صفحات مختارةمرح البقاعي

في بعث “الفحولة” السياسية

مرح البقاعي
قد لا أميل إلى كتابة “تعارض”(من باب التأويل) نصا يوقعه حبر حازم صاغيّة ـ الحبر الدافق في شريان”التعبير” العربي شبه المسدود! لكني أجد نفسي هذا الصباح، منساقة ـ بحذر وتشبث شديدين بأواصر امتيازي اللغوي ـ إلى ان أقارب منابع هذا الرجل، المصطلحية والمفاهيمية، ساعيةً، بفضول وتهيّب، بين”صفاه” الذهني، ومحطّ “مرواي”.
“العالم من ثقب ضيّق” عند صاغيّة هو “عوالم” اجتمعت لها أسباب السذاجات الغرائزية والترديات السلوكية والانعطافات المتهوّرة التي جاوزت الشارع العربي المغيّب عن مشهد التحولات العالمية الكبرى بفعل تراكم الاستبداد  السياسي المنظّم، إلى نواصي “النخب العربية” المعطَّلة (بفتح الطاء) والمعطِّلة (بكسرها)، في آن!
إنها النخب التي يفترض أنها المبضع الكاشف لفصول من العثرات العربية الرسمية في تاريخ الأداء السياسي، والدماغ المحرّض على دينامية الصحو والتجديد في مفاصل الجسم العربي الكامد؛ نجدها اليوم ما انفكّت تتشبث بعاطفة سياسية لقيطة، تنقلت بها من “انتصارها لهتلر ومحوره في الحرب العالمية الثانية، إلى الانضواء “السوفييتي” في ظروف الحرب الباردة الفائتة، وصولا إلى كيل التهم الجاهزة للحركات الاستقلالية والديمقراطية في أوروبا الوسطى والشرقية، بالعمالة للغرب، والتهوّد”. وما نراه اليوم من تردٍّ عربي على الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية كافة، ليس سوى “ثمنا” ترتب على تلك الغوايات السياسية المراهقة التي أنجبت طفلا بعين واحدة، وجد مرميا على باب أقرب جامع عربي إلى “مخدع” فعل الخطيئة الباهظ. يحضرني في هذا المقال مشهد من القرن الفائت، تجلت فيه بسطوع  عقدة العربي تجاه “الخواجة الفحل” أيضا، وذلك حين التقى مفتي فلسطين الشيخ أمين الحسيني في العام 1941 وزعيم ألمانيا النازية آدولف هتلر، وعرض الحسيني في حينها على زعيم الرايخ الثالث تكوين جيش عربي إسلامي من المتطوعين في الشمال الأفريقي وشرق المتوسط لمقاومة الحلفاء، فكان رد هتلر ما مفاده “إنني لا أخشى الشيوعية الدولية، ولا أخشى الإمبريالية الأميركية البريطانية الصهيونية، ولكن أخشى أكثر من ذلك كله هذا الإسلام السياسي الدولي”.
تلك السياسات اللقيطة التي مردها تورّم سايكوباتي في عقدة “الفحولة”، وتناوب تلك العقدة على النخب والزعامات العربية المتعاقبة ـ حيث منطلق ومصب القرار العربي الرسمي القاصر، والذي كان “صوت العرب” من القاهرة، وعلى مد ّ عقود من الزمن، يغازل عمقه الشعبي على طريقة تبادل المنافع اللحظية بين كبش هائج ونعجة حلوب، ويستولد “الأضداد” التي “ستحمي” الجسم القومي المتهالك على نفسه من اختراقات المتصهينين الجدد والقدامى في آن، ومن دأب “الغرب”ـ العدو على تركيع ذاك الكبش الصنديد، وتفكيك رموز فحولته، بهدف تفتيت مكوّنات تلك الأمة الواحدة الموحدة والحرّة المحرِّرة!
لم تمارس النخب العربية وعيا نقديا نافذا في قراءتها لمعطيات المشهد العالمي سواء ما هبّ عليها من مبادرات الشرق ـ الحليف الافتراضي، أو اجتراحات الغرب ـ الضرّ المؤجل، بل كانت قعيدة كرسيها المتحرك بين غاية الحرية المقننة بمعطيات الأيديولوجيا الشحيحة وبين استبداد مشرعن يتداوله  أساطينها على بلاطات السلطة الواهجة؛ فلا هي ساهمت ـ نتيجة ـ في تجريف “الراكد” من الذهنية العربية، ذاك المتجذّر في الغيبيات والحجب وهلوسات الأصولية، ولا هي جددت في الأرضية الثقافية التي تنطلق منها كحركة تنويرية لازمة وملزِمة للنفاذ من مأزق الظلامية العميم، ولم نرها طوّرت أدبيات خطابها لتدخل به عالم الإنتاج والتنافس المعرفيين، في القيمة والفعل، بعيدا عن لكنة الاستهلاك الشفاهي الإنشائي المكرور.
وفي غياب حركة من التأسيس النهضوي المعقلن والموصول، على مستويات المعرفة والاجتهاد والتنوير كافّة، باتت المرجعيات السلفية والتكايا الاستشارية هي المصدر المعتمد للفتاوى السياسية الجاهزة التي يركن إليها كبش السلطة في ترسيم زواريب الحكم وابتكار ممراته الضيقة، وغدت بؤرة لتفريخ المضادات الأممية ذات البعد القومي العنصري الأجوف، وتمكينا لثقافة “المنطوق” المحكيّ بعيدا عن “الإجرائي” الفاعل. وفي أبلغ وأحدث توصيف لهذه الحالة أسرد ما تشدّق به أحد كبار المستشارين في القصر الجمهوري السوري على شاشة واحدة من القنوات الفضائية العربية حين قال: إن سوريا تفرض مقايضة جثمان الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين مقابل أي عرض، حتى لو كان هذا العرض هو هضبة الجولان”! إنه فكرمنطوق من مفرزات التكايا الاستشارية التي ما لبثت تهّيج تلك الحالة الغرائزية الطافحة مقابل ضمور في الوعي والرؤيا السياسيين للمرحلة بمعطياتها وتداعياتها كافة، ما يجعل ذاك المستشار الرئاسي العتيد ينطق عن الهوى، وباسم دولة تقف شعبا وأرضا على مفترق دقيق ما بين جادتي الحرب والسلام.
فصل المقال: إن فوبيا استدراج مقومات الفحولة، والدوران العبثي في أفلاكها، “دون أن نصنع حنفية ماء” على حد تعبير صاغيّة، هو العامل المحفّز لتأييد سوريا “الرسمية” للموقف العسكري الروسي في جورجيا لمجرد أن الأخيرة ابتاعت سلاحا من اسرائيل العدوة! وفي المساحة الرمادية بين النفي والتأكيد لاتفاق، تناقلت وسائل لٌعلام خبر إبرامه بين الدولتين، يرمي إلى بناء منظومة سلاح اسكندر الصاروخي على الأراضي السورية، ردا على الدرع الصاروخي الأميركي في أوروبا، في تلك المساحة الرمادية، تحديدا، نقف حائرين أما محاولة الأسد الابن “المزايدة” على تركة الأسد الأب،  في رفعه سقف “المراهنات” على الأوراق الإقليمية إلى مستوى “المقامرة الدولية”، الأمر الذي قد يجعل سوريا أول من يدفع أثمان هذه القفزة إلى “ورائيات” الحرب الباردة،  لاسيما إذا ما أسفرت الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة عن بقاء الجمهوريين في سدّة الحكم، واستمرارهم في تسيير شؤون البيت الأبيض بيد، وهزّ سريرالعالم، على طريقتهم،  باليد الأخرى.
*كاتبة وباحثة أكاديمية أميركية من أصل سوري
marahbukai@gmail.com
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى