صفحات سورية

كذبة كردستان العلمانية!

null
هوشنك بروكا
كلنا يتذكر القول الأشهر لرئيس البرلمان العراقي محمود المشهداني، الذي سيدخل به التاريخ(تاريخ البرلمانات المطاردة بالقندرة)، حين قال، أمام برلمانه، موجهاً كلامه إلى بعضٍ من زملائه النواب(بينهم النائبتين ميسون الدملوجي وصفية السهيل)، بالعراقي الفصيح: “إن أي قانون لا يتوافق مع الإسلام سأضربه بالقندرة”.
لاشك أنّ “القول الكبير المأثور” هذا، المدعوم ب”دفاعات القندرة”، فيه ضربٌ ومسخٌ للعراق المتعدد، الكثير ، على أكثر من مستوى. فالمسألة ههنا لا تكمن في الدين(أياً كان) بحد ذاته، أو الإعتقاد والإيمان به، بقدر ما يكمن في “تسييسه”، وجعله مطيةً براغماتية، للعبور إلى غايات سياسيةٍ محددة.
لا يمكن اعتبار هكذا كلام، متعجرف، متطرف، واحدي الإتجاه، “دفاعاً” عن الإسلام، بقدر ما يمكن اعتباره، “اختفاءً سياسياً” وراء الإسلام وقرآنه ومكته ورمضانه وبيوت حلاله.
في عراق بغداد، لم أفاجأ، بالطبع، بكلام المشهداني المرفوع على “قندرته”، بوجه زميلاته وزملائه البرلمانيين، لأن ما قاله هذا “الرأس الأعلى” في البرلمان، كأعلى سلطة تشريعية، يكاد يترجم جوهر كل العملية السياسية، الحاكمة في بغداد، والتي تختزل “كل الله”، في كل السياسة، وكل الدين، في كل أحزابها المتنفذة.

أما أن تتكرر ذات “القندرة”(القندرة العابرة للقوانين)، بأساليب أخرى، في العراق الكردي، المحكوم بما تسمى بالأحزاب العلمانية، فهو أمرٌ يدعو إلى أكثر من تساؤل، وربما يحتاج إلى وضع بعض نقاطٍ كردية، على بعض حروف.

مع دخول العالم الإسلامي في شهر رمضان، تناقلت بعض وسائل الإعلام العربية والعراقية، خبراً مفاده أنّ”عقوبة السجن استحدثت للمرة الأولى في أربيل العراقية، التي قررت حبس المفطرين ومنع أي تداول للكحول برمضان”.
ففي حديثٍ له لوكالة نيوزماتيك الإخبارية، قال العميد عبدالخالق طلعت مدير شرطة أربيل، أنّ “التعليمات الجديدة تنص على منع تداول المشروبات الكحولية بيعاً وشراء وتعاطياً، بشكل تام في حدود محافظة اربيل. أما بالنسبة للاشخاص، فـيمنع إشهارهم للإفطار في الأماكن العامة، وكذلك في الدوائر والمؤسسات الحكومية، وستقوم الشرطة برصد المخالفات”، مشيرا إلى أن “كل شخص يخالف تلك التعليمات، سيعرض نفسه للحبس مدة 5 أيام”(العربية نت، 24.08.08).
إذا كان هذا هو عنوان “حرية رمضان” في “أربيل القلب”، التي ستتعامل مع الخارجين عن “آداب الصوم”، بالسجن وبسياط(وربما بقندرة عميدها)، فكيف ستكون أخبار الصوم وأحواله وقوانينه، في أطراف كردستان الأخرى؟

يا سلام على هيك كردستان في هيك صيام!!!

إنّ أقل ما يمكن أن يقال في حق هذا “القانون”، الخارج عن حق الآخر المختلف، كردياً على الأقل، هو أنه “قانون جاهلي، رجعي، سلفي”، يؤسس ل”كردستان سلفية”، لا علاقة لها، لا من بعيد ولا من قريب، بشعارات أحزابها الحاكمة التي تتشدق ليل نهار وصبح مساء، بأسس “الدولة العلمانية”، و”حقوق الإنسان”، و”الدين المختلف”، و”حرية الإعتقاد”، و”الدساتير والقوانين المؤسسة على اللاإكراه”…إلخ.

فأيّة علمانية هي هذه، التي “تُحكَم وتقونَن” بها كردستان، ويدعو شيوخها(سياسيين + عسكريين) القائمين على شئون تفصيلها، وحلها وربطها، إلى “حبس المفطرين” و”ملاحقة كل متداولي الكحول”، و”منع إشهار الإفطار في دوائر الدولة” الكردية المحروسة، وسوى ذلك من الممنوعات والمحظورات الترهات، اللاغيات لحقوق الآخر في الإختيار بين الصوم واللاصوم، أو اللاإفطار والإفطار؟

في المادة السابعة(الباب الأول) من دستور كردستان، نقرأ الآتي: “يؤكد هذا الدستور على الهوية الاسلامية لغالبية شعب كوردستان وإن مبادئ الشريعة الاسلامية هي احد المصادر الاساسية للتشريع، كما يضمن كامل الحقوق الدينية للمسيحين والايزيديين وغيرهم في حرية العقيدة والممارسة الدينية”.
وفي المادة 18 من ذات الباب نقرأ أيضاً: “المواطنون متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو اللون أو اللغة أو المنشأ الاجتماعي أو الدين أو المذهب أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي أو الانتماء السياسي والفكري”.
أما في المادة ال65 من فصل الحريات، فنقرأ: “لا إكراه في الدين، ولكل فرد حرية الفكر والدين والعقيدة وتتكفل حكومة الإقليم بضمان حرية مواطني كوردستان من مسلمين ومسيحيين وإيزيديين و غيرهم لممارسة عباداتهم وشعائرهم وطقوسهم واحترام الجوامع والمساجد والكنائس وأماكن العبادة الأخرى وتطويرها”.

فأيّ دستور لكردستان “المؤمنة”، هو هذا، الذي ينص على حقوق الآخر المختلف اللامسلم، ويصرّح بها، فيما هولير وعميدها “السلفي”، وقائد سجونها، يأتي ويسلب تلك الحقوق، ويجبره على الدخول في “صومٍ”، هو يحترمه، ولكنه ليس له فيه، بحسب اعتقاده، لا ناقة ولا جمل؟
أيّ دستورٍ “تقدميٍّ”، “علمانيٍّ” هو هذا، الذي يقول بأنّ “لا إكرا في الدين، ولكل فرد حرية الفكر والدين والعقيدة”، في رمضانٍ تجبره هوليره، أو تكرهه، على ما قد يختلف أو لا يتفق مع فضاء “حريته أو فكره أو دينه أو عقيدته”؟

صحيح أن المسلمين يشكلون في كردستان الغالبية العظمى، وفي “هولير العاصمة المحروسة”، يشكلون حوالي 90% من السكان، ولكن هذا لايعني إغلاق هولير “الصائمة”، على ال10% الباقين، الذين يشكلون حوالي 100 ألف نسمة من مجموع السكان البالغ تعداده حوالي المليون نسمة.
لنقلب المعادلة، ونسأل هولير “الصائمة”، وعميدها “المسلم جداً”، تُرى كيف ستتعامل قوانينه وسجونه، مع مسلميه مثلاً، زمان “صيام” الآخرين اللامسلمين، كالمسيحيين واليهوديين والإيزيديين والكاكائيين والشبكيين وغيرهم، في ذات كردستان المسلمة؟
هل ستسن هولير “المسلمة”، في أوقات صيام الدين المختلف، قوانين مشابهة مثلاً(أو حتى أنصاف القوانين وأرباعها)، كالتي سنّها عميدها “المؤمن” الركن، احتراماً للآخر المختلف، وعقيدته وإيمانه؟
بكل تأكيد…كلا.

ثم مالعقل من “فرض” رمضانٍ على كلٍّ دينيٍّ مؤلّفٍ من أجزاء مختلفة، وبالتالي زج الآخر “الخارج” عن رمضان، أو عن كل صومٍ آخر، بالزور والقوة، في طقوسه، سواء إن شاء أم أبى؟
ما العقل من سجن “لامسلمٍ” خارجٍ عن الصوم وعاداته مثلاً، يحترم الإسلام كدينٍ لجاره أو مواطنه الآخر، ولكنه يريد أن يكون حريته، وذاته، وأفكاره، وعقائده، أو حتى شطحاته؟
مالدين، في أن “تجبر” العباد، إن شاؤوا أم أبوا، وتكرههم على الدخول إلى “شريعة الله” والصوم إليه، أفواجاً، طالما أنّ الله قال في قرآنه: “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”؟
مالعلمانية، وما الدولة المدنية، في أن يحكم قانون ودين الأغلبية أديان وعقائد الآخرين المختلفين، الذين كُتب عليهم، أن يكونوا أقليات، طالما أن الله “خلقهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا إن أكرمهم عند الله أتقاهم”؟
ما الروحانية وما الصفاء الروحي في صومٍ، بأن تشرك الآخر المختلف الذي لاتريده حريته أن يدخل أبوابه، بقوة السجن، وأسياط سجانيه، و”قوانين” رتبه العسكرية؟
ما الله في دينٍ، يكره القائمون على شئونه الآخر(مختلفاً أو مؤتلفاً)، على الدخول الإجباري، بقوة السجن، في طقوسه وعباداته، طالما أنّ الله خلق عباده أحراراً، ليختاروا الدين، لا لكي يُزجّوا إليه؟

لا شك، أن احترام الآخر(الأقل) للمسلم(الأكثر) أو بالعكس، على المستويين الديني والدنيوي، هو لشيءٌ جميل. ولكن الأكيد، هو أنّ هذا الإحترام لن يأتي عبر “سلب” حرية الآخر المختلف، وزجّه في اللاحرية، لحساب “حرية الأكثرية”.
فكيف ل”قانون” هولير أن يختزل كل الحرية، في “حرية الأكثرية”، وكل الدين في دين الأكثرية، طالما أن دستور كردستانها، منح الكل(أكثريات وأقليات)، “كامل الحرية”، في أن يكون ما يريد، وأنّ يعبد ما يريد، وأن يصوم أو يفطر ويشرب ويأكل ما يريد.
كيف للحرية أن تحترم سجناً أو قانوناً، هو في أسه وأساسه، لا يحترمها؟
وكيف للأقلية أن تحترم الأكثرية، طالما أنّ القانون الحاكم، هو قانون “حرية الأكثرية” القامع ل”حرية الأقلية”؟

القانون الأخير ل”هولير السلفية”، ذكّرتني(ويا للمفارقة) بأحد أكبر السياسيين العرب في التاريخ العربي الحديث، إشكاليةً، “اتاتونس” أو الأب الروحي لتونس الحديثة الحبيب بورقيبة(1903ـ2000).
ففي بداية الثمانينيات، عندما اشتد الحر في فصل الصيف، دعا بورقيبة التونسيين في شهر رمضان إلى الإفطار، وذلك في مسعى ل”حثهم على مضاعفة الجهود للعمل”، ووصف ذلك ب”الجهاد لأجل تقدم البلاد”. وكان قد استشهد بورقيبة في حينه، ب”أن الرسول العربي قد أعطى الأولوية لشئون الدولة، عندما تكون في حاجةٍ إلى مزيدٍ من القوة”.
وعلى الرغم من انتفاض العديد من التونسيين السلفيين ضده، آنذاك، ووصفهم له ب”عدو الإسلام”، إلا أن تونس الحديثة(الأحدث والأكثر علمانيةً مقارنةً مع كل أخواتها العربيات الأخريات) والتي لا تزال مسلمةً، تقول وتشهد، بأنه “الأب الروحي” ل”حداثتها” وقوانينها المدنية، من دون منازع.
فهو، على حد قول الشاعرة والصحفية التونسية آمال موسى، لم يعادي الإسلام ولا الدين في أساسه، كما كان يُعتقد، بقدر ما أنه كان يريد، عبر خطابه السياسي الحديث، أن يفصل في “تونس العلمانية الحديثة”، بين تونس كدولة، وتونس كعبادة ودين وصوم وصلوات(آمال موسى: بورقيبة والمسألة الدينية، 2006).

أما سياسيونا، فبدلاً من أن يؤسسوا ل”كردستان الدولة” التي عليها ألاّ تفرّق، من حيث المبدأ العلماني، بين رحمن هذا وشيطان ذاك، وصومٍ عربيٍّ وإفطارٍ أعجمي، أو صلوات زيد ولادينيات عبيد، فأنها تؤسس على العكس تماماً، ل”كردستان دينية سلفية”، تقسم أكرادها وتوزعهم على “صائمين أحرار” و”مفطرين كفار”، أو “مسلمين رحمانيين” أسياداً للقانون، و”لامسلمين أو لادينيين شيطانيين”، عبيداً و رهائن ومحبوسين في السجون.

هذه ليست المرة الأولى التي تثبت فيها الأحزاب الكردستانية، على بعدها عن العلمانية، كإبتعاد “القانون الهوليري” الأخير عن الحرية.
ما تشهده كردستان من “تفقيس ديني”، و”طفرة أو صحوة دينية”، على مستوى قاعدة هرم كردستان وقمته، فيه أكثر من دليل على أنّ الأحزاب الكردية الحاكمة لكردستان، راهناً، تركب العلمانية، كشعار سياسي وصولي ماكيافيلي، دون ارتكابه، لقطع الطريق أمام الأحزاب الإسلامية(ك”حماس كردية” محتملة، أو “حزب لله الكردي”)، للعبور إلى السلطة.
هذه الأحزاب لا تقود الشارع الكردي(المسلم في غالبيته)، المتدين حتى العظم، إلى “دولة علمانية حديثة”، بقدر ما تنقاد إليه، وتنصاع ل”تسابيحه وتروايحه”، للإتكال إلى “دولة دينية سلفية ظلامية”، ستأكل “قوانينها”، ومحظوراتها وسجونها وممنوعاتها وتابوهاتها، المسلم واللامسلم، والديني واللاديني، على حدٍّ سواء.

والحال، فإنّ العلمانية، هي كذبة كردستان الكبرى، وكذبة أحزابها التي تحكم بقانون الدين الماضي، والعشيرة الماضية، والعائلة الماضية، بدلاً من الحكم بقانون الدولة القادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى