صفحات ثقافية

محمد الماغوط.. كأنما هو سينمائي أيضاً

null
بشار إبراهيم
ظهيرة يوم الاثنين 3 نيسان/ إبريل، عام 2006، رحل محمد الماغوط. رحل بهدوء وقد طوى 72 عاماً، هو الذي ملأ دنيا الثقافة العربية ضجيجاً طيلة النصف الثاني من القرن العشرين، أو يكاد.
هنا محاولة إطلالة على الرؤية المتبادلة بينه والسينما.
ثلاثة أفلام تسجيلية موضوعها واحد: محمد الماغوط. كان ذلك منذ أعوام، تماماً قبيل رحيله، حتى ظهر الأمر وكأنه انتباهة مفاجئة لوجود هذا الرجل، ولإمكانية التصوير معه.
ربما بدأ الأمر المخرج فراس كيلاني (الذي يبدو أنه كان يملك مشروعاً تسجيلياً مميزاً، لكنه توقف عند حدود محمد الماغوط، وعبد الرحمن منيف)، تلاه في ذلك، وغالباً دون أن تعلم، الشاعرة هالا محمد، فيما اشتغلت المخرجة لينا العبد، من جهتها، على فيلمها باعتباره مشروع تخرجها.
اشتغل فراس كيلاني على فيلمه الوثائقي لصالح التلفزيون السوري، بينما اشتغلت هالا محمد ضمن باقة أفلام جرى إنتاجها لصالح قناة الجزيرة، واستكملت لينا العبد فيلمها، وطورته احترافياً، إلى درجة أن اقتنته، وبثته، قناة الجزيرة.
الثلاثية هذه تنبهنا إلى إمكانية (بل وضرورة) قيام الفيلم التسجيلي بالتوثيق مع قامات أدبية. على الأقل تلك التي تبدو مزمعة على الرحيل، أو تكاد!.. تلتقط مآلات خبراتها الحياتية، وملامح نهايات مشروعها الإبداعي، وخلاصات أفكارها، في طبعتها الأخيرة، ربما.
من طبيعة هذه الشخصيات؛ القامات الأدبية، غالباً، أنها موشورية الطراز، يمكن تعدد قراءاتها بتعدد وجوهها، ونشاطاتها، وممارساتها، وإسهاماتها.. ليس من الممكن، مثلاً، أن نقع على وجه، أو صورة واحدة لشخصية مثل الماغوط.
بل إن كثيراً منها ارتبط مع “آخر”، بما يشبه الثنائية الحاكمة. ننتبه هنا إلى السلسلة الوثائقية التي حملت عنوان “ثنائيات”، ومن أبرزها كان ثمة وثائقي يتناول ثنائية “محمد الماغوط ودريد لحام”.
وإذا كانت الأفلام التسجيلية، التي موضوعها الماغوط، قد ذهبت لزيارته في بيته الدمشقي، الذي أمضى فيه أواخر أيامه، دون أن يخرج منه إلا للضرورة القصوى.. فحاورته وناقشته، وجالسته، وكان لها أن سجلت لآرائه، كما الطقوس اليومية التي اعتادها، وحيداً، أو مع بعض الأصدقاء ممن لازموه.. الأمر الذي كاد بالنهاية أن يجعل من هذه الأفلام الثلاثة تنويعات على وتر واحد!..
فإن وثائقي “ثنائيات”، قد ذهب باتجاه آخر في تناوله شخصية الماغوط. فلا يبدو هنا ذاتاً مبدعة مستقلة بذاتها، بل من زاوية ارتباط مشروعها الثقافي الإبداعي، في جزء منه، بمشروع مبدع آخر، يتكامل معه، بطريقة، أو بأخرى. ومدى التأثير والتأثر الذي تبادلاه فيما بينهما.
صحيح أن مشروعهما بدأ مسرحياً.. ومرّ على الدراما التلفزيونية.. ولكنه انتهى سينمائياً، بفيلمين روائيين طويلين.

محمد الماغوط.. كأنما هو سينمائي أيضاً.. من تراه ينتبه لهذه الصفة، وهو يحاول رسم القليل من تفاصيل هذا الرجل الاستثناء؟
محمد الماغوط.. الشاعر..الناثر.. المسرحي.. الثائر.. الصحافي.. المشاكس.. النافر.. المتمرد.. سياف الزهور.. الرجل بملايين الجدران.. المتبصر بملايين الأعين.. الباحث عن ضوء من خلال ثقب في أمل، أو فوهة في لحظة فرح.. من تراه ينتبه إلى أنه كان سينمائياً أيضاً؟
.. الذي لم يخفف الوطء لحظة، فألقى بكلكله كله على جثة الأرض، لعله ينعشها من سباتها، من رقدتها، من غفوتها، واستكانتها على جثة المحرومين..
محمد الماغوط.. الذي مرّ خفيفاً بهياً ما بين الشعر والمسرح، في الإبداع.. وما بين الزاوية والمقالة والعمود، في حرفية الصحافي.. فامتلك ناصية القول الجاد، واللذع الهازل، والنباهة في الالتقاطة، والذكاء في الايماءة..
.. الريفي الذي هزىء بالمدينة.. فعاشها، وعجنها، وأخضعها، ومدّ لها لسانه.. وأشهر في وجهها أصابعه كلها.. إصبعاً للسؤال، وإصبعاً للتنبيه، وإصبعاً للملامة، وإصبعاً للاتهام.. وإصبعاً للقتال.
محمد الماغوط.. كأنه سينمائي أيضاً..
ويقول الفنان دريد لحام: “مع الماغوط كنت أكتب كلمة كلمة، وجملة جملة”.. ويؤكد على مبدأ “الورشة الكتابية في السيناريو”.. وسواء كانت القصة لدريد لحام، أو لمحمد الماغوط، إلا أنه ليس من المبالغة القول إن نكهة الماغوط حاضرة، دائماً وأبداً.. وبانتهاء العلاقة بينهما بدا واضحاً أن صفحة كاملة من مسيرة دريد لحام الفنية، قد انطوت.
اليوم، ومع تيترات فيلمين سينمائيين فقط، يمكننا مشاهدة اسم محمد الماغوط سينمائياً؛ كاتباً للقصة، أو مشاركاً في كتابة السيناريو: أولاهما في فيلم “الحدود”، عام 1984، وثانيهما فيلم “التقرير”، عام 1986.
وفي هذين الفيلمين، من الممكن القول بطلاقة إن دريد لحام انتقل إلى حيث يريد محمد الماغوط. انتقل دريد لحام من “غوار الطوشة”، إلى ما هو أبعد وأوسع وأعمق. صار دريد لحام حاملاً لمقولات نقدية سياسية واجتماعية وثقافية، بعد أن كان حمولة مقالب ومغامرات صعلوك مديني صغير؛ صبي حمام، أو عاشق مولّه، أو باحث عن مكان له في مجتمع يصده صدوداً عنيفاً.
مع الماغوط أخذ دريد لحام مرتبة أعلى وأكثر عمقاً ودراية. صارت له أبعاد سياسية وثقافية واجتماعية. صارت له رؤى نقدية. لم يعد الفتى المقهور، بل صار عيناً نافذة وناقدة لمجتمعه، وأحواله، وراصداً للمتغيرات التي تعصف بالبلد وهو على حافة الانتقال من بلد تتهالك مدينيته، إلى بلد يتريف بكل ما فيه.
عند الماغوط، لم يعد غوار أنموذجاً للصعلوك المديني، الذي يتفنن في حارته بمقالب ومغامرات تنتهي عند حدود الحارة المدينية، قاعها الفندق، وسقفها المخفر. بل كأنما صار هذا الفتى المديني لا لزوم له.
غوار الذي أمضى عمراً بالتحايل على شخصيات الحارة الدمشقية، ما عاد لازماً بعد أن انطفأت الحارة الدمشقية ذاتها، إذ أكلها الدائري الجنوبي، وربما الشمالي، والطرقات السريعة، والأوتوسترادات، والبنايات الإسمنتية العالية..
لم يعد غوار لازماً، وقد صار سكان حي العمارة، وأحياء دمشق العتيقة، قادمين من تناثرات المدن والقرى البعيدة، من جنود وعمال وصغار كسبة، وتوارى أهل المدينة، بعد أن جرى طرد بورجوازييهم من السوق، وحل حمام البخار محل حمام السوق.
ومحمد الماغوط.. الريفي أصلاً، القادم من قرية “السلمية”، يدرك ذلك كله.. فيأخذ غوار في رحلة مسرحية إلى القرية، في “غربة”، و”ضيعة تشرين”، وينجو به من صعلكة حارات دمشق، قبل أن يعود به سينمائياً مع فيلمي “الحدود”، و”التقرير”، مديني الهيئة واللباس والوظيفة، ريفي القيم والأخلاق.
كأنما محمد الماغوط كان على إيمان بأن الشخصية السينمائية، كما الشخصية الروائية، تغتني بمدينيتها!.. ربما، من أجل هذا سرعان ما عاد بغوار إلى المدينة سينمائياً.. تارة تحت اسم “عبد الودود”، وأخرى باسم “عزمي بيك المستشار”. مع ملاحظة أن أخلاقيات هاتين الشخصيتين تنتميان إلى الطراز الريفي.
هنا، كما لو أن مشادة، خفية وغير منظورة، جرت بين دريد لحام، العريق بمدينيته، حتى أعتق حاراتها، ومحمد الماغوط المضمخ بريفيته، إلى أقصى قراه.. فكان أن جرى التوصل إلى حلّ وسط، ربما.
نحن، في الفيلمين، أمام شخصيات تبدو لوهلة أولى، وعلى المستوى الظاهري، والشكلاني، باعتبارها أبناء مدينة، فيما هي في الحقيقة، وفي عمق تكوينها، وعلى مستوى أخلاقياتها، وسلوكياتها، تمثل الريف. الريف، على الأقل كما هو متعارف عليه، في البنية الذهنية، والفكرية، والقيمية الأخلاقية، التي جرى إنتاجها طيلة القرن العشرين.
لا يمكن فهم عبد الودود، أو عزمي بيك، دون إدراك حالة النقاء الفكري، والتطهر الأخلاقي.. ذاك مما لا علاقة له بالمدينة، والصراع الشرس، والتكالب على فرصة للحياة، أو العمل. هما يبدوان خارجين عن كل مستلزمات المدينة. هما على قدر من الرضى.. الرضى الذي تولده العلاقة مع الأرض، التراب، أخضر الحشائش، أليف الحيوانات، وقطرة ماء..
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى