صفحات الناسياسين الحاج صالح

عن -مثقفي السجن- بالأحرى، لا عن سجن المثقفين – إلى أكرم البني

null


ياسين الحاج صالح

عند التفكير في السجن كشرط محتمل للمثقف، قد يتخيل المرء وضع مثقفين مستقلين، يعملون في شروط من التضييق على حريتهم، مهددين بالاعتقال والحبس إن تخطو “الخطوط الحمراء” لنظام استبدادي. وقد يتداعى إلى الذهن مصير مثقفين روس أو أوربيين شرقيين أيام الشيوعية، وأسماء مثل سولجنتسين الروسي وفاكلاف هافل التشيكي. يتعلق الأمر بمثقفين معروفين أو مكرسين، بادروا إلى فعل أو قول ما تعتبره السلطات تحديا لها، فسيقوا إلى السجن عقابا. الثقافة هنا تسبق السجن الذي يأتي جزاء على تعديها حدودها وتدخلها في الشؤون العامة.

في التجربة السورية، أشيع أن تأتي الثقافة بعد السجن: يعتقل شبان مجهولون لمدد طويلة، فيخرج بعضهم منه مترجمين أو كتابا أو أدباء. ولكوني واحدا من هؤلاء، فقد ذهب تفكيري إلى “مثقفي السجن” لا إلى سجن المثقفين عندما اقترحت علي هذه المساهمة. بلى، حصل أن اعتقل مثقفون في سورية، لكن ليس لأنهم استندوا إلى رصيدهم الثقافي للاعتراض على سياسات عامة، الأمر الذي ندر أن فعله مثقفون سوريون مكرسون للأسف، بل لأنهم كانوا مقربين من أو منخرطين في تنظيمات سياسية معارضة. إلى ذلك فإن مثقفي السجن السوريين هم المهددون اليوم بالسجن أكثر من غيرهم، كما سنقول فيما بعد.

**

لعله يتعين “شكر” كل من نظام الرئيس حافظ الأسد وتداعي الشيوعية على ولادة عدد من المثقفين السوريين من سجون بلادهم. لقد التقت ثلاثة ظروف لتثمر هذه الظاهرة اللافتة. أولها إن ما يقارب ألفا من المعارضين اليساريين، معظمهم من الشبان، قضوا سنوات طوالا في السجن، ومئات منهم حول عشر سنوات للواحد. ثانيها إنه تسنت لكثيرين بينهم في السجون ظروف تتيح “ترويض السجن” بقراءة الكتب وتعلم لغات أجنبية. وثالثها إن الإيديولوجية التي سندت نضالهم ضد النظام، الشيوعية، تداعت وهم في السجن، الأمر الذي ربما كان حافزا لبعضهم على التفكير المستقل. إنصافا يلزم القول إنهم من أصول انشقاقية أصلا، وإن بذرة النقد كانت موجودة عند كثيرين منهم، لعلهم هم بالذات من طال مقامهم أكثر من غيرهم في “ضيافة” النظام. وقد يكون من هؤلاء بخاصة من تسنى لهم أن يتداركوا إخفاقهم السياسي بشيء من إنجاز ثقافي. أما أولئك الذين رفضوا الإقرار بالإخفاق فلعلهم حافظوا على حصانة غير منقوصة ضد الثقافة. ولعل هذا ينطبق كذلك على من كانوا مكرسين سياسيا بيننا أكثر من غيرهم، القيادات الحزبية.

مثقفو السجن، إذن، هم من “تخرجوا” من السجن مثقفين، قبله كانوا أعضاء فحسب في أحزابهم، وهم بعده مستقلون في الغالب، لكن بعضهم حزبيون. ثمة بالمقابل مثقفون معتقلون سابقون مثل ميشيل كيلو الذي كان معروفا قبل اعتقاله الأول في مطلع الثمانينات.

ومن المفيد التساؤل عما كان يمكن أن يكون حال الثقافة في سورية لو تسنت للمعتقلين الإسلاميين، وهم أكثر من عشرة أضعافنا، ظروف سجن مقاربة لظروفنا. ليس ثمة ما يدعو إلى الشك في ظني في أنه كان برز بينهم عشرات من مثقفين مرموقين. ماذا يشبه مثقف من خلفية إسلامية تعلم لغة أجنبية أو أكثر وتسنت له القراءة خلال عشرة سنوات أو 15 أو عشرين؟ لا سبيل إلى معرفة ذلك. لكن لا ريب أن سورية فقدت غنى ثقافيا ممكنا، انضاف إلى خسائر إنسانية وسياسية باهظة لما تطو صفحتها بعد.

**

أدركت وأنا في السجن، بين عامي 1980 و1996، أن علي أن أحاول تعويض هذا الاعتقال المديد، قياسا إلى عمري وقت اعتقالي وإلى “الجريمة” التي ارتكبت، بشيء في مجال الثقافة. علي أن أكون كفؤا لحبسي، أن أستحقه. لا شيء يُعوَّض بالطبع. وما من إنجاز ثقافي هو قطعة غيار صالحة للسنة الحادية والعشرين من العمر أو الرابعة والعشرين أو الثلاثين. لكن الخيار كان بين تعلم شيء ما في السجن، أو عدم تعلم أي شيء في السجن أيضا. ليس غير الثقافة تنقذ السجين (وليس غير الثقافة تنقذ غير السجناء أيضا).

لكن الثقافة ليست شغلا و”لا تطعم خبزا”، في سورية على الأقل. خرجت من السجن فاضطررت إلى استئناف حياتي من حيث كان قطعها الاعتقال قبل 16 عاما. عدت إلى الجامعة في حلب. تصرف أهلي ومحيطي كأن السجن فاصل مزعج طويل، حان وقت طي صفحته، والعودة إلى ما قبله. تصرفت أنا كذلك لبعض الوقت. كنت مشوشا وغير قادر على الاستقلال بنفسي. طالبا جامعيا من جديد، بدا كأني أحذف السجن من حياتي. لكني عدت إليه بعد أن قطعت شوطا في الحياة خارجه. خلال نحو أربع سنوات في الجامعة التقطت أنفاسي، وترجمت وكتبت بضعة أشياء، بينها ثلاثة مقالات متعذرة القراءة، نشرت في “السفير” في خريف 1998. متعذرة القراءة لأن أسلوبي كان مجردا جدا ولدي مشكلة في التوصيل (لا أزال!). أقول “عدت إلى السجن” بأن طويت صفحة الجامعة بعد التخرج منها، واستأنفت حياتي من حيث قطعها إخراجي منه في نهاية عام 1996. كانت سنوات الجامعة وقت إعادة تأهيل نفسي وبدني ضروري، وبناء ثقة جديدة بالنفس. تحولت بعدها إلى الإقامة في دمشق وإلى.. الكتابة. بالنتيجة أضحى السجن، المكان الذي تدربت فيه على الكتابة التي أتفرغ لها وأعيش منها اليوم، المرحلة الأكثر عضوية في حياتي.

أذكر هذا المسار لأن ما يماثله ينطبق في ظني على كثير من مثقفي السجن السوريين. عمل بكر صدقي مراقب دوام ليليا في معمل برادي، ترجم خلالها من التركية إلى العربية روايات وقصصا لأورهان باموق وعزيز نسين وغيرهم؛ وأدار محمد سيد رصاص دكانا لبيع ألبسة، ونشر في الأثناء كتابين وعشرات المقالات؛ وكان أكرم البني يعطي دروسا خصوصية لطلاب في الإعدادية والثانوية؛ وأتيح لعماد شيحا، الروائي والمترجم والكاتب، الذي قضى نحو 30 عاما في السجن، أن يعمل في مجال قريب من اهتمامه، محررا في دار نشر محلية.. ولا يزال أكثر مثقفي السجن يمارسون عملا “حقيقيا” يدر عليهم دخلا، وإلى جانبه نشاطهم الثقافي. والفضل لصحف وناشرين عربا، في لبنان والمهجر، في تمكيننا من منابر للنشر وتحقيق دخل ما من الكتابة.

**

ثابر أكثر مثقفي السجن السوريين على انحيازاتهم المعارضة للنظام، على أسس فكرية جديدة في الغالب. هذا يجعلهم مهددين بالاعتقال ثانية. ومن بين الأسماء المعروفة من الكتاب السوريين الذين كانوا معتقلين سابقين لا يكاد يكون هناك أحد منهم لم يتعرض لتوقيف قصير أو أطول، أو على الأقل لـ”استدعاءات” أمنية تتصل بأنشطتهم العامة. في أيار 2006 عاد ميشيل كيلو إلى السجن الذي كان قضى فيه أزيد من عامين في مطلع ثمانينات القرن العشرين. ويشاركه المقام المترجم محمود عيسى الذي سبق أن قضى ثماني سنوات في تسعينات القرن نفسه. وهما، ومعهما المحامي والناشط في مجال حقوق الإنسان أنور البني، شركاء في التوقيع على إعلان بيروت – دمشق/ دمشق- بيروت. وفي صباح اليوم العالمي لحقوق الإنسان، العاشر من كانون الأول من هذا العام الآفل، 2007، اعتقل مجددا أكرم البني، الكاتب والناشط السياسي الذي سبق أن قضى نحو 16 عاما سجينا على دفعتين. ولحقه بعد قليل علي العبدالله، الذي يعتقل للمرة الرابعة بعد اعتقال أول في التسعينات لأزيد من عام، ثم اعتقالين قصيرين نسبيا، خمسة أشهر كل مرة، في عامي 2004 و2006.

ويبدو اليوم أن مثقفين معتقلين سابقين، بعضهم مثقفو سجن، هم الأكثر تعرضا للاعتقال في سورية. فميشيل اعتقل هذه المرة لشأن أوثق اتصالا بصفته كمثقف، مهتم بالشأن العام في بلده ومحيطه العربي. ومثل ذلك ينطبق على محمود عيسى. ولعله ينطبق بصورة ما على أكرم البني وعلي العبدالله،. فرغم انخراط كليهما في عمل المعارضة، أكرم في أمانة سر المجلس الوطني لإعلان دمشق وعلي في أمانته العامة، إلا أنهما مستقلان. والحال إن قلة من المثقفين يشاركون في أنشطة المعارضة اليوم كأعضاء حزبيين. وهذا الجمع الغالب بين استقلال المثقف والإيجابية حيال العمل العام تطور ثمين في سورية، أسهم مثقفو سجن ومثقفون معتقلون سابقا بالقسط الأبرز فيه.

هل من فروق بين مثقفين تكونوا في السجن والمثقفين الآخرين؟ ربما يكون دافع الإنجاز وتدارك شيء مما فات قويا عند مثقفي السجن. لكن هل يظهر هؤلاء تمايزا بخصوص اهتماماتهم الثقافية والقيم التي ينحازون إليها؟ هل لقيم الحرية وسيادة القانون وحقوق الإنسان حضور في تفكيرهم أكثر من غيرهم؟ الواقع أن هذه القيم كانت كثيفة الحضور في العمل العام المعارض والمستقل في سورية منذ مطلع القرن الحالي الذي وافق انتقال السلطة من الأسد الأب إلى الأسد الابن، والإفراج عمن كان بقي في السجن من المعتقلين اليساريين. كثيفة إلى درجة تبرر الشكوى من التفكير في السياسة والشأن العام بلغة حقوقية وأخلاقية.

يحضر من جهة أخرى تفكير في السياسة بلغة سياسوية، متمركزة حول مسألة السلطة. وكلا الأمرين، الانشغال بمسألة السلطة والمقاربة الحقوقية، متصلان بلا ريب بكثرة عدد المعتقلين السياسيين بين المشتغلين في الشأن العام.

إلى ذلك فإن اهتمام مثقفي السجن منصب اليوم أكثر على القضايا الفكرية والسياسية، بينما كانت الثقافة الأدبية هي الأقوى حضورا بينهم قبل السجن (على تفاوت بلا شك). الواقع أن نشاط المعارض اليساري النمطي في سورية لم يكن سياسيا يتمحور حول الممكن، ولا أخلاقيا يدور حول الواجب، بل هو جمالي منجذب إلى مثال للانسجام. وفي السياسة الجميلة هذه تحتل صورة المعتقل السياسي مكانا متألقا إلى حد أنها كانت حلم البعض منا. لم يكن ثمة مذهب جمالي شيوعي بل كانت الشيوعية مثالا جماليا، ولم تكن الواقعية الاشتراكية وصفة للفن، بل للحياة والنضال. كان المناضل بطل رواية محتملا. والثقافة الأدبية والفنية، الرواية والشعر والسينما..، هي ألزم ما يلزم من أجل النضال، أما السياسة فشيء يزدريه أولئك المناضلون السياسيون الذين كناهم.

تبخرت تلك الثقافة في السجن. قليل بيننا اليوم يجتذبهم الأدب. بينما الترجمة والمقالة تحظيان بالنصيب الأكبر من كتابة مثقفي السجن السوريين. لذلك علاقة بلا ريب بدخل يحتاجه رجال في نحو الأربعين من أعمارهم. فالترجمة والمقالة تدران دخلا عاجلا، لا يتوقع مثله من الشعر أو القصة أو الرواية لأمثالنا.

فيما عدا ذلك ثمة بالطبع الكتابة عن السجن ذاته. ولوفرة “أصحاب العلاقة” من الكتاب لم يكد يكتب أحد غيرهم عن السجن في السنوات الأخيرة. بيد أن ما كتب عن السجن حتى اليوم، وهو قليل قياسا إلى حجم التجربة، لا يزال مشدودا إلى الإدانة والفضح والتشهير، ولما ننجح في جعل السجن الذي تثقف أكثرنا فيه موضوعا ثقافيا. ربما لأن هذا يقتضي “احتراما” للسجن لا تمكننا من إبدائه الشروط السياسية والأمنية والقانونية الراهنة في البلد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى