صفحات الناس

الخوف الأهلي حين يجتاحنا ونحن … لا ندرك

null


دلال البزري

في أيام الشتاء يطول الخوف الاهلي كما يطول ليل الشتاء. الليل ملك الخوف الاهلي: يُبهّت الملامح القريبة، يُخفي البديهيات ويضفي الإرتياب على اية حركة بريئة.

خوف النهار يختلف. ومعه يتحول الى توتر واستعجال وانزعاج. وتفاصيل يوميات من غير هناء: بطالة، فوضى، زحمة السير… ثم المستقبل ومشاريع الهجرة او، نادراً، العودة.

والخوف في النهار يتبدّد قليلا مع طلوع الشمس. وتغريك احيانا فكرة رمْيه في البحر القريب… كما ترمي «المنيح» (الجيد) الذي قمت به اثناء حياتك. ولهذه الاسباب قد تستطيع ان تلاحظ ان الخوف ايام الصيف متخفّف من ظلمة ليالي الشتاء الطويلة.

هذا بعض ما قالته السيدة العجوز، ام الاولاد المهاجرين وهي تتأمل احوال جيرتها القريبة القديمة… عندما يحلّ الليل تروح وتحسب ان الزاروب الذي تسكن في آخره ويعيش ابناء المذهبين الاثنين في عماراته السبع المتلاصقة المتواجهة… حسابات الخوف الليلي الأهلي: في هذه التي نحن فيها يوجد كذا من السنّة وكذا من الشيعة. وكذلك المباني الاخرى من هنا وحتى آخر الزاروب. فتخلص الى ان احد المذهبين متغلّب على الآخر في زاروبها. وكونها من احد المذهبين المغلوبين يخيفها. تحسب حسابات النجدة. ولكن الاحوال متقلّبة، ولا تستقر على اي توازن… لذلك لديها ورقتان: مع كل مذهب منتصر لديها اسم او رمز ترفعه مثل راية الولاء لها. حماية لنفسها من الفتك او القتل او التهجير. ولا تخاف شيئا قدر خوفها من التهجير، وقد عرفته في الحرب الاهلية الاولى، ومعها اولادها الستة الذين تفتقدهم الآن في هجرتهم المبعثرة.

والعجوز الخائفة متحيزة في اعماقها الى احد الطرفين. لا تبوح بموقفها إلا لأولادها واقاربها واصدقائها الخلص. والخوف الذي يدبّ في نفسها لا قعر له. وإن لم يغطّ الاعلام حادثاً صخماً، ففي جعبتها خبر يومي عن إنقضاض «زعران» من المذهب الآخر على احد ابناء مذهبها. لا يمرّ يوم من غير تشطيب وجه، أو كسر عظام، او طعن بالسكين… ويومياتها على وقع هذا الذي يغذّي خوفها. فتخاف مما جلبته لنفسها، وتتمْتم… هي العجوز الصالحة المسالمة المتصالحة مع ربها… متمنية الموت… على الأقل، لزعيم المذهب الآخر.

هذه عجوز خائفة. فما بالك بشباب خائف؟ او راشدون خائفون؟ او رجال او نساء في مقتبل العمر، او نصفه… خائفون؟

اذا اقتصرت العجوز على تمنّي الموت لأعدائها، نظراً لقلّة حيلتها، فان الشباب والراشدين سوف يستنفرون طاقات التخويف المضاد للدفاع عن انفسهم من غير وسائط الغيب. الخوف والتخويف دائرة مغلقة بإحكام. القتل مآلها المكرر. القتل والقتل المضاد. الخوف الاهلي هو، اذا جاز القول، الحقل الخصب لقتل متبادل. قتل رمزي ومادي، لا ينتهي الا كما انتهى الاقتتال السابق. بالقهر والوصاية.

سمة اخرى للخوف الاهلي: انه ليس من النوع التقليدي الذي عرفه اجدادنا وآباؤنا ونحن وابناؤنا: أي الخوف من الامبريالية والصهيونية والاستعمار. فهؤلاء هم الاقل اثارة للخوف. هذا طبعا من عمق الاعماق، وليس في الكلام السياسي العلني والمعروف والمكرّر. لذلك، كان، وما زال مضحكا التبجحّ بـ»الشجاعة» في «مواجهة المشروع الاميركي الاسرائيلي في المنطقة»… فيما الخوف الاهلي يُرجف أواصر المجتمع، والأمل فيه يتوسّل الأوهام.

ما يخيف في الخوف الاهلي ان الخطر غير متكوّن الملامح الواضحة بعد. انك لا تقدر على تعيين مواضعه. ولا بالتالي السيطرة على معانيه. مجرد حدس بانفراط العضوية القليلة المتبقية لأهل العيش المشترك. وقوة الإنفراط هذا من قوة دفع لا نلّم بها… غير قادرين على تخيلها، وغير قادرين بالتالي على وقف تدفّقها. تماما مثل من ينجرف في تيار بحر عنيف. وكأن الانجراف هو استعدادنا لحرب سوف نخوضها لقتل هذا الخوف.

خوف لا ندرك غيره، وحجم الخوف من حجم الجهل بديناميكياته الخفية… هل الحروب الأهلية وحدها ناجمة في بعض اوجهها عن عدم إدراك لهذه الديناميكيات؟ هل عقولنا اصغر من ان تنالها؟ ام ان الحروب والاستعداد لها… كلها لحظات غفلة للوعي، لا نحللها ولا نفسرها الا بعد مضيها بسنوات، واحيانا عقود. او هكذا ربما نعتقد…؟

عودة الى السيدة العجوز وحديثها عن الخوف. تفتح التلفزيون احيانا، فتشاهد زعماء وسياسيين يطمئنون الى امكانية حلّ. فتخاف لأنها لا تصدقهم كلهم… كما تقول. مع إنحيازها طبعاً الى احدهم. اما عندما يتشاتم الزعماء والسياسيون بأقذر العبارات، فلا تخشى ايضا البوح بخوفها. فهذا لديها دليل، ايضا وايضا، على أن الدنيا ممكن ان تفلت من عقالها، طالما ان «المسؤولين» تخلّوا عن»الاخلاق» و»التهذيب»… وتتطاير شرراً عندما يؤتى على ذكر ابنائهم العائشين بسلام في الخارج.

ولكن المدهش ان الشيء الوحيد الذي يطمئنها من بين مشاهد الخوف ولسانه هو رؤية الزعيم المفدّى للطرف الذي تؤيده… يتوعد ويهدّد. فتطمئن الى عزوتها وعزوة ابناء ملّتها. ولكن لا يلبث ان يحلّ الليل حتى تتساءل ان كان هذا الزعيم فعلا سيحميها من جيرانها الاعداء

وهي لا تسمع جيدا. لكن خوفها مثل الاتون، يحتاج الى ان يتغذّى… لذلك ترصد أبعد الرصاصات الطائشة، والاشتباكات بالأيادي والانفجارات الهائلة… أذُنها دليلها في عتْمة الليل… تجتمع مع الجيران على المنْور في اللحظات الصعبة. وتروح هي وجيرانها الاعداء يكرّرون عبارات الدعاء بالهلاك لكل الزعماء من غير استثناء

الحياة – 02/03/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى