صفحات سورية

كيف تحاول دمشق الخروج من عزلتها السياسية؟

null
محمد مشموشي

يعطي النظام السوري، منذ مدة ليست ببعيدة، اشارات «لمن يهمه الأمر» الى أنه خرج مما وصف عربياً ودولياً، وحتى سورياً، بأنه «عزلة سياسية» فرضت عليه منذ ما يقارب أربعة أعوام. وزيارات الرئيس بشار الأسد المنتقاة بعناية الى عواصم عالمية بذاتها (لندن قريباً، بعد موسكو وباريس وطهران وأنقرة تكراراً، وقبلها الدوحة وأبو ظبي والكويت) تشكل احدى هذه الاشارات.
لكن ما تقدمه دمشق في سياساتها الخارجية، وتحديداً في قضية الحرب والسلام في المنطقة، يتجاوز شكلية هذه الزيارات ليصب عميقاً في «الأجندة» التي غالباً ما تحدثت عنها دول فاعلة في العالم، وفي الغرب بالذات، لجهة الابقاء على النظام السوري وتغيير سلوكه فقط. وللتأكيد على ذلك، تعمد دمشق بين فترة وأخرى الى القول إنه اذا لم تكن المفاوضات غير المباشرة مع اسرائيل، بوساطة تركية وعلى مدى أكثر من عامين للآن، تكفي للتدليل على التجاوب مع «الأجندة» المعلنة هذه، فالانتقال الى المفاوضات المباشرة أمر بديهي من جهة (حتى لو ربط بتحقيق نتائج ملموسة) وقريب جداً من جهة ثانية.
وعلى النسق ذاته، لا يختلف هذا الأمر كثيراً عما هو بالنسبة الى موقف سورية من لبنان (اتفاق الدوحة، وما تلاه) ولا لموقفها من فلسطين (الاتصالات المستجدة مع رئيس السلطة محمود عباس) ولا لموقفها من العراق.
فهل خرج النظام السوري فعلاً من «العزلة السياسية» الاقليمية والعربية والدولية؟!.
وقائع الحال على الأرض تشير الى الشيء ونقيضه في وقت واحد، من دون أن يعني ذلك أن «شيئاً» ما لم يحدث على هذا الصعيد.
ذلك أن ما يبقى في كل حال، وعلى رغم النوافذ المفتوحة (أو المواربة) لهذا النظام هنا وهناك، أن جدارين اثنين لا يزالان يسدان الطريق: أحدهما يحتاج الى هدم للنفاذ من فوق انقاضه الى العالم العربي، والثاني الى تفكيك بعض حجارته من أجل العبور الى العالم الخارجي… الجدار المسدود على تناقضات مع مصر والسعودية، والآخر المسدود على «أسرار» غير مفهومة مع ايران.
وعملياً، فما لم يحدث خرق جوهري (سوري أساساً) في هذين الجدارين يكون من شأنه فتح ثغرة واسعة في الطريق المسدود، فلا مجال للقول إن النظام في دمشق قد عاد – أو يوشك أن يعود – الى لعب الدور الذي كان له، واستمر لعقود طويلة، في المنطقة وفي العالم.
مع ذلك، يصح ظن البعض بأن ما فعلته دمشق في خلال الأعوام الأربعة الماضية كان نوعاً من تجميع الأوراق، التي تعتبرها «أوراق قوة» لها، وبأن ما تقوم به في المرحلة الحالية هو محاولة استثمار هذه الاوراق عبر التصرف بها، كيفما وعندما وبأية طريقة تدعو الحاجة.
من بين هذه «الأوراق»، على سبيل المثال لا الحصر، ما يأتي:
أولاً، نجاح «حزب الله» في الصمود، وحتى في النصر اذا ما نظر الى حرب العام 2006 من زاوية أن هدفها كان تصفية الحزب نهائياً، أمام الآلة العسكرية الاسرائيلية وما اكتسبته من سمعة «الجيش الذي لا يقهر» … وتالياً أمام الهجمة الاسرائيلية – والأميركية طبعاً – لاسقاط آخر ما بقي لدى دمشق، ولدى حلفائها في المنطقة، من شعارات: شعار «الممانعة».
ثانياً، تمكن «حماس» من السيطرة على قطاع غزة، بل وحتى من تقييد الشرعية الفلسطينية ممثلة بالسلطة الوطنية ومنعها من حل مشكلات الشعب الفلسطيني الحياتية والمعيشية، وأساساً من التحرك على صعيد ما هو مطروح (على ضآلته وتهافته) اسرائيلياً ودولياً… وتالياً من انعاش التفاوض مجدداً حول ما يمكن عمله لجهة السلام السوري الكامل في مقابل الانسحاب الاسرائيلي الكامل من الجولان.
ثالثاً، دخول لبنان في ما يشبه «الكوما»، ليس سياسياً وأمنـياً واقتصادياً – اجتماعياً فقط وانما وجوداً وطـــنياً كذلك، واهتمام المجتـــمع الدولي، فضلاً عن العالم العربي تحديداً، ببــذل المـستحيل من أجل الحيلولة دون تدهور الأوضاع فيه الى حرب أهلية ومذهبية تعم المنطقة وحتى العالم كله.
رابعاً، اقتناع المكونات السياسية والطائفية والمذهبية والأثنية في العراق، بتوافق أميركي – ايراني أو من دون توافق، بحاجة البلد العربي الشقيق الى الخروج من الحلقة المفرغة التي سقط فيها طيلة الأعوام الخمسة الماضية.
خامساً، بلوغ مسار «التحالف الاستراتيجي» بين سورية وايران نقطة حرجة بالنسبة الى دمشق، خصوصاً في ما يتعلق بالاشتباك العالمي الاجماعي تقريباً مع الجمهورية الاسلامية في ايران حول مشروعها النووي، وانعكاس ذلك مباشرة على التضامن العربي.. وأولاً وقبل كل شيء على علاقات الدولة في سورية مع الدول العربية الأخرى.
ولا شك اطلاقاً في أن ما سبق يشكل «أوراقاً» سورية مهمة، بل وبالغة الأهمية، في العلاقات التي تعمل دمشق على اعادة نسجها مع العالم الخارجي – الغربي في شكل خاص – لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة في هذا السياق هو حول مقاربة النظام السوري لأسلوب وكيفية استثمار هذه «الأوراق» والتصرف بها.
والسؤال الآخر هو: الى أي حد ستقبل دول العالم (فرنسا تحديداً، وتالياً الاتحاد الأوروبي) مثل هذه المقاربة السورية في محاولة الاستثمار، خصوصاً بعد أن تكررت على لسان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مراراً عبارة «ننتظر من سورية أفعالاً، لنرى بعد ذلك»؟!.
أياً كانت النوافذ التي فتحت، أو ستفتح لاحقاً، أمام النظام السوري في العالم، واسعة أو ضيقة أو مواربة أو مشروطة، تبقى النافذة الأساس لانهاء «العزلة السياسية» التي طوقته في خلال الأعوام الماضية هي النافذة التي تقوده الى القاهرة والرياض… واذاً، الى قلب الأمة العربية وقضاياها القومية الخالصة في الحرية والتحرر واستعادة الحقوق العربية.
ولعل دمشق، بالخبرة والتجربة فضلاً عن الجغرافيا السياسية والعلاقات بين الدول في القرن الحادي والعشرين، تفهم هذه الحقيقة أكثر من أية عاصمة عربية أخرى.
ولعلها، أكثر من ذلك كله، تدرك جيداً الآن أن العقبة الأهم في طريق استعادة التضامن العربي تكمن في ممارسات النظام السوري في المرحلة الماضية، وفي المقدمة منها ما تسميه التزامها القوي بـ «التحالف الاستراتيجي» بينها وبين ايران بينما لا تكتفي هذه الدولة بمحاولة توسيع نفوذها في المنطقة بل تعمد، من أجل هذا الهدف، الى التلاعب بالنسيج الاجتماعي في العراق ولبنان وفلسطين وغيرها من الدول العربية.
وقد ينجح النظام السوري، أو لا ينجح، في استثمار جملة «الأوراق» التي يرى أنه نجح في تجميعها في الفترة السابقة، وفي صرفها أو التصرف بها واحدة بعد الأخرى، غير أن الواقع الجيواستراتيجي (من دون الحديث عن القومية والمصالح القومية) يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن لا فكاك لأي نظام من «عزلة» فرضت عليه الا بالعودة الى أمته ومحيطه حتى لا نقول الاستقواء على «العزلة» بهما.

* كاتب لبناني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى