صفحات ثقافية

الإسبانيّ خوسيه ـ ميغيل أويّان في آثاره الشعريّة الكاملة وحروفيّاته ورسومه: الشــعر بكــل الطــرق وفــي كــل الأمكنــة

null
كاظم جهاد

يشكّل صدور الأعمال الشعريّة الكاملة للشاعر الإسبانيّ خوسيه ـ ميغيل أويّان José-Miguel Ull?n حدثاً كبيراً كان قد طال انتظاره بخصوص شاعر عُرف عنه ميله إلى الطبعات الفنيّة المحدودة لدواوينه، وابتعاده عن الأضواء. صدرت الأعمال عن سلسلة »حلقة القرّاء«Circulo de Lectores ، التي تصدر عن منشورات »مجرّة غوتنبرغ«Galaxia Gutenberg في برشلونة، والمكرّسة لنشر الآثار الكاملة لأدباء إسبانيا وأميركا اللاتينية وبعض الأدباء المترجمين إلى القشتاليّة. حملت آثار أويّان الشّعريّة العنوان الشامل »تموّجات«Ondulaciones ، وصاحبتها مقدّمة طويلة للشاعر والناقد الإسبانيّ ميغيل كاسادو Miguel Casado تشكّل مدخلاً تحليليّاً إلى شعر أويّان في مختلف مراحله وتطوّراته. وفي الأوان ذاته أصدرت الدار نفسها »ديواناً« آخر يضمّ رسوم الشاعر الملوّنة وتحبيراته، حمل عنوانAgrafismos ، وسأعود إلى تفسيره في ظلّ الأعمال نفسها المتضمّن عليها هذا الكتاب. يصاحب الرّسوم تقديم كتبته الشاعرة والناقدة الاسبانيّة أولفيدو غارثيا بالديس Olvido Garc?a-Valdés، تقيم فيه جسوراً بين شعر أويّان وعمله الفنيّ.
في قسم أوّل من هذه القراءة الاحتفائيّة بهذا الحدث المزدوج، سأحاول التّعريف بإسهامة الشّاعر في إطار القصيدة المحض. في قسم ثانٍ، سأتوقّف عند أشكال »شغبه« على القصيدة واقتياده لغة الشعر إلى ممارسات أخرى تُفجّرها وتُغْنيها.
تحوّلات القصيدة
ولد خوسيه ـ ميغيل أويّان في بيّارينو ده لوس آيرس Villarino de los Aires قربَ سلَمَنكا Salamanca في .١٩٤٤ حالَ اكتمال دراسته الجامعيّة في العلوم الاجتماعيّة والفلسفة بمدريد، هاجرَ في ١٩٦٦ إلى باريس ولم يعد إلى بلاده إلاّ بعد رحيل فرانكو. برز منذ سنيّه العشرين بمجموعات شعريّة تميّزت بغنائيّة ناضجة موضوعة تحت شعار التمرّد، وبنوعٍ من الغموض الحيويّ والإضمار البارع: »مفكِّرة« و»حبّ جزيريّ« و»قوة إنسانية«. بعد ذلك تعزّز ميله إلى كتابة الشّذرات وقصيدة النثر البالغة التكثيف، وبتوظيف بارع للسّخرية بها يفكّك التصّورات السّائدة ويردّ الاعتبار لعمل الفلسفة داخل الشّعر من جهة وللحياة اليوميّة من جهة أُخرى. شاعر باتَ يتحرّك في الأخدود العريض الذي حفره في الشعر الفرنسيّ رينيه شار، ومن بعده جاك دوبان، الذي ترجمَ أويّان نفسه عدداً من أشعاره إلى الاسبانية.
قد لا يكون شاعر حملَ قبل أويّان للإسبانية مثل هذا الثّراء في التجريب وابتكار الأشكال والمعاني وإمكانات الكلام، وتنويع الكتابة الشعريّة التي حرصَ هو، في قصائده نفسها أو في لوحاته الحروفيّة ورسومه، على »تزويجها« مع الصّورة الفوتوغرافيّة والرّسم والخطّ وإلى تفجيرها من داخلها.
كلّ شيء بدأ عند هذا الشّاعر بهيمنة لغويّة واقتدار غنائيّ لا يقدر بدونهما شاعر أن يطمح إلى تكسير »لغة القبيلة« تكسيراً مبدِعاً فيما بعد. ومع أنّ الشّاعر لم يُدرج في آثاره الكاملة هذه مجموعاته الشعريّة الثلاث الأولى المشار إليها أعلاه، فسأبدأ بالتعريف بها لتبيان تدرّج مسيرته الشعريّة. بوجازة وكثافة يتفجّر الألم الاسبانيّ كلّه في قصائد أويّان الأولى. كتب في شذرة مبكّرة أسماها »غوياويّة« (نسبة إلى الرّسام الاسبانيّ الشّهير غويا Goya، المعروف خصوصاً بسلسلة لوحاته السّوداء): »مع بزوغ الفجرِ سنمضي/ بدونِ رجاء/ ولا قناعة«. وفي »قوة إنسانيّة«، المهداة إلى بيثنته أليكساندره، كتبَ:
»الصّخرُ كانوا يَجهلونه، كما يجهلون الحركة النديّة لظلّه/…/ بانفعالٍ تنامُ الأجسادُ وتتوتّر/ الومضُ المعدنيّ للصّدمة/ يُلوّثُ بخارَ السلام/ ترْشح أسمالٌ قديمةٌ لمسيراتٍ فذّة…/ يحبّون أيدياً عاريةً، خصلاتِ شَعرٍ آسرةً، أجفاناً مستحوِذة/ يحبّون حقداً كاملاً متحرّكاً، مطراً بشريّاً…/ ومعَ ذلكَ فهؤلاء المعتقَلين/ في البركة الواسعةِ للدّم/ يجهلون الدّمعة المنفيّة على الشّفَة/ نظيفةً ولاذعةً، وذلك الدّوار/ يعجنهما إنسانٌ ملموس/…/ تركَ شاهدةً لقبره: »أحَبَّ أن يُحِبّ«…«.
وعلى امتداد القصيدة ـ الدّيوان »حبّ جزيريّ«، نقابل تجاور الحبّ والعنف، عنف النضال المضادّ لفرانكو وعنف الحياة في المنفى. عنف يستبطنه الحبّ نفسه ويهبه صيغة عادلة وفعّالة، والكلّ ينمو في ظلّ وعدٍ بوئام عاشق ينقذ القصيدة، كما لدى إيلوار ولوركا، من غواية الخطاب الجماهيريّ وبلاغته النّافلة. إنّ غنائيّة الشّاعر ابن عشرين سنة الذي كانه أويّان يومذاك قد خطّتْ له باكراً مسلكه الخاصّ في معالجة الكلمات القشتاليّة، وباكراً عادتْ له بكلمات تقريظٍ من لدن أوكتافيو باث وآخرين من أساطين هذه اللّغة يضيق المجال عن اقتباسها هنا. لنسمع كلمات الشّاعر نفسه:
»إنّني أُرهِفُ الحكايةَ بمقتضى اللاّمتعيّن/ فوق ذلكَ العنفِ عنفُ أن نتحابَّ رغمَ كلّ شيء/…/ منزلُنا سنَبنيهِ من دونِ معرفةٍ بإعداد الخُبْزِ غير المُخمَّر/ سأقطفُ خزامى لأفرشَ الأرض/ سيَولدُ طفلٌ بين ذراعَينا وَسنسمّيه/ »قيصرَ« على اسم الصّديق الرّاحل/ لن يلزمنا سوى بعض الحَطبِ لإذكاء النار/ سأقولُ لكِ زوجتي ينبغي أن نجْمع الفتات/ وسنُدهش من الهواء إذْ يلوّننا وينادينا/ وعلى خاصرتكِ سَيتكسّرُ الغضب«.
مثل هذه الحياة المتواضعة لعاشقَين في حالة حصار أو في شرطِ نفي لا تمنع من استضافة الشّائق والعجائبيّ، بل بالعكس تحفّز على انبثاقهما: »أيتها الحبيبةُ الأختُ الزّوجة/ أمامَ المائدةِ المهيّأة/ حانتِ السّاعة ليقولَ أحدُنا للآخرِ باحتراس/ إنّ النّيازكَ منذ عصورٍ ما عادتْ لتمرَّ/ حانتِ السّاعة لِيُهدهدَ أحدُنا الآخر/ بِحَنان/ مع ملاعقَ وصلواتٍ لعيد الميلاد/ لا لشيءٍ إلاّ ليُفاجئ أحدُنا الآخر/ فماً لصْقَ فَم…/ ذلك أنّه سيكونُ بالغَ العذوبةِ يا حبيبةُ يا شقيقة/ سيكونُ بالغَ العذوبةِ أن تنمو أغصان/ ويكونَ على شجرةِ البرتقالِ إلهٌ من الهواء…«.
وفي قصائد من نمط »نواح فتاة يانكي نحوَ منتصف اللّيل« (و»اليانكي«، للمذكّر والمؤنّث، هي تسمية ازدرائيّة للأميركان البيض يُطلقها عليهم سليلو السكّان الأصليّين والمواطنون السّود)، يجمع السخرية إلى الاحتجاج السياسيّ ويغامر في انتهاج بساطة ينقذها عنصر المفاجأة من الابتذال. في هذه القصيدة يوظّف »كليشهات« الحياة الأميركيّة، وفي لمسة ختاميّة مفاجئة يردّها ضدّ مستخدميها، إذ تلاحظ الفتاة المتكلّمة في القصيدة عبور عشيقها المنتظَر إلى الضفة الأخرى، ضفة »الأعداء«:
»إلى فيتنامَ راحَ حبيبي/ ييه ييه ييه!…/ إلى فيتنام حبيبي راح…// منذُ سنةٍ يُقاتل/ ييه ييه ييه!…/ ووحيدةً أنا أبقى/ عدْ لترقصَ وإيّاي/ إعقدْ هدنةً للغرام/ إرجعْ بالباراشوت/ لتقتلني حُبّاً.//لسنةٍ أخرى يُقاتل/ آهٍ من البنتاغون!/ ولا يعودُ حبيبي/ بالبكاء أقضي الأيام/ آهٍ من البنتاغون!/ باكيةً يا حبيبي، باكية/ يُقالُ إنّ الغابةَ تحمل/ لونَ الحقدِ والدّم/ ولكنَّ حبيبي لا يرجع/ ليرقصَ وإيّايَ »الرّوك ـ أند ـ رول«.// إلى فيتنام راحَ حبيبي/ ييه، ييه، ييه!…/ لقد عبرَ إلى الفيتكونغ«.
هذا التمكّن من غنائيّة صاحية وعارفة بشراك الغناء تراجعَ لديه منذ نهاية العقد الستّينيّ في القرن المنصرم لمصلحة معالجة متطلّبة هي الأخرى لقصيدة النثر والقصيدة الحرّة غير الموزونة. عبارات مسكوكة تسمح للشّاعر بأن يستضيف شخصيّة ناقد نيتشويّ يراجع لغته ويمنح لنفسه الحقّ في »محاكمة« عصرٍ بأكمله. قصيدة لا تقبل بالصّمت إلاّ باعتباره مناورة وتهيئة لكلامٍ أمثل: »إعتناق الصّمت؟ كلاّ. بل يبحث الشّاعر عن الكابح وعن المهماز/ اللاّ ـ عزاء لغتُه، الفحشاءُ مقامه/ فلتُجمّدِ اليدُ هذه الكنوز«. أبيات معدودة تكفي لاستحضار الذّعر البارد أمام الموت الوشيك: »السّاعة المتردّدة للشتاء الأخير تتراءى في إهابها المدينيّ/ أينَ يا ترى ذهبَ المسافرونَ العَجِلون؟/ كانت صرخةٌ تطيرُ من فمٍ إلى فم«. يتذكّر الشّاعر منفاه القديم ويكتب: »في ذلك المنفى الجليلِ كانَ يأتلقُ همسُه العنيد شبْه الشبَقيّ«. ويعاين أشياء الواقع ويبارك قوّة العناصر باعتبارها مرآة لذاكرة القصيدة: »طوبى لذلك التيّار الذي يتحدّى بصخبِه الفكرَ والصّخر«. ومغنّي العشق الذي كانه هو يلقي الآن نظرة تهكّم ورأفة على الخطاب الغراميّ المعاصر، وعلى المهابة الباردة التي باتت تطبع حوار المحبّين: »ـ أما زلتَ تُحبّني؟/ ـ وأنتِ، ما تحسبين؟/ هكذا هما، هائلان، متوازيان، بطيئان، مَرِنان، وإسكيمونيّان«. هنا تصبح لغة الحكمة ممكنة، لا لشيء إلاّ للتذكير ببساطة يشكّل عملها تفكيكاً دائماً لرياءات البعض: »كلام ما بعد الموت يقضمُ العقباتِ فيما يهمس: »- لا تبحثْ في شجرةِ الخوخ عن التفّاح، وإذا ما غرّدَ الشُّرشور في جُنينتكَ فلا تنهرْه، لأنّه لا يقوم بذلك مثلَ هزار. قلْ بالأحرى للشجرة: لذيذةٌ هي ثمارُ الخوخ فيكِ؛ وللطائر قلْ: »بصوتِ الشُّرشور الذي لديكَ تغنّي أنتَ فرَحَ الشُّرشور«…«. أو هذه القصيدة ـ الجملة: »كافكا فلسطينيّ؟ لمَ لا؟«. جملة طلبَ الشّاعر من كاتب هذه السّطور أن يكتبها بالعربيّة وبهذه اللّغة وضعَها في الدّيوان إلى جانب صيغتها الأصليّة. قصيدة ـ عبارة تفجّر سؤالاً مدويّاً، كما تفعل وحدها العبارات المنحوتة ببراعة عالية والمعبّأة بكثافة مطلقة. فإذا كانت الكافكويّة هي علامة القلق الصّاحي والامتحان الوجوديّ الرّفيع، فلا لأحدٍ، ولا لشعبٍ، أن يحتكر رفعة القلق هذه.
تناسُخات الشّكل
إلى هذه المعالجات الشعريّة المحض، طوّر خوسيه ـ ميغيل أويّان José-Miguel Ull?n ممارسة تعدّدية يجمع فيها إلى الشّعر فنون »الكولاج« ومحاورة الحرف والخطّ والصّورة. مجموعة »عبارات« Frases (1974)، مثلاً، تقوم على إجراء مثلّث. يقدّم أوّلاً صفحات حروفيّة (أي تتبنّى فنّ الخطّ أو الكاليغرافيا) تحتشد فيها علامات تتشبّه بالكتابة الصينيّة ولا يفهم القارئ منها بطبيعة الحال شيئاً بل هي موجودة هنا لتفاجئنا بغرابتها وجمالها التشكيليّ المحض. مع هذه اللّوحات الحروفيّة تتناوب صوَر فوتوغرافيّة توقفنا على لحظات شديدة الخصوصيّة سأصف عدداً منها. وبمثابة تعليق على هذه اللوحات والصّور نتلقّى كلّ مرّة عبارة تتوزّع كلماتها على امتداد صفحة. هذه العبارات ينتقيها الشّاعر ممّا يسمعه في الحياة اليوميّة وما يبدو له مكتنزاً بقوّة المفارقة أو الكشف الشعريّ. يقدّم لنا الشّاعر مثلاً صورة للوحة رعويّة وأمامها يخطّ عبارة ملتقطة من حوار عابر: »مارّينَ بهذه القرية أكلَنا من ثمارها، وشَربْنا من مائها«. أو يرينا حجرة نظيفة، فارغة تماماً، ينطق السّرير فيها بغياب ساكنها، ويكتب: »المسألةُ تفسيرُها غايةٌ في البساطة«. تليها صفحة معبّأة بعلامات تتشبّه بالكتابة الصينيّة، علامات بلا فحوى كما أسلفتُ في القول، ولا تحمل سوى انتظامها الخاصّ وطبيعتها الملغزة، وتقابلها العبارة: »أصاخَ سمَعه: وإذا بالمطر يجْلد النّوافذ«. كأنّ تشبيهاً مضمَراً (مطر العلامات يحيل إلى مطر السّماء وبالعكس) يهب الصّفحة بداهتها الغائبة. أو يصوّر الشّاعر دمية فرحة إلى جانب مقصّين، ويكتب: »لقد تواصلتِ النّدوة أثناء الأكل«. أو يرينا ورقة بيضاء مجعّدة قليلاً تذكّر بغياب الإلهام أو ما يُدعى بامتحان الورقة البيضاء، وإلى جوارها العبارة: »ببالغِ العُسْرِ داريتُ اضطرابي«. أو رقعة شطرنج ينتصب فيها بيدق واحد انتصاريّ الوقفة، تواجهه جملة: »حدثَ كلُّ شيءٍ بمثْلِ هذه السُّرعة«. هذه العبارات الملتقطة من أحاديث النّاس في المحلاّت العامّة والمغروسة في إطار جديد إنّما تشيع مناخاً تتفاعل فيه الكلمة والصّورة بما يتمخّض عن توتّر وتلاقح دائمين بين الكلام الشعريّ و»قرينَيه« الأساسيَّين، الصّورة الفوتوغرافيّة والإجراء الحروفيّ. يتلقّى المرء هنا ما يشبه صعقات كهربائيّة آتية من المفاجأة ومن سعي دائم لإحباط غواية اللاّ ـ معنى بسلسلة من المعاني لا يعدم أن تتشكّل في ذهن القارئ بمقتضى عمل مخيّلته الخاصّ وطريقته في الإجابة على سؤال الصّورة. قارئ مشارك في العمليّة الشعريّة، ومورَّط فيها بقوّة. وليس يخفى ما في هذا الصّنيع من ردّ للاعتبار إلى كلمات الحياة اليومية وللمخيال الجماعيّ، ينطق أحياناً بدُرَر الكلام على غير وعيٍ منه.
في »متسكّع مريض وقعَ في الغرامِ حيثُ طبِّب« (١٩٧٦)، يتقدّم الشّاعر أحياناً بعبارات لا تصحبها صوَر، ولا رسوم، ولكنّها تقوم على المبدأ ذاته: اقتناص المقولة الفالتة من لا شعور قائلها، والحاملة لشحنة شعريّة لا يدركها هوَ، واللّعب على البنية اللّغوية للحكَم والأمثال: »عندَما يكون الطّقس أكثر اضطراباً وغلْظة/ في شبكةِ الحبّ العذبةِ هوَ عالِق/ كنْ هنا فحسْبُ واسألني الغَيرةَ أحياناً/ لِنَخرجْ فالآنَ يبدأُ ذعرٌ جديد/ لذلكَ الوطنِ العذبِ البالغِ الوداعة/ الحقدُ يتفاقمُ الصّداقةُ تُنْسى/ رازحونَ تحتَ آلافِ الأسلاك الوحشيّة الشائكة/ أن نجرؤ على الخشْية والحبِّ والكُرْه/ ريشةٌ تحتَ الشّمس في أقواسٍ مهيبة/ في السّلْم الرّجراجِ لهذه العُزلات/ مَحاورُ ألماسات الأرض/ ماءٌ ودخانٌ لا غيرَ طيلةَ لَيالٍ ولَيال/ اللّون متوقّدٌ النّفَسُ لاهث/ أيّها الإنسان الفاني فلتكْسُرِ الدّائرة«.
على امتداد مجموعة شعريّة كاملة (»إنذار« Alarma، ١٩٧٥)، عمل أويّان على تطوير تقنيات غيّوم أبولينير في »الكاليغرام« (القصيدة التي تشكّل في توزيع أبياتها وتنضيد كلماتها ما يشبه رسماً) ومهارات السورياليّين في القصيدة ـ الكولاج والكتابة التلقائيّة والعمل الفنيّ الجاهز، وأضاف إليها تقنية من ابتكاره يمكن أن ندعوها مؤقّتاً، وفي انتظار تسمية أفضل، »قصيدة تشطيبيّة«. يأخذ الشّاعر صفحة من جريدة ويمارس عليها تشطيباً فنيّاً. التشطيب نفسه لا يخلو لديه من مسحة جماليّة ويعرب عن مخيّلة لاعبة في توزيع الخطوط. ومن نصّ الجريدة وكلماتها الإعلاميّة يختار كلمات منبثّة في سطور عديدة ويحيط كلاًّ منها بمربّع أو مستطيل. تقرأ على التوالي الكلمات المنتقاة على هذه الشاكلة فتظفر بسلسلة »أفوريزمات« (توقيعات شعريّة وعبارات ساخرة أو حِكَميّة).
مجال القصيدة الصّوتيّة هو الآخر لم يفت أويّان أن يبرع فيه، ودائماً بالهدف ذاته: توسيع إمكانات القصيدة واستفزاز غياب الدّلالة وضخّه بمعنى ممكن ولو بشاكلة أُخرى غير قاموسيّة. قصيدته »تحيّة ثناء إلى خوسيه خوان تابلادا«، مثلاً، ما هي إلاّ سلسلة تنويعات صوتيّة على حروف بذاتها تنشأ منها كلمات بلا معنى، لا ـ كلمات في خاتمة المطاف، نقتطف منها بضعة تشكيلات: »آسال ريخاو/ خاري لاساو/ سالاري خاو/ خاريسا لاو// ريخال آساو/ ليخ آوراسا/ أوخاريلاسا/ ليخا أوراسا// أوراخ آسالي/ إيلسارا أوخا/ آسخار أولي/ ساولاري خا«، إلخ. طوال أربع صفحات يتواصل مثْل هذا التوليد الصوتيّ المحض. حضرتُ مرّة قراءة لهذه »القصيدةس بصوت الشّاعر، وشاهدتُ كيف راح الجمهور يستجيب لهذه التنويعات بضحك طفِقَ يتعالى منذ مقاطعها الأولى، ضحك محرّر (بفتح الراء المشدّدة وكسرها) لا مراء في أنّه هو هدف الشّاعر. وما على القارئ الذي يشكّ بفضيلة هذا الابتكار سوى أن يردّد المقاطع بصوتٍ عالٍ، مضيفاً إليها تشكيلات من عنده إذا ما طاب له ذلك.
هذه العناية بـ »توائم« القصيدة أو »بدائلها« (الحرف والخطّ الجميل والضّوء والظلّ والصّورة والصّوت) كان منطقيّاً أن تقود صاحبها إلى الرّسم. نجد بياناً عن هذا في كتاب »أغرافيسموس« Agrafismos الصّادر بالتزامن مع آثار أويّان الشعريّة الكاملة. يضمّ الكتاب تصويراً بالألوان لثلاثمئة وعشر من رسوم الشّاعر وتحبيراته. عنوان المجموعة يحيل إلى الكتابة الشعريّة ولو عبر غيابها المضطَلع به: تدلّ المفردةgrafo ؟ على »مَن لا يعرف الكتابة«، أي »الأمّي« بمعنى من المعاني. وباجتراح الشّاعر انطلاقاً منه المفردة ؟grafismos، فهو يمنح لرسومه هذه تسمية »لا ـ كتابات«: تتقدّم الرّسوم لا باعتبارها نفياً للكتابة بل بما هي بدائل تكميليّة لها ووسيلة للتحرّر منها في آنٍ معاً. ثمّ إنّ العنوان الشّامل الذي وهبه الشّاعر لآثاره الشعريّة الكاملة (»تموّجات«) شكّل عنواناً ثانويّاً للرّسوم، بما يجمعها بديوان أشعاره بصورة ولا أوثق. في هذه وتلك يتعلّق الأمر بتموّجات، أي ما تدعوه أولفيدو غارثيا ـ بالديس، في تقديمها للرّسوم، انتقالاً »من المنتظم أو النّسَقيّ إلى المفتوح«. يتذكّر المرء انهمام بول كلي وهنري ميشو وسواهما بحوار النصّ والصّورة، ولكنّ المعالجات مختلفة هنا تماماً. هنا يهيمن الشّكل »الأفعوانيّ« أو المتموّج، واللّولب والدّائرة، ونزعة خيطيّة وشُعَيريّة دائمة الحضور. قوّة النّمنمة التي تشكّل السّمة البارزة لهذه الأعمال تعيد إلى الذّهن ممارسة أويّان لـ»الأفوريزمات« الشعريّة وقصيدة البيت الواحد. وعليه، فإنّ قانوناً واحداً، قائماً على الوجازة وضربٍ من »فوريّة« الأداء، يوجّه كلاًّ من شكل القصيدة وقصيدة الشّكل.

(كاتب عراقي مقيم في باريس)
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى