صفحات الشعر

كـلــمــــــات لـلـــريـــــــح

null
ثيودور روثكه
ثمة اسماء في ميداني الادب والفكر، لم تحظ بما حظيت به اسماء من الشهرة والاهتمام، في حين انها تحتل مركز الصدارة في مواطنها. وبما أن ذلك عائد الى عوامل عدة لا مجال لايرادها الآن، فإني أكتفي بذكر أهمها وهو بالطبع: الترجمة. وإن تكن هذه قلما تنشط الا مرتكزة على تلك العوامل، لارتباطها بها ارتباطاً تفاعلياً. من هذه الأسماء التي غُمط حقها في الانتشار خارج محيطها، الشاعر الاميركي ثيودور روثكه. إنه أهم تجلّ للشعر الاميركي بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديدا في الفترة التي تلت عزرا باوند، وت. س. إليوت. يتمتع روثكه بنسيج شعري فريد يعبّر عن التضامن الحميم بين الأنسان ومواليد الطبيعة الثلاثة. هذا النسيج الفريد قد أكسبه، ولا سيما في قصائده الرثائية الاخيرة، حجماً شعرياً كبيراً يليق بموهبته. وُلد روثكه في ساجينو من ولاية ميتشيغان عام 1908. مارس التعليم في جامعات اميركية مختلفة. في قصائده غموض كثير، نابع من بناء أبيات القصيدة في مداميك غير مترابطة ظاهرياً، ولكن تجمع بينها علاقة داخلية خاضعة لسيطرة الشاعر، مما يبعدها عن السقوط في فخاخ الهذيان أو التراكيب الغريبة الجوفاء. ويحدد الناقد م. ل. روزنتال في دراسة نقدية له عنوانها The Modern Poets الصادر عام 1960، خصائص روثكه الشعرية بقوله: “إن عرض سلسلة من الحالات النفسية المتغايرة بدون اي تعليق، يعد من ابرز خصائص شعره. وان الغزارة اليائسة التي تظهر، في بعض اللحظات، على شكل البهجة الدائمة، وفي لحظات اخرى، على شكل حياة فرحة، مفجعة، ومحمّلة أعباء لا طاقة لنا بها، تجعل من طيف الحالات النفسية القلقة والحزينة قانوناً للحياة. كل حالة مناقضة تنمّ عن الحالة الاخرى. وهذا هو المنطق الذي يحرّك هذه القصائد. لأن الوجود الذي تصوّره، هو وجود ذاتي خالص، ومفتاح كل شيء في هذا الوجود، هو كيف يشعر به روثكه في داخله، وليس في أي مصدر من مصادر المعاني خارج هذا النطاق”. وها هو روثكه يقول: “اترجّح في ظلمتي الخاصة” أو “أتنفس وحدي حتى تنجلي ظلمتي” او “بالموت يومياً، بلغت كينونتي”. أهم الذين تأثر بهم روثكه، هو الشاعر و. ب. ييتس. قصيدة “المحتضر” المنشورة هنا، مهداة اليه. الى جانب قصائد اخرى اخترتها من المجلد الذي أصدره الشاعر عام 1958، وضمنه مجموعاته الشعرية السابقة، موسوماً بعنوان “كلمات للريح”، وقد نال يومها جائزة “بوليتزر”.
سَحْلَبِيّات
تنحني على الدرب،
بأفواه أفعوية،
تترجح قرب الوجه،
تنبثق، ناعمة وخادعة،
رطبة، رخوة، وهشّة كلسان فرخ طائر؛
شفاهها المرتعشة والغريرة
تتحرّك في بطءٍ
وتتوق الى الهوار الحار.

وفي الليل،
يتسرّب القمر الباهت عبر زجاج النافذة المكلَّس،
الحرّ يخفّ،
الى حد أن رائحتها المسكيّة تزداد،
وتسقط من مِهادها الطحلبانيّة:
مواليد حديثة كثيرة مفترسة!
أصابع مضيئة وناعمة،
شفاه لا ميتة ولا حيّة،
وأفواه مرتخية وموهومة
تتنفّس.
أَحضِر النهار
I
ثمّة نحلٌ وزنبق،
ثمّة نحلٌ وزنبق،
كل منها للأخرى، –
فأيها تفضّل؟

الأعشاب الخضراء – هل كانت تجرؤ؟
الأعشاب الخضراء؟ –
سألت جِلدَها
كي يسمح لي بالدخول:
الأوراق البعيدة كانت موافقة.

الأمر سهل دائماً، قالت.
كم تعرف من الملائكة؟ –
شيءٌ ما تقدّم نحوي
من جانب العاشق الشاب،
لم يكن إوزّة،
لم يكن كلب “بودل”.

كلّ شيء هو أقرب. هل هذا قفص؟
القشعريرة لا تصيب القمر.
وحدها الغابات حيّة.
لا يمكنني أن أتزوّج الوحل.

أنا قطعة بسكويت. ذائبٌ أنا الآن.
الطقس المثْلِج يكرهني.
اللماذا كما أحبّ.
لا يمكنني أن أمسك دغَلاً.
II

أسماك الرنكة يقظى.
ما هذا الغناء في ما بينها؟ –
هل ثمة همساتٌ وقُبَل؟ –
لقد أَصغيت الى أصغر الأمواج.
العشب يقول ما تقول الريح:
البداية مع الصخر،
والنهاية مع الماء.
حين أقف، أكون شجرة تقريباً.
أيتها الاوراق، هل تُحبّينني قليلا؟
الأوزّة تحتاج الى بِركة.
الدودة والوردة
كلتاهما تحبّان
المطر.
III
أيها الطائر الصغير اليقظان،
الخفيف كيد بين الأزهار،
كل الملائكة الطاعنين في السنّ رحلوا تقريباً.
الريح هادئة تحت الأوراق الصغيرة.
الغبار، الغبار الطويل، مستمر.
والعناكب تبدأ عملها في الصيف.
هذا أوان البدء!
البدء!
الزائرة
I
اقتربت غيمة. شحنة الريح غيّرت وجهتها.
تمايلت شجرة فوق الماء.
قال صوت:
إبقَ، قرب الطين الزلِق، ابقَ.

أيتها الشجرة العزيزة جداً، قلتُ، هل أستطيع الاستراحة هنا؟
أجابت موجة صغيرة في هدوء.
وانتظرتُ، يقظاً مثل كلب.
وانتظَرتِ العلَقة الملتصقة بالحجر؛
والسلطعونُ، ذو النفَس الصامت.

II
بطيئةً، بطيئةً كسمكة أقبلَتْ.
بطيئةً كسمكةٍ تتقدم
وتترجّح على موجةٍ طويلة،
لا تلمس تنانيرها أية ورقة،
وذراعاها البيضاوان ممدودتان نحوي.

أقبلتْ بلا ضجيج،
بدون أن تمسّ الحجارة الرطبة؛
في ظلمة مساءٍ ناعمة
أقبلتْ،
الريح في شعرها،
والقمر في أوّله.

III
استيقظتُ عند الفجر.
فيما كنت أنظر الى شجرة، أحسستُ بنبض حجر.
اين هي الآن، ظللت أردد.
اين هي الآن، بنت الجبل الناعمة؟
لكن النهار الساطع لم يجب قط.
ثارت ريح بين ديدان التفاح،
وتمايلت الشجرة، الصفصافة القريبة.
المحتضَر
I
كلماته
سمعت محتضراً
يقول لأقربائه المجتمعين:
“نفسي معلّقة كي تجف،
كجلد ملحّ حديثاً،
أشك في استعمالها ثانية.

“ما تم عمله لا يزال يُعمل،
اللحم يهجر العظم،
لكن قبلة توسّع الوردة،
وأعرف، كما يعرف المحتضَرون،
ان الأبدية الآن.

“يرى انسانٌ، وهو يموت،
إمكانات الموت،
قلبي يتمايل مع العالم.
انا ذلك الشيء الأخير،
إنسان يتدرب على الغناء”.
II
ماذا الآن؟
ماخوذاً بالضياء الزائل،
خلت اني اولد ثانية.
يداي تصبحان حافرين
أشيل حملاً ثقيلاً
لأمر لم أفعله قط.

الأماكن الواسعة وأمواتها،
الوحل، الغابة المخضّلة
تذكّرني بالبقاء حياً
انا الانسان الأخرق
الذي يشيخ فيه الآن.
لقد أحرقت جسدي،
في الحب، في أيار الزاهي
أدير نظري نحو
شكل آخر سواه،
الآن، فيما النافذة تعلوها غشاوة.

في أسوأ ليالي ارادتي،
جرؤت على الشكّ في كل شيء،
وسأظل افعل ذلك.
من يقرع الباب؟
يمكن الزائر ان ينتظر.
III
الجدار
ينبثق شبح من العقل اللاواعي
ويبحث عن عتبتي: يأسف لأن يولد ثانية!
الشكل الذي ورائي ليس لصديق،
اليد التي على كتفي تنقلب قرناً
وجدت ابي حين قمت بعملي،
كي أتيه فقط في هذه الظلمة الطفيفة

برغم أنها تطرح الجوانب الجافة للأشياء المرئية،
ايّ عين جسدية يمكنها أن تحتفظ بصفاء صورة،
منحنية على عتبة لتحية الفجر؟
النمو البطيء يصعب احتماله.
حين تثب الأشكال مسعورة من الظلال
أيّ حب جسدي ليس رقصاً على قبر.

لقد برز الجدار: عليّ أن احب الجدار،
معتوهاً يحدق في الليل الأبدي،
روحاً غضبى على المرئي.
اتنفس وحدي حتى تنجلي ظلمتي
الفجر حيث يكون البياض. من يتعرف الى الفجر.
مع تلك الظلمات المبهرة خلف الشمس؟
IV
الابتهاج
سابقا كنت ابتهج بشجرة واحدة،
كان الهواء الطليق يجعلني أركض كصبي –
اني احب العالم، وأتوق الى ما يتجاوز العالم،
أو الى الصورة الخفية للعين الباطنية.
اللحم ينادي اللحم، والعظم ينادي العظم،
اموت في هذه الحياة وحيداً ولكن لست وحدي.

اهو إله كان يجدد آلامه؟
رأيت ابي ينكمش في جلده،
ادار وجهه: كان ثمة شخص آخر
سائرا على الحافة، مثرثراً، جريئاً.
كان يرتجف كطائر في جوّ بدون طيور،
لكنه كان يجرؤ على التفرس في رؤياه في اي مكان.
الأسماك التي تغتذي بالاسماك، بحسب الحاجة:
يجدّدني اعدائي، ودمي
ينبض في بطء في عزلتي اللامبالية
اكشف عن جرح، وأتحدى نفسي أن ينزف
أتصور طائراً، ويأخذ يطير.
بالموت يومياً، بلغت كينونتي.

كل بهجة هي شيء خطر.
اراك، يا حبي، اراك في حلم،
اسمع طنين نحل، دندنة تعريشة،
وهذه الدندنة البطيئة تعلو لتصبح نشيداً.
إن نَفَساً ليس سوى نَفَس: الأرض ملكي،
سالغي كل موت بموتي.
V
انها تغرد، تغرد
النساء أحببن كلهن الرقص في ضوء خافت –
القمر امي: كم احب القمر!
انه يغادر مكانه، كدلفين،
ثم يعود الى الظل والليل الطويل
يصرخ حيوان كأن لحمه يمزق،
ويرجعني هذا الصراخ الى حيث ولدت.

من خال الحب حركةً بسيطة في العقل؟
هل انا لا شيء، في نزوعي الى شيء؟
سأخيف نفسي بالتحسر، او سأغني:
إهبط يا أنعم الأضواء، إهبط، إهبط.
اسمع طيورك ايها الحقل السحيق الجميل،
انها تغرد، تغرد، لكنها لم تزل في فاصلة الموسيقى الثالثة.

القبّرة التي تغرد وحيدة، خولتني الكلام عنها:
ما هو مرئي يتراجع، ابديُّ ما نعرفه! –
الأبدية محددة، ومغطاة بالقش،
سورة البزاق تحت الحجر.
الرؤيا تتحرك، لكنها تبقى على ما هي.
في تسبيح السماء اخشى ما أكونه.

لا تزال منحدرات القمة، ترعبنا
حين نفكر في موتانا وأحبائنا،
ولا يمكن المخيلة أن تقوم بكل شيء
في هذه البقعة الاخيرة للضوء: يجرؤ وحده ان يعيش
من يتخلى عن كونه طائراً، لكنه يضرب بجناحيه
امام فراغ الاشياء اللا يُحدّ الهائل.

ماذا اقول لعظامي؟
I
غِرّة،
غِرّة أزلية،
لا تعرف النفس بماذا تعتقد.
في ثناياها الدقيقة، المتحركة في كسل،
في المكان الأضيق من حياتها،
نبضان في ما وراء العدم،
جهل مذعور.

قبل أن ينسحب القمر،
هل أجسر على التوهّج كشجرة؟
في عالم، أبداً آخر الأصيل،
في الروائح الدائرية لريح بطيئة،
أسمع شكوى الاعشاب الليلية
حالمة بالمطلق الذي لن يأتي.
والأشكال تخيفني:
رقص الاشياء الطبيعية في الذهن،
الانعكاس المباشر، حقيقة القشّ،
والظلال الهابطة على طول جدار الشمس.

طائر يغرّد في عزلته
تغريداً أجشّ خافتاً. النهار في طفل يموت.
كم نقرب من الحيوانات الحزينة!
أحتاج الى بِركة: أحتاج الى بُريكةٍ هادئة.

يا عظامي،
إحذري البدايات الأزلية،
التي تُرقّق جوهر الروح؛
ورهبة الأوزّة أمام الضفة المظلمة،
أو تلك الحشرات النابضة قرب جِلْدي،
وأغاني شجرة لولبيّة.

هياج ريحٍ، ولا ريح ظاهرة،
عصفةٌ فجائية تذرّي الأوراق،
كرمةٌ مثارةٌ في هياجٍ جافّ،
رجلٌ يطرد قطّاً
بمظلةٍ محطّمة،
ويبكي في هدوء.
II
يصعب القول إن كل الامور مُرضية،
حين يكون الأسوأ على وشك أن يقع؛
من المميت التودّد الى الذات،
مهما كان الموقف محبّباً.

أيها القلب المحبوب، ماذا يمكن أن أقول؟
حين كنتُ قبّرةً، كنتُ أغرّد؛
وحين كنتُ دودةً، كنتُ أنهش.

تقول الذات، أنا موجودة؛
يقول القلب، أنا موجودٌ بدرجةٍ أقلّ؛
وتقول الروح، أنتَ لا شيء.

الضباب يشوّه الصخور. ماذا يمكن أن أقول لعظامي؟
رغبتي ريح سجينة في مغارة.
الروح تكشف عن ذاتها في تلك الصخور.
أنا حجرٌ صغير، طليقٌ في الصلصال.
الحب جرحي.

الأنهار العريضة تدفق في مجاريها،
البِركة تعود الى سكونها الزجاجي.
قضية الله في ذاتي – هل اختفت؟
هل تحيا هذه العظام؟ هل يمكن أن أحيا بهذه العظام؟
أمّي، يا أمّنا جميعاً، قولي لي أين أنا!

آهٍ، للنجاة من العقلي في مملكة الغناء الصافي،
وجهي ملتهب، بالقرب من أطراف نجمة،
فتاة ذكية مثقفة،
ليست مسحورة بشكل محزن،
لكنها مهووسة بهدوء.

أن يحاول المرء التماثل مع الله،
بعيد من أن يصير الله.
آهٍ، لكنني أجِدّ في ذلك باهتمام!

أترجّح في ظلمتي الخاصة،
متخيلاً أن الله في حاجة إليّ.
الموتى يحبّون الذين لم يولدوا.
III
الاعشاب في الريح تتحوّل الى هياكل عشبيّة.
كم هو بطيء تحوّل كل الاشياء.
الوجود يجرؤ على تخليد نفس؛
إسفين ضوء سموي، غناء خريفي.
أسمع خفق أجنحة طيور، أجنحة مُصفّقة
تختفي في قمر شاحب؛
إنه كلام الضوء الأصرح بين الحجارة.

الى أي إجازة كبرى وصلت؟
حين أمرّ في محاذاة دنٍّ، يهتزّ الماء.
لا أتوق الى الخُضرة في وسط الرماد،
ولا أحلم بالموتى، وحُفَرهم.
للنعمة أذرع كثيرة.

بدل شيطان أَقْرن، أفضّل أفعى ذات قشور؛
في التجربة، قلّما أطلب نصيحة؛
كأسير للروائح، أرغب في الأكل أكثر من الصلاة.
أنا معفيٌّ من رقص الاضداد الحزين.
الريح تترجّح وفق رغبتي؛ المطر يقيني؛
أحيا في حدّ الضياء؛ أتمدّد في كل اتجاه؛
أحياناً أخالني متعدّداً.

يا الشمس! يا الشمس! ويا كل ما يمكن أن نصير
ويا الزمن الناضج للاسراع الى القمر!
في الحقول الفسيحة، أتخلّى عن عين أبي؛
وأهزّ الاسرار في أعمق عظامي؛
ترتفع روحي مع هبوب الريح؛
أنا مُثقل بالاوراق، ورخصٌ كيمامة،
أضطلع بالحريات التي تسمح بها حياة قصيرة
أبحث عن خضوعي الخاص؛
أهتدي الى حناني في تأمل طويل.
في منتصف الليل أحب كل ما هو حيّ.
من انتزع الظلمة من الجو؟
بي بللٌ من حياة أخرى.
بلى، رحلتُ أنا وبقيتُ.

ما حدث لي بغير وضوح، وضح أخيراً،
كأن روحاً أذنت بذلك،
أو قوّة خارج ذاتي.
أذنت بدون صلاة،
ونهائياً.
(من مجموعة أعماله: Words For The Wind)
(ثيودور روثكه التقديم والترجمة: هنري فريد صعب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى