صفحات ثقافية

الانتحار العقلي

null
خيري منصور
يروى عن كاتب جفّت ينابيعه أنه كان يعتاد الجلوس في مكتبة يرتادها مثقفون من الشبان، ثم انقطع عنها كما انقطع عن كل شيء في الحياة، وحين عاد إليها ذات مساء أصغى إلى حوار بين اثنين من رواد المكتبة تكرر فيه اسمه، وكان أحد الشابين يصرّ ويراهن على أنه مات، عندئذ انسحب الرجل بصمت من المكتبة وقرر الانتحار لأنه أدرك بأن الانسان يموت أحياناً قبل أن يموت، أو يموت وهو آخر من يعلم .
لا ندري ما إذا كانت تلك الواقعة قد حدثت بالفعل أم أنها من نسج الخيال، لكن مغزاها يبقى واحداً وهو أن من ينسحب من الحلبة ويسلم نفسه للقنوط، لا بد أن تصاب إرادته، بالشلل وبالتالي تجف ينابيعه ومصادر طاقته الروحية، وقد عرف عالمنا المعاصر نماذج من هذا النوع، منهم ثوريون راديكاليون كانوا ملء السمع والبصر في ربيعهم، ومنهم شعراء وكتاب ومفكرون لدغتهم العدمية، والإحساس بفقدان الرجاء والجدوى فكانت اللدغة قاتلة .
فما الذي يحدث لهؤلاء رغم أن لديهم من الخبرات ما يستحق الاستمرار، ولديهم من فائض الرحيق ما يكفي لملء جرار من العسل .
الانتحار كا صنفه كتاب وعلماء نفس، منهم ألبيركامو ويلهالم رايش نوعان، انتحار جسدي تتعدد أسبابه من المرض إلى العوز إلى الكآبة المزمنة، وانتحار آخر عقلي، بحيث يقتل الإنسان وعيه ويبقي على جسده، وهذا أسوأ أنواع الانتحار إن كانت هناك أية مفاضلة بين انتحار وآخر، لهذا كان الشاعر الفرنسي هنري ميشو يزهو على مثقفي أوروبا قائلاً لهم: “إن المقصلة في فرنسا تقطع الرأس كله، لكن العقاب في دولهم يقتلع اللسان فقط” .
إن من يموتون قبل الأوان على غرار ذلك الكاتب الذي مات وهو آخر من يعلم، يفقدون أهم محرك للإنسان وهو الهدف، وحين تصاب البوصلة بالعطب تتساوى الجهات، وقد تتساوى الأشياء والأفعال كلها، ولو قبلنا ما يقدمه المحللون لهذه الظاهرة ومنهم كولون ويلسون فإن أول ما يقولونه هو أن هؤلاء الأفراد المتفوقين يشاء سوء طالعهم أن يعيشوا في فترات تاريخية مضطربة، الناس فيها يتحركون كبندول الساعة بين الماضي والمستقبل المتخيَّل أما الحاضر فهو أشبه بالدوامات التي تبتلعهم .
وحين انتحر شعراء وفنانون من طراز ماياكونسكي الروسي وسرجي يسنين وأرنست همنجواي، حار الناس في الكشف عن أسباب انتحارهم في ذروة العطاء والشهرة وهذا ما قيل أيضاً عن مارلين مونرو إذا كانت قد انتحرت بالفعل .
إن أخطر ما يواجه الانسان هو الفجوة التي تتحول إلى هوة بينه وبين محيطه وبين أحلامه والمتاح لتحقيقها .
والبيئة النموذجية لهذا الاضطراب الذي يفقد الانسان توازنه هو فترات التحول بحيث لا يعود الماضي قادراً على مواصلة نفوذه، ولم يتبلور الجديد بالقدر الكافي الذي يمكن الركون إليه أو الاحتكام إلى معاييره .
وحين تقدم موسوعة غينيس عدد المنتحرين في العالم لا تشمل إحصاءاتها من ينتحرون عقلياً، ولو فعلت ذلك لفوجئنا بعدد المنتحرين، خصوصاً من العالم الثالث الذي اتسعت فيه المسافات على نحو كارثي بين الحلم والواقع .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى