أبي حسنصفحات ثقافية

لا لباب الحارة.. لا للدراما التركية المُعربة

null
أُبيّ حسن
كان لمسلسل “باب الحارة”, الجزء الثاني منه, والذي عُرض في شهر رمضان الفائت, حصة الأسد من حيث المتابعة الجماهيرية
وعلى امتداد المساحة الجغرافية لحرف “الضاد”. وقد وصل الأمر ببعض متابعيه في فلسطين المحتلة, سنتذاك, حد اختصارهم صلواتهم إذا ما تزامنت مع عرضه كما ذكرت بعض الصحف حينها. ونظراً للإقبال الجماهيري الذي عرفه المسلسل المذكور, فقد سارع الكثير من محترفي قنص الفرص لتسمية مطاعم باسم المسلسل السوري آنف الذكر, وأحدها افتتح العام الفائت في “باب توما” (مع ملاحظة أنه لا يقدم مشروبات روحية حفاظاً على “قيم” الحارة).
رجال الدين السوريون, أو بعضهم, لم يكونوا بمنأى عن الإشادة بالمسلسل بُعيد الانتهاء من عرضه, ومنهم من سارع إلى تكريم صنّاعه, لأنه –بحسب وجهة نظر أولئك “المعتدلين”- يحيي “القيم” التي تربى ونشأ عليها المجتمع العربي(؟!). إذاً, هو عمل درامي يحيي الأصالة وقيمها وفق ما نستنتج من إشادة أهل الاعتدال الإسلامي بالعمل المذكور!.
طبعاً قيل الكثير في “باب الحارة”, وإن انطوى العمل على قيم أصيلة كالرجولة والشهامة الخ…, إلا أنها كانت حقاً “حارة” مغلقة بالمقاييس كافة, كي لا نقل حارة رجعية وفق تعابيرنا الراهنة. فهي حارة تفخر بقمعها للمرأة, إذ اقتصرت وظيفة المرأة في تلك الحارة على “عجن الكبة” وحياكة الدسائس, والكثير من النمائم, وأمام الرجل يُختصر حضورها بجملة “أمرك سيدي” أو “تاج راسي”. وكأننا بالمرأة السورية اُختزلت في الحقبة (المفترضة) التي يعاينها المسلسل بتلك المرأة التي لا تخاطب أحداً (غريباً) إلا من وراء حجاب, ولا تفقه الكتابة أو القراءة, والله أعلم!.
لم يطل الأمر كثيراً, حتى داهمتنا المسلسلات التركية, وهي في مواضيعها وطريقة طرحها لتلك المواضيع (حال وجدت فعلاً) تقف على النقيض من باب الحارة الدمشقي رمز”الأصالة” على الطريقة العربية؛ مع أنه يمكننا هنا تسجيل معالجة درامية جيدة وناجحة لـ”باب الحارة” وذلك عكس اللامعالجة الدرامية في الدراما التركية المُعربة( أفترضُ أن أي كاتب عربي لو قدّم نصاً كمسلسل “نور” أو “سنوات الضياع” لأي جهة إنتاجية عربية, في مقدمتها الخليجية, لكانت سترفضه نظراً لضعف معالجته الدرامية إن لم يكن خلوه من الدراما, وأهل الدراما أحق مني في الحديث عن هذا الجانب).
وقد كان من الغريب أن الشرائح التي فُتنت بالمسلسلات التركية المُعربة, وتحديداً بأبطالها, هي ذاتها الشرائح –نستثني رجال الدين الإسلامي- التي كانت تختصر صلواتها كي لا يفوتها مشهد من مسلسل “باب الحارة”!, خاصة عند تقرير مصير السيدة الفاضلة “أم عصام” وقصة تطليق زوجها لها!, ولا مبالغة في القول إن مسألة طلاق المصونة “أم عصام” من عدمه فاق من حيث المتابعة ما كان يجري في “غزة” من حرب إبادة على أيدي الإسرائيليين!.
في ما يخصّ الدراما التركية, معروف للجميع حالات الطلاق التي سببتها تلك المسلسلات بشقيها (“سنوات الضياع” و”نور”) في عدد من المجتمعات العربية, التي مع الأسف لم تسلم منها سورية (وقعت أكثر من حالة طلاق في مدينتي دمشق وحلب على سبيل المثال), ناهيك عن حالات الغيبوبة التي أصابت بعض الفتيات اليعربيات جرّاء طعن “مهند” –عفاه الله وعجّل في شفائه- على أيدي عصابة كنان (والحبل على الجرار).
وما برحت تتناقل وسائل الإعلام خبراً طريفاً, من هذه الأرض العربية أو تلك, عن فصل ممرضة من عملها خوفاً منها على مصير “لميس” بطلة “سنوات الضياع”, أو خبراً عن طلاق جديد تأتينا أخباره من أرض الحجاز, أو مظاهرة تقودها فتيات ينتمين إلى الطبقة فاحشة الثراء في قاهرة المعز وهن يرفعن صور “مهند” نكاية برجل دين نصح بعدم متابعة مثل هذه الدراما(من الجائز أنه نصح بمتابعة أحد الشيخين عمرو خالد أو راتب النابلسي).
وقد كان من آثار المسلسلات التركية أن بادر عدد من رجال الدين إلى التصدي لهذه الظاهرة (تقرباً لله سبحانه وتعالى) الغريبة عن مجتمعاتنا و”أصالتها”, وقد سمعنا جميعاً بالفتوى الحلبية التي تحرّم متابعة تلك الأعمال التركية, وقد يكون معظمنا قرأ عن الإغراء الذي قدمه أحد شيوخ ريف دمشق لحوارييه بوعدهم إرسالهم إلى العمرة على نفقته إذا ما قاطعوا تلك “الموبقات” الهادفة إلى زعزعة أركان خيرُ أمة أُخرجت للناس.
الآن, وبمعزل عن الآراء, مهما تباينت أو اتفقت, في ما يخصّ المسلسلات التركية ومقارنتها بباب الحارة الموصد جيداً, سنجد إذا ما أمعنا ملياً في الجهات المنتجة لتلك الأعمال مجتمعة, أنها جهات خليجية يعربية, وبشكل خاص سعودية. وهي الجهات ذاتها التي كانت تغدق الكثير من الأموال منذ قرابة القرن والنصف بغية تكريس وتمجيد ثقافة القبيلة والحكم الفردي فيها من خلال الدراما السورية(مرة أخرى مع الآسف), هل تذكرون “ابن الوهاج” وحكمته التي لاغني لأفراد القبيلة عنها؟ ابن الوهاج الذي إن زال زالت قبيلة بأكملها عن وجه الأرض, إذ هو سرّ بقائها وديمومتها!؛ وان انقطعت ذريته –لا قدر الله- كان الله في عون الرهط المحسوب على قبيلته!.
طبعاً من الصعب هنا الحديث عن أي عمل درامي –تموله دول النفط الوهابية- يتحدث عن تكريس المفهوم الحديث للدولة ومفهوم المواطنة, ولا حتى عمل يشيع أي نوع من أنواع الثقافة القانونية (وبماذا ينفع القانون أهل الصحراء؟), وبهذا المعنى كان من الطبيعي أن يُعد للمفطرين من الأخوة الصائمين لشهر رمضان هذا العام طبقاً غنياً من الدراما البدوية..
قبل الاستطراد يمكننا أن نذكر عدداً من الأعمال السورية الهامة التي عالجت مواضيع ذات صلة بالقانون بشكل أو بآخر, كمسلسل “المحكوم” الذي عُرض في تسعينات القرن الماضي, وهو من بطولة جمال سليمان, وفي هذا السياق يمكننا أن نذكر مسلسل “الفصول الأربعة” أو بعض حلقاته؛ أو مسلسلات أخرى عالجت مواضيع مؤرقة وشائكة حقاً كمسلسل “عصي الدمع” تأليف وسيناريو دلع الرحبي وإخراج حاتم علي. ولعمري هي أعمال بالرغم من غناها شكلاً ومضموناً إلا أنها لم تحظ بنصيب “باب الحارة” أو الدراما التركية المُعربة من حيث الجماهيرية, ولا نعتقد أن العلّة كائنة في تلك الأعمال, وهي على سبيل المثال لا الحصر.
كثيراً ما وقفت مذهولاً أمام الكتلة الجماهيرية التي حظي بها مسلسلان ينتميان إلى ثقافتين متناقضتين, وأعني بهما “باب الحارة” قبالة المسلسلات التركية. أقول مذهولاً باعتبار أن الكتلة هي ذاتها(اللهم كما أفترض!), وان صحّ افتراضي, فلا تفسير لحالة التناقض هذه إلا شيء واحد ألا وهو إن الحارة المغلقة عادت بالمشاهد العربي –وهو مشاهد مهزوم بطبيعة الحال وعلى الجبهات كافة- إلى زمن يحنّ إليه, خاصة أن الثقافة الذكورية السائدة ما تزال سمة مشتركة بين الحارة المغلقة وغالبية مجتمعاتنا راهناً, من دون أن نغفل أن “باب الحارة” أتى متزامناً مع العودة المرعبة إلى الأصولية الإسلامية وعصبيتها(مع تأكيدنا أن لا رابط بالضرورة بين الأصولية والعصبية الدينية من جهة, وبين التدين الخاص بالشخص من جهة ثانية). ومن الطبيعي جداً أن يتشبث الشخص منّا حال هزيمته (التي يكابر على الاعتراف بها) بأي شيء ماضوي يُلقمه المزيد من الأمل الكاذب كي لا نقول الوهم, ولو كان ذلك الأمل يقوم على تقديم المرأة بمثل تلك الطريقة المنطوية على الكثير من المهانة والاحتقار لها(شخصياً أخجل من هكذا مسلسل), كما شاهدنا في دراما “تاج راسي” و”سيدي وسيد راسي” وما تبقى من مفردات وأدبيات الحارة المغلقة.
على الضفة الأخرى, كانت المسلسلات التركية تُعبّر عن رغبة دفينة لدى هذه المجتمعات, ألا وهي رغبة الانعتاق من الأبوية والذكورية وفحولتها النرجسية, وفي يقيني هنا سرّ الجماهيرية التي نالتها الدراما التركية في بلاد “خيرُ أمة”. بمعنى هي مجتمعات تتمنى في أعماقها أن تنطلق إلى الحداثة, لكنها تخشاها, لأن باب الحارة المغلقة ما يزال يسكن في أعماقها ويشدها بقوة إلى القاع البدوي. وهي مجتمعات تخشى في الوقت ذاته تلك الحارة ورقابتها الصارمة, وإن كانت تخاف فقدانها في الآن ذاته أيضاً, وآية ذلك هو انتماء محيطها الأوسع لتلك الحارة غير المأسوف عليها.
أياً يكن الأمر, يبقى القول, إن المسلسلات التي عنيناها, كشفت من جملة ما كشفت حالة الانفصام التي تعيشها هذه المجتمعات, إذ هي مجتمعات لم تحسم خيارها بعد, هل تريد “الأصالة” أم الحداثة؟ هل ستنتصر إلى الله أم إلى الإنسان؟ هل تريد الأرض أم السماء؟. مع يقيني الشخصي بأن “باب الحارة” لا يرمز إلى الأصالة أو السماء, تماماً كما لا يحيلنا مسلسل “نور” و”سنوات الضياع” إلى الحداثة أو الإنسان, من هنا أقول: لا “لباب الحارة” ولا للدراما التركية المُعربة.
أُبيّ حسن: ( كلنا شركاء ) 31/8/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى