صفحات سورية

أميركا والمثقفون

null
حنا عبود

لا يوجد مثقف في هذه الأيام يقف إلى جانب الإدارة الاميركية، وإن وقف فإنه لا يعلن، وإن أعلن فبطريقة خجولة. وهذه ظاهرة تكاد تكون فريدة من نوعها. دولة في مثل هذه العظمة لا تحظى بتأييد المثقفين، بينما حظي الاتحاد السوفييتي بتأييد فريق كبير من المثقفين، على الرغم من تهافت النظام فيه، كما سنرى. لكن موقف المثقفين هذا لم يصل إلى هذه الدرجة من المناوأة والعداء، إلا بعد منتصف القرن العشرين، بعد سقوط ديان بان فو وحلول أميركا محل فرنسا. ففي القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن التالي كان موقف المثقفين مختلفاً عن موقفهم في هذه الأيام. كانت أميركا تأتينا بالمبادئ الرفيعة، فكانت قدوة كمبادئ الثورة الفرنسية.

كانت هناك انتقادات، أما اليوم فهناك كراهية واشمئزاز من السياسة الأميركية. والمثقفون المناوئون لم يكونوا من فئة معينة، بل كانوا من كل الاتجاهات. فهناك الشيوعيون واليساريون من أمثال غوركي وأهرنبورغ وفاست وشتاينبك وأرثر ميلر وسارتر وكامو… وهناك الحياديون من كل الأنواع، من برنارد شو وبرتراند رسل حتى فريدريك ديرنمات. فحتى بعض الرؤساء الأميركيين عمدوا إلى انتقاد أميركا والسخرية من أسلوبها. فجون آدمز (وهو ثاني رئيس أمريكي) الذي كان له أكبر إسهام في الثورة الأميركية يقول «سوف يكون تاريخ ثورتنا كذبا مستمرا من طرف إلى آخر». ولم يكن آدمز أول ولا آخر من انتقد. النقد ظاهرة صحية، فكل نظام لا بد أن يتعرض لنقد مواطنيه، لأن طلبات المواطن لا نهاية لها، وقدرة النظام أعجز من أن تحقق طموحاته. لكن هذا الإجماع على انتقاد أميركا والانتقال إلى نوع من الكراهية… ظاهرة خاصة بالنظام الأميركي. وليس هذا مستغرباً، فكلما عظمت الدولة وانتشر تأثيرها في العالم تعرضت لكثير من الانتقادات والسخرية والكراهية. فكل التقدم التكنولوجي الحديث، المنتشر اليوم في كل دول العالم، يرجع الفضل فيه لأميركا، ومع ذلك تنتقد وتذم.

ويبحث المرء عن السبب، وكيف أمكن أن يكسب الاتحاد السوفييتي الكثير جداً من الأنصار في صفوف المثقفين، فلا يجد سوى أن السوفييت ركزوا على المعنويات، على تضحية الفرد من أجل المجتمع، في حين ركز الأميركيون على الفرد وقطعوا شوطاً بعيداً في اقتصاد السوق، مما يجعل المجتمع يقع ضحية للملكية الخاصة. فالعقيدة «الإنسانية» عند السوفييت جعلت لهم أنصاراً بين المثقفين، في حين نبذ المثقفون نظرية اقتصاد السوق المدمرة.

وكشف المثقفون زيف الحرية الفردية، لأنها حرية غير مرتبطة بالملكية الفردية (الملكية الشخصية) بل بالملكية الخاصة (التملك فوق ما يحتاجه الفرد) فبمقدار هذه الملكية تكون الحرية… وهذا ما يقود اجتماعياً إلى العبودية المقنعة. فهناك تراث إنساني في النضال ضد الملكية الخاصة، وحصر التملك بحاجة الفرد ورفاهيته الشخصية، منذ العصور القديمة. فقد انحصر همّ المجتمعات القديمة في مكافحة الملكية الخاصة، خوفاً من العبودية. وأول زعيم للعشيرة لم يكن صاحب الملكية الكبيرة، بل كان الشامان، أو الطبيب الذي يسعف الناس. كانوا يدركون أن ظهور الملكية الخاصة يعني ظهور العبودية. ولهذا أيّد المثقفون الاتحاد السوفييتي، لأنه ألغى الملكية الخاصة، لأول مرة في التاريخ الحديث، وإن كانت التجربة فاشلة.

وبالمقابل فإن الاتحاد السوفييتي اكتسب سمعة طيبة عند المثقفين لأنهم رأوا أن ثورته تكمن، ليس في وصول فئة إلى السلطة، فهذه حال الدنيا، وإنما في هذه الجرأة على إلغاء الملكية الخاصة. ومما زاد في سمعته الطيبة أن المسرح ازدهر في العهد الشيوعي ازدهاراً كبيراً فظن المثقفون أن هذا البلد يسير في السكة الصحيحة. لم يدركوا أن البيروقراطية سوس المؤسسات الإنسانية.

واليوم وبعد أن استفردت أميركا في الساحة العالمية وراحت تنشر «التسليح والتدريب» في كل بقاع الأرض، لتطويق أوراسيا وخلق شرق أوسط جديد، يكاد المثقفون يجمعون على كراهية أميركا «التي لا صاحب لها ولا صديق» كما يقولون، وفي الوقت نفسه يتمنون لو ظل السوفييتي قطباً مناوئاً لها. والغريب أن المثقفين المعادين للشيوعية، والذين تكاثروا بعد أزمة الحرية الملازمة لهذا النظام، يلومون أنفسهم لموقفهم السلبي السابق. والأغرب أن بعض الفئات الإسلامية التي ساهمت في تدمير الاتحاد السوفييتي تعترف اليوم بأن وجوده أفضل من غيابه، فهم يشبهون بوتين الذي قال «إن تفكيك الاتحاد السوفييتي غلطة تاريخية باهظة الثمن».

عندما نجد أعداء الشيوعية يغيرون أو يعدلون موقفهم في هذه الأيام، فإن ذلك لا يعني انحيازهم للشيوعية، بل يعني أنهم شديدو الكراهية للولايات المتحدة. بل إن الأدباء الأميركان أنفسهم ازدادوا كراهية لها، إلى درجة أن الروائي الأميركي كورت فونيغوت (1922 – 2007) قال «انقلب الحلم الأميركي إلى بطن منتفخ وطفا فوق سطح الجشع غير المحدود، وامتلأ بالغاز، وانفجر في شمس الظهيرة». لم يقل هذا الروائي «الملكية الخاصة» بل «الجشع غير المحدود» حتى يكون واضحاً. ويذهب أكثر من ذلك فيقول «الهدف الرئيسي للجيش والأسطول والمارينز أن يظهروا الأميركيين الفقراء بثياب نظيفة مكوية غير مرقعة، حتى يستطيع أغنياء أميركا الوقوف والنظر إليهم».

وبكلمة موجزة نرى أن المثقفين يكرهون أميركا لأنها تستخدم السلطة لمزيد من المادة وتستخدم المادة لمزيد من السلطة، بعيداً عن أي قيمة من قيم الحق والخير والجمال، وهذا ما يثير حفيظة كل المثقفين، وبالأخص في أميركا نفسها. وتزداد الكراهية لأميركا (وأمثالها أيضاً) بمقدار ما تزداد تملكاً وتوسعاً.

كاتب من سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى