صفحات العالم

العراق وباكستان: “تأملات استخبارية”

سعد محيو
مرة أخرى يضرب “ويكيليكس” . ومرة أخرى تكشف ملفاته السرية عن الوجه البشع و”غير النبيل” لحروب الولايات المتحدة .
البداية كانت في أفغانستان، حيث أحدثت وثائق هذا الموقع الإلكتروني عن الممارسات اللاإنسانية للقوات الأمريكية صدمة أخلاقية لما تستفق منها أمريكا بعد . والآن، جاء دور العراق: 400 ألف وثيقة يتضمن بعضها الأرقام الحقيقية لضحايا الحرب العراقيين: 258 ألف قتيل وجريح، جلّهم من المدنيين، و700 عراقي قتلوا بالرصاص على الحواجز الأمريكية .
بيد أن هذا ليس كل شيء . ثمة ما قد يكون أهم: بدء الكشف عن القوى أو الأطراف التي تقف وراء العنف الطائفي في العراق . وعلى رغم أن الوثائق الأولى لويكيليكس أشارت فقط إلى دور نوري المالكي في تشكيل وقيادة جهاز سري للقيام بالاغتيالات والاعتقالات، إلا أن مواصلة التدقيق في بقية الوثائق لابد وأن توضح في النهاية أن العنف الطائفي كان في الواقع ألعاباً استخبارية من ألفها إلى الياء .
في السابق، كان أي حديث عن دور الأجهزة العراقية وغير العراقية في سفك الدماء باسم المذهبية لتحقيق أهداف سياسية، يُقابل سريعاً بصيحات الاستهجان المشوبة باتهامات الغرق في نظريات المؤامرة . كان يُقال إن المجتمع في العراق، كما في لبنان والعديد من دول المنطقة، هو مجتمع متكسّر طائفياً بطبيعته، ولا يحتاج إلى أجهزة سرية لحفزه على العنف والتطرف .
لكن يتبيّن الآن أن هذا الذي كان يُقال، كان هو نفسه جزءاً من هذه الألعاب الاستخبارية نفسها . وإذا ما كان هذا الأمر يبدو مسوغاً ومبرراً كأمر واقع بالنسبة إلى الأطراف الخارجية، إلا أنه يكون عبثاً وجنوناً حين تستخدمه قوى سياسية عراقية لأغراضها الخاصة أو حتى الشخصية . إذ إنها حينها تبيع جلد الأمن الوطني للبلاد في مقابل حصولها على غنائم السلطة والغلبة السياسية بأغلى الأسعار .
ثمة نموذج لهذه الخيانة الموصوفة لكل من قيم الوطنية والمبادئ الإنسانية، هو النموذج الباكستاني .
ففي ذلك البلد، كانت أجهزة الاستخبارات، خاصة جهاز “إس .أي .إس”، تقوم بتأجيج العنف الشيعي  السنّي عبر خلق منظمات متطرفة من كلا الطرفين، ثم تعمد إلى تقديم نفسها (أي الأجهزة) على أنها الضامن الوحيد للسلم الأهلي وللنظام السياسي .
هذه السياسة حققت لأجهزة الاستخبارات الباكستانية “نجاحات” باهرة . فهي مكّنتها من تقسيم وبعثرة الجسم السياسي في البلاد، وإجبار الشعب على الانحياز إلى خيار الأمن والاستقرار على حساب الحرية والديمقراطية، وأخيراً إحكام قبضتها على السلطة السياسية من خلال جعل القادة معتمدين عليها للبقاء في الحكم .
لكن، وفي مقابل هذه “النجاحات”، كانت أجهزة الاستخبارات تُدمّر النسيج الوطني  الاجتماعي لباكستان، وتحوّل الدولة إلى دولة فاشلة أو شبه فاشلة، وتتسبب في قتل وجرح وتشويه مئات الآلاف . هذا ناهيك عن أن الوحوش التكفيرية التي ترعرت في أحضانها، كطالبان باكستان، كانت أحياناً تشب عن الطوق وتعض اليد التي أطعمتها .
هذا النموذج الباكستاني، كما يتضح الآن، هو المطبّق في العراق . وطالما استمر الأمر على هذا النحو، عبثاً يبحث القادة السياسيون العراقيون عن الاستقرار لسلطتهم . فحين يُدمّرون استقرار وطنهم، يكون من المستحيل أن يحظوا هم بأي استقرار في السلطة .
وباكستان المُهشّمة عبرة لمن يريد أن يعتبر .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى