اسرائيلالدور التركي في المنطقةصفحات العالم

لماذا لم تربح تركيا معركتها الديبلوماسية مع إسرائيل؟

جهاد الزين
الأتراك المعاصرون هم من الشعوب الحساسة جدا لما تعتبره كرامتها الوطنية. كل قوة مصطفى كمال (اتاتورك) التي ستسمح له لاحقا بتأسيس الجمهورية بدأت ثم نجحت، بحسب شهادات مؤرخي تلك المرحلة، بين 1919 و1923 بفعل تحريكه الناجح للعصبية الوطنية الجريحة لشعب ذي تقاليد عسكرية عريقة. “سؤددُ التركِ ومجدُ العربِ” كتب احمد شوقي بيك، الشاعر المصري في احدى قصائده.
لهذا، لا شك في ان الاهانة البروتوكولية التي لحقت بالسفير التركي في اسرائيل قبل فترة لن تُمحى سريعا من ذاكرة الاتراك، حتى لو اعتذر الاسرائيليون على اعلى المستويات.
غير ان هذا المعطى الوطني التركي الاكيد لا يمنع، ولن يمنع امرين بالمقابل:
الاول هو عقلانية سلوك الدولة التركية بحكومتها التي يقودها “حزب العدالة والتنمية” كما بمؤسستها العسكرية كما بنخبها السياسية بشكل عام، حيال هذا النوع من الاهانات او غيرها كما اظهرت “تجارب” سابقة في مجالات اخرى عندما اتضح ان صيحات الغضب الهادرة التي اطلقتها الصحافة التركية لم تُلغِ التخطيط الهادئ حيال بعض الازمات الخارجية او الداخلية.
الامر الثاني المهم انه من غير الصحيح القول إن حصيلة المواجهة الديبلوماسية التركية – الاسرائيلية المشار اليها قد انتهت بربح تركيا لهذه المواجهة. لقد شاع هذا الاستنتاج داخل تركيا وفي العالم العربي وحتى في بعض التعليقات الاسرائيلية الصحافية.
لكن التأمل الفعلي في ما حصل، اهانة فاعتذارا، فنتائج لمسار العلاقات، يوصل الى نتيجة اخرى: لم تربح تركيا هذه المواجهة مع اسرائيل، لا لان الاهانة من حيث “الرسالة” الوقحة التي حملتها الى رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان لن يلغيها مجرد اعتذار حتى لو كان واضحا ومباشرا، بل لان النتيجة العملية على المستوى السياسي مست جوهريا الى امد غير محدد بخصوصية العلاقة التركية – الاسرائيلية والاهم عمليا انها فعلا ألغت موقع “الوساطة” بين اسرائيل وسوريا… هذا الموقع الذي يشكل احد العناصر الاساسية لـ”القوة الناعمة” التي مثّلتها الاندفاعة الديبلوماسية – الاقتصادية التركية في الاعوام الاخيرة في الشرق الاوسط وبالتوازي في مناطق مجاورة له. موقع “وساطة”… الرئيس السوري نفسه اعلن حرصه عليه.
هذا في الاطار المعياري للعلاقات الثنائية التركية – الاسرائيلية. لقد كانت الضربة الاسرائيلية ذات رضوض جادة، مما دفع اعلى المستويات التركية بعد غضب ردة الفعل الاولى و”التعويض” الاعتذاري الاسرائيلي الى البدء بدرس اعمق لمعنى هذه الوقاحة الاسرائيلية على المستوى الاستراتيجي.
ابعد من معيار الرصد الثنائي، من غير المنطقي ان تكون تركيا ربحت هذه المواجهة طالما ان الولايات المتحدة الاميركية بقيادة باراك اوباما لم تربح مواجهتها الديبلوماسية مع اسرائيل حول مسار تسوية الصراع العربي – الاسرائيلي… فنحن هنا موضوعيا امام مواجهة واحدة ذات تجليات مختلفة: ضغط اميركي، بعض الضغط الاوروبي، ضغط تركي… لإشعار اسرائيل بالحاجة الى انقاذ عملية السلام في حلقتها الفلسطينية اساسا، وفي حلقتها السورية فرعيا… فالانسداد، كما بات يعرف العالم، بل “النظام العالمي” وهذه المرة على لسان قيادته الاميركية، مسؤولة عنه اسرائيل وتحديدا عبر السرطان الاستيطاني المتواصل.
كيف يمكن اذاً، موضوعياً، ان تكون تركيا ربحت “المواجهة” اذا كانت واشنطن واوسلو ولندن، ونسبيا باريس، تضغط ولم تربح هذه المواجهة التي هي واحدة جوهريا؟!
لا نعرف طبعا خلفيات التحضير الاسرائيلي لإهانة السفير التركي. لكن دعونا من السذاجة هنا: فالعمل كان مخططا له على مستوى الدولة الاسرائيلية باعلى مستوياتها، ولم يكن مجرد تصرف نظمه وزير الخارجية ونفذه نائبه، وتاريخ الوقاحات الديبلوماسية الاسرائيلية لا يظهر ان عمليات كهذه تأتي بنت ساعتها كما يقال. واذا كانت آراء المعلقين الاسرائيليين قد اختلفت حول ما حدث، فليس صعبا التكهن ان التعرض لكرامة السفير التركي في حسابات من نفذوها يأخذ بعين الاعتبار العمق اليميني الشعبي المتنامي داخل اسرائيل والذي أتى أصلا بحكومة نتنياهو. حتى ان كاتبا اسرائيليا دعا الى استخدام امكانات “المال اليهودي العالمي لمقاطعة مصالح تركيا” (يديعوت احرونوت 14/12/2009). وهذا نوع من الدعوات، حتى في المجال غير الرسمي، ليس شائعا، بل لا يصدر عادة بشكل علني في اجواء حتى الكتاب الاسرائيليين لاسباب تاريخية، بينها ما يشكله هذا الموضوع من تحريض معاد للسامية. مع ذلك استخدمه هذا الكاتب في صحيفة اسرائيلية كبيرة. ودون ان نعطي معنى مبالغا به لهذه الدعوة، فهي تعبير ذو دلالة عن درجة الاحتقان.
على كل حال، ما زال السواح الاسرائيليون، وخصوصا المقامرين في كازينوهات مدينة “انطاليا” الجميلة على الشاطئ التركي المتوسطي، يتدفقون الى تركيا، ناهيك بشبكة من العلاقات التكنولوجية – العسكرية – الاقتصادية لا تزال فاعلة.
لكن بسبب الدلالات الخطرة للمواجهة الديبلوماسية التي حصلت، يمكن ملاحظة عدد من الزيارات الى انقرة وواشنطن وتل ابيب لشخصيات بعيدة عن الاضواء، اميركية او اسرائيلية او تركية.
بين هذه الشخصيات المهمة عضو الكونغرس الاميركي السابق روبرت ويكسلر والذي لم يمضِ وقت طويل على مغادرته مقعده النيابي عن احدى دوائر فلوريدا، فقد كان ويكسلر الاسبوع المنصرم في انقرة والتقى الرئيس التركي عبدالله غول. ويكسلر كان فاعلا جدا في الكونغرس في مجال العلاقات التركية – الاميركية ومن المعروف تاريخيا ان السياسة التركية تركز جدا على العلاقات مع الكونغرس عبر التعاون التقليدي مع “اللوبي الاسرائيلي” لموازنة “اللوبي اليوناني” و”اللوبي الارمني” في الولايات المتحدة… الى حد كان يمكن معه الاعتقاد في السابق، خلافا للاوهام العربية القديمة، ان العلاقة التركية مع اسرائيل هي نتيجة للعلاقة مع “اللوبي اليهودي الاميركي” وليس العكس! إذا جاز التعبير بمعنى من المعاني.
ويكسلر، القريب، كما تقول بعض المصادر التركية، من رام ايمانويل كبير موظفي البيت الابيض في ادارة اوباما هو صاحب نشاطات عديدة مع “اللوبي” (الإيباك) كما انه حضر حتى مؤتمر “اللوبي” الجديد “جاي ستريت” مؤخرا… القريب من خط الرئيس اوباما.
شخصية من هذا النوع لا شك في انها تعمل في “مساحة” في غاية الاهمية تعرضت للاهتزاز – بصمت – وانكشف ذلك اكثر مع زيارة رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان قبل اسابيع الى واشنطن، وعدم لقائه اي من قادة منظمات اليهود الاميركيين، وهو امر غير مألوف سابقا في زيارة اي مسؤول تركي بارز.
هناك ترميم ما يجري العمل عليه… على حدود بعض “الخطوط الحمر” لكن المتعلقة اساسا بـ”حزب العدالة والتنمية”.
الدولة التركية في المصالح العليا تعرف ان تتضامن، مؤسسةً عسكريةً وحكومةً، هذا في السياسة الخارجية، مثلما حصل حيال العلاقة الاستراتيجية مع سوريا التي هي علاقة دولة بدمشق، لا مجرد حزب مع دمشق.
… حتى لو ان الوضع الداخلي التركي يعبر حاليا محطة جديدة حساسة بل خطرة… لتجربة تحديثية سيتقرر مصيرها بالنتيجة في الداخل، لا سيما حين يذكر اردوغان في خطاب الاسبوع المنصرم إسمي رئيسي الوزراء الاسبقين عدنان مندريس وتورغوت أوزال… في معرض “ملاسنة” مباشرة للمرة الاولى مع قيادة الجيش التركي… لكن، وخلافا لما يعتقد ذوو “الافكار المسبقة” في العالم العربي الذين انتقلوا من “سوء فهم سلبي” الى “سوء فهم ايجابي” لتركيا الحديثة… فهو “الجيش التركي العاقل” كما اسميناه قبل اشهر.
لكن هذا حديث آخر.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى