صفحات مختارة

مرايا الواحد

احمد بزون
لا أريد التحدث في السياسة، لكنني كلما احتدم السجال السياسي عندنا، وتصاعدت وتيرة التحديات، تذكرت «بروكوست» قاطع الطريق في الأسطورة اليونانية، الذي كان كلما صادف عابراً مدّده على سريره، إذا زاد طول رجليه قصهما، وإذا نقص مطّهما.
صرت أحلم كثيراً بقطع رجليّ لأكون بمقياس النموذج المطلوب لمواطني دولة المستقبل، بل رحت أحلم بأنني ممدد على السرير، فوق رجليّ منشار يشلّ دماً.
لا أريد التحدث في السياسة، لكني بت أخشى كثيراً من فكرة توحيد الوطن، ومن أحزاب الوحدة كلها، حتى أنني بت أخشى الوحدة العربية، وكذلك ما يسمى بالعولمة… إنها رغبة قاتلة في التوحيد، في جعل العالم على نموذج واحد، ومقياس واحد. يخيفني صندوق البندورة أو الليمون أو الخيار الموحد الحبات، وشروط السوق الأوروبية في توريد الإنتاج الزراعي. وكثيراً ما تقلقني العمارة التي اجتاحت العالم على أنها توحيد لمساكن الناس، كأنها مقدمة لتوحيد من في داخلها.
حتى المهرجانات والفرق الاستعراضية واللوحات والمنحوتات والمسرحيات، وما إلى ذلك من ثقافات من المفترض أن تميز شعباً عن آخر، باتت موحدة أو تتجه إلى الخضوع لنموذج واحد، وإلا فالنقد سوف لن يبقي منها شيئاً ولا يذر، بل المقاطعة، ثم اتهام من يحافظون على بعضِ تميزٍ بالتخلف.
لا أخاف من السياسة عموماً، لكن السياسة عندنا باتت أداة عنف وتهديد وإلغاء وهيمنة وإرهاب، حتى أنها لم تعد بوجه من وجوهها فن الممكن، ولا فناً ممتعاً أبداً. بات سماع الأخبار يتزاوج مع الأفأفة والخوف والتوتر والقرف والشعور بأن المواطن مرفوس تحت أظلاف الزعماء الأحصنة، الذين، وإن اختلفوا في الأهداف والأخلاق والإيديولوجيات والانتماءات الفكرية والاجتماعية والدينية والمذهبية، يتساوون في أمر واحد هو الطموح إلى جمهور لا طويل فيه ولا قصير، إلى واحد يتزايد ويتزايد ليصبح بحجم الوطن. حتى حلفاء اليوم إذا انتصروا وطوّعوا الطرف الآخر ليكون بمعدل الطول المطلوب، سوف يعود زعيم ليخضع الحلفاء لطاعته، كون طبيعة الزعماء الذين نعيش تحت رحمتهم ينتهون إلى نشوة لا حدود لها كلما تضاعفوا في المرآة، ولا تقر لأحدهم عين إلا عندما يلغي الآخر من جذوره.
أعرف أن ما أكتبه الآن لن يجدي نفعاً، لكنني أتمثل بالمؤمنين الذين يبسملون في سرهم كي يطردوا الشياطين من العتمة. إنها العتمة التي لا يضيء فيها إلا منشار «بروكوست»، ولا مجال للهرب من هذا الكابوس، بل لا مجال للهروب من عتمة تزدحم فيها الكوابيس، حتى أن الكوابيس نفسها تبدو لي كأنها تتقاتل ليخضع كبيرها الآخرين لسطوته.
هكذا يكون التوحيد. والغريب في الأمر أن اللغة باتت واحدة لدى كل طرف، على أمل أن تتوحد في لبنان كله، فلم نعد بعد ذلك نتواجه مع الكوابيس، لأننا حينها نصبح داخل كابوس بحجم الوطن، يغمرنا بحنينه الدموي. بتنا نحفظ تماماً ماذا يقول كل زعيم في السر والعلن، لأنه كلام واحد مكرر، لا يحتاج إلى تبديل أو تغيير، وما علينا، إذا طلبَنا «بروكوست»، إلا أن نحضر حاملين الأسرة معنا.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى