بدر الدين شننصفحات سورية

صناعة القمع الخارجة عن القانون

null
بدر الدين شنن

لايكاد يمر يوم واحد ، دون أن يعلن عن اعتقالات جديدة ، أو إحالات جديدة إلى التحقيق ” القضائي ” وإلى المحاكم ، أو انعقاد جلسات .. وتأجيل جلسات محاكم ” قضائية ” ، على خلفية تهم جنائية كيدية غير مستندة إلى فعل جنائي شرع به أو تم وقوعه ، لنشطاء من مختلف ألوان الطيف السياسي المعارض .. من أوساط أحزاب كردية ، أو من نشطاء إعلان دمشق ، أو من النشطاء الاسلاميين ، أو من العائدين إلى بلدهم وأحبتهم المخدوعين بوعود الأمان والسماح الكاذبة . حتى باتت الأيام السورية كلها ، أو تكاد ، أياماً مشؤومة .. كئيبة .. مخجلة .. تستفز الكرامة وتثير الغضب .

وما يدعو للقلق وحذر ، هو أن هذه الأيام المشؤومة الكئيبة ، ليس بوارد لدى أهل النظام ، تلقائياً ” وضع حد لها . وليس بوارد لديهم أيضاً أن يستجيبوا للضغوط والاحتجاجات الخارجية ليتوقفوا عنها . لأن هذه الاعتقالات والمحاكمات والتصفيات ” القضائية ” للآخر المعارض ، هي جزء أساسي من سياسة مدروسة متعمدة ، ومترابطة داخلياً وخارجياً تاريخياً ، حسب أيديولوجية العقلية الحاكمة لضمان الاستدامة في الحكم ، وهي حالياً ، إضافة لنزعة الاستدامة إيّاها ، من متطلبات ا ستحقاقات المرحلة الجديدة . للبرهنة ، على قدرة النظام المطلقة في إجراء ما يشاء من تحولات اجتماعية اقتصادية أمام الداخل ، وعلى ا ستقراره الراسخ القادر على ضمان عقد الصفقات والاتفاقات والتحالفات مع الجهات والمؤسسات الدولية أمام الخارج ، لتحقيق المزيد من الحظوظ الإقليمية والدولية .

لدى مقاربة المماسات القمعية التعسفية المتعمدة ، التي طبقت على المجتمع عامة خلال عقود مديدة لمقاصد سياسية واجتماعية ، لتكريس الاستئثار بالحكم والثروة ، تبرز مسائل أساسية هامة متعلقة .. بدور .. بفعل القمع .. بذاته ، لابد من التوقف عندها . يأتي في مقدمتها : أن القمع التعسفي إذ وضع فوق القانون قد صار خارجاً على القانون .. صار صناعة .. سداها ولحمتها تعذيب وإذلال وإخضاع .. تطبيع وتطويع وقولبة الإنسان . أي إعادة تشكيل المعتقل ومحيطه ، ومن خلال المعتقلين ومحيطهم المجتمعي الذي يبلغ الملايين على مدى عقود من القمع قد تم ويتم تطويع وتطبيع المجتمع برمته . وأن القمع قد تحول إلى إدمان وانحراف وتشوه ’خلقي لقطاع كبير من موظفي الدولة المكلفين بارتكاب القمع التعسفي . وأن القمع تحول إلى رهاب وبائي يخيم على الجميع دون ا ستثناء ويهدد المجتمع بالخواء والضعف والضياع ، وأصبح القوة القادرة على وضع بصماتها الحازمة ، كأمر ’مسلم به ، على أنشطة ومكونات الدولة والمجتمع كافة ، لاسيما على السياسة والاقتصاد والثقافة والإعلام .

أي أن القمع فقد محتواه ” الانضباطي الأمني ” الصرف . وفقد تالياً دوره ، كأداة تابعة منفذة ، في تدعيم الحكم الذي أطلقه ومأسسه وطوره وعززه ، وصار يعمل ذاتياً كمركز قوة طاغ تنمو لديه بصورة متزايدة نزعات الفعل المستقل عن التوجيه والسيطرة ، ما جعل من قياداته أحد مكونات مثلث مرجعية القرار في السلطة . وأن القمع تحول إلى بؤرة خطرة معوقة لأي توجه تغييري في البلاد وإلى مستهلك طفيلي للمال العام . فقد تطلب الانفاق عليه خلال نحو نصف قرن مئات المليارات من الليرات السورية ، ما أدى ، مع التهرب الضريبي ونهب المال العام إلى العجز المالي ، الذي تتذرع به الحكومة لرفع الدعم عن بعض المواد التموينية والمحروقات ولطرح الخصخصة للمؤسسات الإنتاجية ( حتى الرابحة منها ) لاستكمال بناء اقتصاد السوق . الأمر الذي يستدعي التصدي الشعبي الوطني عامة للحالة القمعية الخطيرة المزمنة ، التي تضعف الوطن بزعم الحفاظ عليه ، وتزعزع ا ستقراره ومستقبله بزعم إ شاعة الأمن والاستقرار فيه ، والتصدي خاصة لمخططات الأجهزة الأمنية ، التي تحاول ، بواسطة الإعلام والجهات السياسية الرسمية ، أن تجعل من ممارسات .. استدعاء .. تحقيق .. اعتقال .. خطف .. قتل .. التي تطاول نشطاء الرأي ، ممارسات مألوفة .. طبيعية .. وإلباس عمليات القمع للآخر .. لنشطاء الرأي .. لباس ” الشرعية القضائية ” . كما يستدعي التضامن الفعال المتواصل مع معتقلي وسجناء الرأي على اختلاف خلفياتهم الفكرية والسياسية ، والعمل الدؤوب على فرض حالة سياسية صحية طبيعية في البلاد تقوم على حضور المعارضة الشرعي العلني .

لاغنى في هذا المضمار عن التذكير ، أن وباء القمع المتوحش ، الذي مورس في مختلف العهود على شعوبنا ، هو الذي تسبب بسقوط وتشرذم الامبراطوريات التاريخية ” المجيدة .. العتيدة ” الأموية والعباسية والعثمانية ، وبسقوط وتجزيء ماسبقها وما تلاها من سلطنات وإمارات وكيانات ، وتسبب بضعفنا التاريخي المزمن ، الذي أتاح ( لسايكس – بيكو – بلفور ) أن يكونوا مقررين لمصائرنا ووجودنا . لهذا نحن نرى الآن بلدان أوربا الشرقية ، التي كابدت من سطوة التخلف الاستبدادي العثماني ، هي حتى الآن الأكثر تخلفاً في أوربا . ولهذا بالذات .. أي تواصل القمع في عهود ما بعد الاستقلالات مابرح وجودنا الوطني والقومي محدداً حسب خريطة ( سايكس – بيكو – بلفور ) ، بل إن هذا الوجود الهزيل الممزق ، إذا ما استمر وباء القمع التعسفي يتحكم بحياتنا ومصائرنا سوف تتم إعادة النظر فيه مرة أخرى حسب مخططات ( رايس – ليفني ) . والمثال الصارخ على ذلك في تاريخنا المعاش ، هو ما أفضى إليه النظام القمعي في العراق ، الذي استدعى خواؤه وعجزه وإذلاله للشعب ، استدعى الاحتلال والدمار ، وهو ما أفضى ويفضي إليه النظام العربي القمعي المفوت ، الذي أتاح ويتيح للكيان الصهيوني بملايين سكانه الأربعة أن يستفز ويستذل أمة يبلغ تعدادها ربع مليار إنسان ومالكة لأهم ثروة طبيعية في العالم وفرت عوائد بآلاف المليارات من الدولارات ، في وقت برهنت فيه المقاومة في لبنان ، وتدل فيه مخازن الأسلحة المكد سة ، ومشتريات الأسلحة التي لاتتوقف بمئات المليارت من الدولارات ، أن ميزان القوى ليس لصالح هذا الكيان حتى وإن دعمته أمريكا مباشرة إذا ما توفرت الحرية للشعب وتجسدت وحدة المقاتلين .

وهنا يسجل باحترام بالغ للمعتقل .. الذي يخضع قسراً .. قليلاً أو كثيراً .. لجحيم آلة القمع الرهيبة .. ويظل محافظاً على كبريائه وكرامته وقيمه الوطنية والأخلاقية والإنسانية .. ويضمد جراحه العضوية والنفسية بعد الاعتقال .. ويتجدد .. يحاول من جديد .. اقتحام حقول ألغام القمع .. ليصل ووطنه إلى فضاء الحرية ..
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى