صفحات مختارة

نحو نسق عربي ديموقراطي

null

الدكتور عبدالله تركماني(*)

تتميز الثقافة السياسية، لدى أغلب الفاعلين السياسيين العرب، بأنها تستهين بالتنوير والفكر الحر، وتبرر الاعتقال والنفي والتشريد والقتل، وتعمل على إشاعة روح الخوف والترهيب لإضعاف دور المثقفين “ضمير الأمة”. ومن أجل تجديد الثقافة السياسية العربية يمكن الإشارة إلى أهم القواعد والمبادئ:

1 ـ اعتبار ساحة الفعل السياسي مفتوحة دوماً على قوى ومجموعات ذات تصورات فكرية ومشارب سياسية متباينة، الأمر الذي يفرض على الممارس السياسي اعتماد قدر كبير من المرونة في التعامل مع الشأن السياسي تمكّنه من القدرة على التكيّف مع معطيات الواقع المتحول.

2 ـ ضرورة التزام الخطاب العقلاني والواقعي في العمل السياسي، لما يتيحه ذلك من إمكانية الإحاطة بالواقع الشامل والتعرف على العوامل المؤثرة في سيرورة تطوره. إذ أنّ الواقعية والعقلانية تقتضيان تقديراً دقيقاً للإمكانيات الفعلية للذات، التي تتوخى الفعل والتغيير في وضع سياسي ما، ذلك أنّ تضخيم تلك الإمكانيات يترتب عليه رسم خطط وبرامج للممارسة مكلفة إنسانياً وفاشلة عملياً، وفي ذلك هدر للطاقات في معارك مجانية أو غير متكافئة قد تنتهي إلى كارثة محققة.

3 ـ اعتماد ثقافة الحوار، انتصاراً لفكرة أو دفاعاً عن موقف وحماية لمصلحة خاصة أو عامة.

4 ـ الاستعداد الواضح لتمكين الأجيال الشابة من تحمّل مسؤولية قيادة العمل السياسي، باعتبار ذلك شرطاً أساسياً من شروط تجديد شباب الأمة.

وتكتسب الدعوة إلى التعددية وحق الاختلاف أهميتها مما تشهده بعض أقطارنا العربية من انقسامات عمودية تهدد وحدتها وتسهّل لأعداء الأمة تمرير مخططاتهم التقسيمية على أسس ما قبل وطنية.

وعليه، فليس من قبيل الترف الفكري الدعوة إلى ضرورة تطوير نسق عربي ديموقراطي مؤسس على مشروعية التعددية وحق الاختلاف، مما يتطلب:

1 ـ وفاقاً بين السلطات القائمة في أقطارنا العربية وبنى المجتمع المدني لصياغة حل انتقالي تدريجي نحو الديموقراطية، بحيث تتم دمقرطة هياكل السلطة وبنى المجتمع المدني في آن واحد، ضمن إطار توافق على مضمونه ومراحله مجموع القوى والتيارات السياسية والفكرية الأساسية. ويبدو واضحاً أنّ نجاح هذا المسار مرهون بمدى استعداد السلطات العربية لترشيد بنائها على أسس عقلانية وديموقراطية.

2 ـ إنّ الديموقراطية عملية مستمرة، تتضمن معاني التعلم والتدريب والتراكم، ولذلك فإنّ أفضل طريق لتدعيم الديموقراطية هو ممارسة المزيد من الديموقراطية. كما أنها ليست عملية قائمة بذاتها، بل لها متطلباتها وشروطها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والمؤسسية. ولذلك فإنّ العبرة ليست بتحقيق التحول الديموقراطي فحسب، ولكن بتوفير ضمانات استمراره وعدم التراجع عنه، وتجذيره في البنى السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية للمجتمع.

وفي كل الأحوال، يجب أن نعترف بأنّ دول المنطقة العربية بحاجة ماسة إلى التطور في اتجاه ديموقراطي حقيقي. ومن أجل ذلك، تبدو الديموقراطية في رأس أولويات التجديد العربي، فمسألة التقدم العربي تستدعي مقولات جديدة: المجتمع المدني، الديموقراطية، الدولة الحديثة، المواطنة. وتبدو أهمية ذلك إذا أدركنا أننا، بشكل عام، لا نملك لغة سياسية حديثة، منظمة وممأسسة، في بنانا السياسية والثقافية، إذ بقينا خارج تسلسل وتاريخ الأحداث، فماضينا ما زال ملقى على هامش حاضرنا، بل يهدد مستقبلنا.

ومن أجل صياغة مثل هذا الإطار لا بد من إدراك مخاطر الصيغ الواحدية القسرية التي عرفتها العديد من أقطارنا العربية، حيث أنها كانت أداة قمع وتهميش للتعددية الفكرية والسياسية، مما جعل إدراكنا الجمعي مقتصراً على الإدانة الخطابية للمؤامرات الخارجية، بدل البحث عن مصادر الخلل في بنياتنا الداخلية.

إنّ الديموقراطية ليست ممارسة سياسية وحسب، بقدر ما أنها أسلوب حياة، وسلوك اجتماعي معين، مؤطر بثقافة لا تستقيم الممارسة الديموقراطية دونها. تتكون هذه الشبكة، أو لنقل البنية التحتية للديموقراطية، من عدة أمور، ولكن يمكن تلخيصها في أربعة أركان هي: الثقافة والتعليم والمأسسة والقانون. فبدون ثقافة ديموقراطية، وعقل نقدي، ونظام تعليمي يزرع القيم في النفوس قبل العقول، ومجتمع مدني فاعل، ونظام قانوني يؤطر التفاعل بين وحدات المجتمع ويحمي حركتها واستقلاليتها، فإنه لا يمكن الحديث عن ديموقراطية، حتى لو كان هناك صندوق اقتراع، أو كانت هناك أحزاب وانتخابات دورية.

(*) كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
المستقبل – الاثنين 28 نيسان 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى