ميشيل كيلو

قصة اعتقالي واتهامي



            ميشيل كيلو

أود أن أعرض رؤيتي لما جرى من ملابسات ووقائع في قضية ما سمي إعلان بيروت/ دمشق، وما ترتب عليها من توقيف أمني طالني منذ سبعة أشهر،

 

 حدثت خلالها وقائع محيرة مفعمة بالغوامض، غير المقبولة بأي معيار قانوني أو قضائي أو حتى سياسي، الغرض منها إلحاق أكبر قدر من الضرر المادي والمعنوي بي شخصياً، لأسباب جلية هنا غامضة هناك، في سياق يستخدم فيه القضاء كأداة، بينما تتم ممارسة قدر كبير من تضليل الرأي العام عبر إيهامه بوجود مؤامرة رهيبة ذات خيوط خفية أنا مدبرها ومركزها، ولابد أن أكون، إذن ضحيتها .

والآن لنبدأ من البداية، فقد دار التحقيق الأمني حول الإعلان بما هو وثيقة وضعتها قوى 14 شباط اللبنانية، وقعها المثقفون السوريون، وطرحت علي أسئلة تتصل بقانون الأحزاب، ثم تركز الحديث حول بنود الإعلان، وخاصة منها التحقيق الدولي في مقتل الحريري، والحديث عن مافيا سورية/ لبنانية مشتركة، وتم النقاش بكياسة ولباقة، وخوطبت خلال التحقيق كوطني سوري مشهود له بالوطنية، وقيل لي أكثر من مرة إن وجودي في الأمن لا ينتقص من قيمتي كمفكر سياسي وطني وكمثقف نزيه مشهود له بالنزاهة، ولا صلة لي بأية جهات داخلية وعربية وخارجية مشبوهة أو معادية. وقد حدثتهم خلال التحقيق بكل صراحة عن الأسباب التي جعلتني أوقع الإعلان، وأعلمتهم بأنه مستلهم في روحه ومعظم نصه من كتابات مثقفين سوريين كثيرين أسهمت فيها شخصياً بقسط وافر، دارت منذ عام 1990، قبل مقتل الحريري بخمسة عشر عاماً، وقبل تشكل تيار آذار او شباط بعقد ونصف عقد، كما أنه مستلهم من أن علاقات سورية بلبنان ستقوم على مشتركات التاريخ والدين والثقافة والمصالح والأهداف المشتركة والآمال الواحدة، أي من عين القيم والأسس التي كنا قد أكدنا عليها كمثقفين، في كتاباتنا، بعد أن تبينت عيوب ونقاط ضعف العلاقات السورية/اللبنانية، ولاح في الأفق خطر تدهورها، وخطر استغلال أميركا وإسرائيل لها، مع تبدل الوضع الدولي عقب انهيار الاتحاد السوفييتي ثم احتلال العراق أميركياً، وللحق فإنني عندما وقعت الإعلان كنت أعتقد أنني أدعم التوجهات التي تريد تصحيح علاقة مع البلد الشقيق شابتها سلبيات عديدة، اساءت إليها ولعبت دورها في الوضع المشؤوم الذي آلت إليه، قلت للمحققين في الأمن أن الجوهري في الإعلان لا يجوز أن تفوتهم رؤيته، وهو يتركز على الإشادة بالتعاون السوري/ اللبناني الذي أدى إلى خروج الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب دون قيد أو شرط، وعلى مطالبة الموقعين بعدم تحول أي من البلدين إلى ممر أو مقر ضد البلد الآخر، ضد دولته ومجتمعه ومصالحه، وإصرارهم على بقاء جهود البلدين موحدة من أجل تحرير الجولان وبقية الأراضي اللبنانية المحتلة، ومطالبتهم بإرساء العلاقات السورية/ اللبنانية على أرضية التاريخ والثقافة والمصالح والآمال والأهداف المشتركة، التي تكفل أخوتهما ووحدتهما وتجعلهما حصينين على الاختراق الخارجي أو التخريب والإضعاف، وعبت عليهم نظرة تتجاهل هذا كله، وتساءلت إن كانت أميركا والصهيونية تدعم موقفاً كهذا، وما إذا كانت قوى 14 آذار تؤيده، وقلت: في حال كانت تفعل هذا، أين المشكلة معها؟! وأكدت أن واشنطن وتل ابيب تسعيان إلى فصم علاقات سورية ولبنان، وإلى شحنها بالأزمات والمشكلات المتفجرة، وأن الإعلان يستهدف العكس، أي إدخال سورية إلى قلب وعقل كل لبناني، بدءاً بإزالة الخلافات القائمة، التي يؤكد الإعلان وجودها بلغة استنكارية، ولا يعطيها أي حكم قيمة، أو يشير إلى الجهة المسؤولة عنها، لأن هذا يدخل في باب السياسة اليومية، وهو يريد نفساً متجاوزاً لها. اعترض أحد المحققين، عندئذ، على ذكر التحقيق الدولي، فذكرته بتصريحات الرئيس الإيجابية المتكررة عنه، وحين قال اننا نتهم العمال السوريين بالضغط على أجور العمال اللبنانيين، قلت: في كل حالة يكون فيها احتياطي عمالة كبير، يتم الضغط على أجور العمال، هذا قانون اقتصادي لا علاقة له بجنسية العمال، فقال: الإعلان تقسيمي يطالب بالاعتراف الدبلوماسي وبترسيم الحدود فرددت : إنه لا يطالب بهذا ويسكت، بل بين السبل والأسس التي تضمن وضعها في سياق يلغي الحدود ويحول العلاقات عن طابعها الدبلوماسي الرسمي، التقسيمي بالفعل، ويرسم نهجاً جديداً لوحدة البلدين والعرب، أساسه قوس واسع جداً، وواقعي جداً، من المشتركات التي من شأن حرية البلدين والشعبين وإرادتها المشتركة أن تفعّلها، وتساءلت إذا كان هذا يخدم الخارج والأعداء، وأكدت أنني لا أقبل أن يضعني أحد في غير المكان الذي أضع نفسي فيه: أعني مصالح سورية والعرب، وقلت أنني أتحدى أياً كان أن يثبت بأي دليل أنني استخدمت طيلة حياتي لجهة أو لحزب أو لدولة أو لتيار، داخل سورية وخارجها، فأنا لا أريد أن اكون إلا رجل فكر وصاحب موقف، ثم طلبت إلى المحققين مواجهتي بما يثبت وجود ارتباط لي بأية جهة، فتحدث أحدهما عن تلازم الإعلان مع قرار مجلس الأمن رقم 1680، فرددت بأن المنطق ينفي أن تكون هناك بالضرورة علاقة سببية بين الأحداث المتزامنة، وأن هذه قد تكون من طبيعة متناقضة أو مختلفة، وأن اخذ سورية ولبنان بالأسس الواردة في الإعلان لا يخدم الخارج بل يحول دون خدمته، وأن أميركا وإسرائيل تخشيان وتعارضان قيام علاقات عربية ذات أسس ومشتركات شاملة، تستند إلى تاريخ العرب وثقافتهم ودينهم ومصالحهم وتطلعاتهم ورغبتهم في الحرية والتحرر، لأن اعتماد أسس كهذه يعني نهاية وجود نفوذ واشنطن وتل ابيب في الوطن العربي .

 

 

كررت الأقوال ذاتها عند قاضي التحقيق، الذي لم يسأل عن علاقتي بأي شخص أو جهة، بل ركز أسئلته، شأن محققي الأمن، عن عدد من مقالاتي وإعلان بيروت/ دمشق، لكنني فوجئت بعد شهر من توقيفي بما يلي: فقد فرض الأستاذ مروان اللوجي، المحامي العام الأول في دمشق، على أربعة من الموقوفين معي توقيع إقرار يقول: إن ميشيل اتفق مع خدام على الإعلان مقابل إطلاق سراحهم فوراً. حدث هذا رغم إنكار هؤلاء أنهم وقعوا الإعلان، ورغم أنهم أخبروه بعدم وجود علاقة بينهم وبيني، وبأنهم لا يعرفونني شخصياً ولم أعرض عليهم توقيع الإعلان أو أدعوهم إلى ذلك! بعد حين، نشرت السيدة ماريا معلوف يوم 11/6/ 2006 مقالة في جريدة الثورة تزعم فيها أن التحقيقات أثبتت أنني التقيت مروان حمادة في قبرص وتلقيت منه أموالاً دفعتها لموقعي الإعلان، وقد أرسلت تكذيباً إلى الجريدة، لكنها رفضت نشره، وأقمت دعوى على السيدة معلوف يرفض المحامي العام إلى اللحظة قبولها، وتالياً تمكيني من الدفاع عن نفسي وإظهار الحقيقة .

 

 

أخيراً أصدر قاضي الإحالة قراراً بإخلاء سبيلي، أسوة بمن اعتقلوا معي، الذين كانوا قد أخلي سبيلهم قبل قرابة شهر، فألغاه الأستاذ اللوجي رغم أنه استئنافي، أي قطعي ومبرم ولا يقبل الطعن أو النقض، وفبرك فصلاً للدعوى يوم 21/10، وهو يوم عطلة قضائية، لأنه يوم سبت، كأن فصل الدعاوى يلغي القرارات القضائية القطعية أو يتعارض مع محاكمتي طليقاً، كما بادر الأستاذ اللوجي إلى فبركة جلسة محاكمة أولى وعاجلة يوم 30/10 مع أن المحامين الذين يدافعون عني طعنوا في قرار فصل الدعوى، مما جعل جلسة المحاكمة غير شرعية وقانونية بدورها، لأنه لا يجوز عقدها إلا بعد صدور قرار محكمة النقض حول الطعن، وللعلم فقد حال الأستاذ اللوجي دون وصول الطعن إلى محكمة النقض حتى اليوم، مرتكباً بذلك رابع مخالفة جسيمة للقانون خلال ستة أشهر فيما يتعلق بي، وضارباً عرض الحائط بالقضاء والعدالة، ومتجاهلاً حديث رئيس الجمهورية إلى جريدة “البايس” الإسبانية حول “القضاء العادي” الذي يحاكمني، وحول عدم جواز تدخل أية جهة في المحاكمة. وإنني لأتساءل، إن كان من مهام المحامي العام تلفيق تهم للمتهم لا وجود لها في التحقيق كما في التكييف القضائي، وأتساءل كيف يمكن إخلاء سبيل من وجه القضاء إليهم تهمتين جنائيتين، ولا يمكن إخلاء سبيلي مع أن القضاء لم يوجه إلي غير تهمة جنائية واحدة، ولماذا يستهدفني الأستاذ اللوجي بكل هذا الإصرار، ولمصلحة أي وطن وأية جهة يفعل ذلك، ولماذا لا يوجه إلي، بكل بساطة، تهمة الاتصال بخدام وجنبلاط ومن يشاء، ويحاكمني رسمياً على ذلك، وللعلم، فقد أثرت هذا الموضوع مع قاضي محكمة الجنايات الثانية، وقلت إنني موقوف بتهمة وأحاكم بغيرها، أي بتهم غير معلنة، وأطالب بتوجيه تهم رسمية إليّ هي الاتصال بخدام وغيره، و تساءلت إن كان بوسعي إقامة دعوى ضد نفسي بالتهمة المذكورة، إن استمر المحامي العام في سلوكه المتنافي مع القانون والعدالة، والذي أدى إلى حجز حريتي، أي إلى ارتكابه جريمة يعاقب عليها القانون بالسجن فقال القاضي: أنه لا يستطيع الدخول في موضوع يمس زميلاً من القضاء، وأنه لا يريد إعطاء رأيه في أفعاله !

 

 

أكرر اليوم أن الإعلان صدر عن مثقفين ولم يصدر عن سياسيين، وأن من وقعوه أعلنوا في مقدمته أنه ملك لهم وليس لأي حزب أو تيار، وقد قلت بعد نشره في حديث مع إذاعة مونت كارلو أنه ليس موجهاً ضد أحد، وليس موقفاً سياسياً مع هذه الجهة أو تلك، بل هو موقف تاريخي ضد وضع عربي لا يطاق، وأنه ليس إعلان تحريض بل إعلان مصالحة هدفه الوحيد إرساء علاقات سورية ولبنان على أسس صحيحة، تصلح أساساً لعلاقات عربية من نمط جديد، عصية على الاختراق الخارجي وقادرة على خدمة الأمة ومصالحها على خير وجه، لأنها تحظى بتأييدها ومن صنعها .

 

 

واليوم، وبعد سبعة أشهر على وجودي في السجن، أراني أتساءل: هل صحيح أنه تم توقيفي بسبب إعلان هذه أسسه وأغراضه وخلفياته؟ ولماذا هذا الإصرار على تلفيق تهم ضدي ما أنزل الله بها من سلطان، كالتعامل تارة مع جماعة 14 آذار وطوراً مع خدام؟ ألا يعرف أصحاب هذه التهم أنني كتبت ضده مقالات عديدة وهو نائب رئيس الجمهورية، وأنه أرسل لي تهديدات متكررة باعتقالي، وأخبرني أن صلاحياته السيادية تمكنه من زجي في السجن، لكنني لم أقلع عن انتقاده في مقالاتي، بينما كان بعض من يلاحقونني الآن يزحفون على بطونهم إليه ويخطبون وده؟ ألا يعرفون أيضاً أنني حذرت خلال اجتماع للجنة المؤقتة لإعلان دمشق، حين كنت عضواً فيها، من خدام، وقلت أنه يشكل تهديداً للمعارضة لأنه ينقل مركز ثقل عملها وقرارها من الداخل إلى الخارج، وأنه سيضعفها عبر شقها بعد أن توحدت لأول مرة بعد 8 آذار 1963؟ إنهم يعرفون هذا، إن كان صحيحاً ما يقولونه حول وجود تسجيلات لديهم عن جلسات اللجنة المؤقتة، وهم يعرفون كذلك أنني لم ألتق أو أتصل يوماً بأي لبناني يطالب بقصف دمشق واحتلال سورية، ولم أطلب من أي أجنبي الدفاع عني بعد اعتقالي، واليوم أيضاً، لابد من السؤال عن الفائدة التي جناها الحكم من اعتقالي الذي تحول إلى مشكلة، لأن مثقفاً أو تقدمياً أو وحدوياً عربياً واحداً لن يصدق أنني قمت بأي شيء من شأنه الإساءة إلى سورية أو العرب، أو أنني وقفت في صف غير الصف الوطني والقومي والتقدمي والديموقراطي، وياللعجب، كيف يتحول ميشيل كيلو إلى شخص غير وطني بعد اعتقاله .

 

 

ليس إعلان بيروت/ دمشق سبب اعتقالي. هذه قناعتي. وإذا كان هناك من يريد الانتقام مني لأنني رمز خط معارض، عقلاني ومقبول مجتمعياً، أو لأنني ركزت جهودي بنجاح على تطوير رؤية تقوم على أرضيات مشتركة للسياسة السورية، تتبناها قواها المختلفة، وتكون أساساً لمشروع وطني/ قومي جديد، بوسعه حماية البلد وتجديد نهضته والنهضة العربية دون تهديد وحدة سورية الوطنية أو الأمن العربي، فإنني أتفهم موقفه وإن لم أقبله، مع رجاء أوجهه إليه هو أن يمتنع عن وضعه تحت حيثية القانون والقضاء، كي لا يقوض القليل الذي بقي لهما من مكانة ودور .

 

 

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى