان حاضرا في المناسبات، دون أن يترتب علي حضوره أية فاعلية داخلية حقيقية من شأنها أن تجعل تحريره ممكنا، وحوله من رافعة كان يمكن أن تستنهض الوطن إلي مشكلة تشحنه بالعجز والضعف، وتدفعه إلي مزيد منهما. بينما أيقن العدو أنه مكان لا يستطيع أصحابه إرغامه علي مغادرتها، مع أنه موقع أمني واستراتيجي خطير الأهمية بالنسبة إلي مصيره ومصير سورية، مكنه من امتصاص حيوية وزخم بلد كان يتحداه ويذكره بهشاشة مشروعه ووجوده، ومن ترويض شعبه ودولته، ومنحه القدرة علي التدخل في أي وقت لتحديد مصيره وتحديد شؤونه، فهو، إذن، درة عليه التمسك بها، خاصة وانه لا يواجه ما أو من يزعجه بسببها!

ليس الجولان، كمركز للقضية الوطنية السورية، وراءنا، إنه أمامنا بكل معني الكلمة، وسيبقي أمامنا إلي أن نستعيده: جزءا غاليا وعزيزا من الوطن، الذي فقد باحتلاله سيادته وكرامته، وسيسترد بتحريره دوره وتوازنه وعروبته وثقته بنفسه وقدرته علي التقدم وتحدي الأخطار

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى