روزا ياسينصفحات ثقافية

حـــرّاس الهـــواء

null
روزا ياسين حسن
الملفّ الثاني بلون رمادي محايد لا يناسب البتة قضية شاب كلداني!
لم يحاول جوناثان تمرير أية ورقة لي. كنت أضعف من أن ألمح الآن أي حرق أو دماء أو ظلال ألم بعيد. المرض واضح على محياي منذ الصباح!
راح جو يسرد بإنكليزيته الممطوطة:
ـ Emmanuel Jemmo.. spent 6 years in Saddam Hussein prisons. He is a chaldean young 30 years old, single1
ـ …
ـ Saddam Hussein no more exists2
قهقه جو مداعباً.
ـ But he still exist in his memories, Joe.. missiles donصt kill memories3!
زمّ فمه متبرماً من مزاجي الصباحي الذي لا يحتمل أية مزحة من هذا النوع.
ودخل الغرفة عمانويل، ذاك الكلداني الساحر.
كأنه يحمل بين قسماته الدقيقة البديعة وشعره الأجعد الطويل الأسود كل حضارة الرافدين التي أنتجته بطريقة ما. شعرت للحظات، تحت تأثير عينيه الواسعتين كعيني غزال شريد، بأن الغثيان فارقني وبتّ أفضل حالاً بكثير.
ابتسم الشاب بثقة، وهو يجلس قبالتي، ورمقني بفضول.
كان يرتدي سترة جلدية بلون العسل وقميصاً من الجوخ الحشيشي. يشبه شارل أزنفور بهذه الثياب. فيما أنا غاطسة في سواد ثيابي. كما يقول جو حقاً: أبالغ بلباسي الأسود دوماً!!
ـ أهلا عمانويل.. أنا عنات إسماعيل، وسأترجم للسيد المدير كل ما ستقوله بحرفيته. وعليك أنت أن تعرض عليه قصتك، وتقنعه بكل أسبابك ليقبل طلبك للجوء. هو أحد المقررين الأساسيين.. اتفقنا؟
ـ كلدانية؟
سألني عمانويل دهشاً باندفاع مفاجئ وبعربية عراقية.
ـ لا ..
ـ آثورية؟
ـ لا!
ـ إذاً.. سريانية.
ـ لا..
أسقط بيد عمانويل.
أردت إخباره بالأمر وما فيه، بأن والدي كان عاشقاً للقوميين السوريين لا غير، لذا أسماني بهذا الاسم. وبأنه رغب دوماً في الانضمام إليهم. رغبت لسبب ما أن أحدّثه، ربما كي أطيل التأمل في وجهه البديع الجذّاب، لكن القصة مملّة وليس من ضمن اهتمامات عمانويل بالتأكيد أن يعرفها. كان عمانويل الآن يتوق للرحيل إلى أرض الجدة لا غير.. وفكرت إن كان قد قرأ رائعة ويليم كامو تلك.
ـ أنا سورية عمانويل.. لكن عربية من اللاذقية.
بدت الخيبة على عمانويل، لكنه سرعان ما لملمها، وابتسم لجو.
ـ Well Emmanuel, tell us what you have in mind4
قال له جو وابتسم مشجعاً، ليبدأ الكلداني بسرد قصته بإشارات مبالغة من يده اليمنى:
كان فناناً عراقياً يعزف البزق.
ذات ظهيرة شتوية، على مسرح صغير في عيد القديسين في مدينة أربيل شمال العراق، غنّى طويلاً وعزف. كان الاحتفال مناسبة لاجتماع كافة الانتماءات الآثورية من أقليات كلدانية وسريانية ونسطورية، ومن ضمنها وفد لجمعية الشبان السوريين السريان كان مدعواً إلى الاحتفال.
كانت حفلة استثنائية، لم يعهدها أحد من أهالي المنطقة منذ عشرات السنين.
نهاية الحفلة طلب إليّ الرفاق بإلحاح أن أعزف أغنية كلدانية، أغنية واحدة فحسب كنت متقناً لها. فيما الجميع متشوّق لسماع تلك الأغنية، باللغة الكلدانية وعلى الملأ، بعد أن حرمتنا السلطات لسنوات طويلة من المدارس والكنائس الكلدانية ومن جرس اللغة المحبب إلى أسماعنا.
كانت الأغنية تقول:
»تعال يا رفيقي كي نغنّي
فإن الأغنيات وحدها التي تجمعنا..
ترالالا ترالالا
الأغنيات وحدها توحدنا..
ترالالا ترالالا
فإن الأغنيات وحدها التي تحلّق دون أجنحة
وتذهب إلى من نحبّ«.
غنيت الأغنية بكاملها. غنيتها كما لم أغنّها يوماً. الناس تتمايل أمامي كتلة واحدة، الشموع تتهادى في الظلام المخيّم، ونسيم الليل المنعش يلفح وجهي، يجعلني أنتشي، ويحنّ صوتي أكثر، كأنه يناغي البزق في يدي.
كان الأمر أشبه بحلم، أو بحفلة ملائكية، أو.. لا أعرف.
ما إن انتهت الأغنية حتى كان رجال الأمن العراقي قد أحاطوا المكان، مسلّحين كجيش غادٍ إلى حرب. سدّوا منافذ الخروج من المسرح، وأخذوا عشرات الشبان والفتيات الموجودين.
لكني لم أكن معهم!
حبسوني في غرفة من كواليس المسرح طيلة أيام دون ماء، دون طعام. بعد ثلاثة أيام طويلة صرت أحسّ أن حلقي تحول إلى كتلة من الشوك الجاف، وبأني لا أقوى على الحركة.
في آخر اليوم الثالث أتى ثلاثة رجال من قوات أمن العاصمة، ساقوني، وأنا شبه مغمى علي، إلى سجن المهجر في بغداد..
ـ …!!
ـ كانت تهمتي، كما فهمت في ما بعد، التحريض على ثورة كلدانية للأقلية.
ـ ..!!
ـ كنت قائداً لثورة شعبية بدون أن أعرف.. واتهموني بالانتماء إلى حزب الاتحاد الديموقراطي الكلداني المحظور.
وضحك عمانويل كاشفاً عن أجمل أسنان رأتها عنات في حياتها. قسمات وجهه بدت أكثر انبساطاً وراحة وهي تترجم لجو آخر الكلمات.
ـ Had you belonged to them?5
ـNo never6
التفاصيل في سجن المهجر بكلية تدريب الشرطة، والذي كان مركزاً لتدريب الكلاب البوليسية، جعلت جسد عنات يقشعر رعباً. إنها التفاصيل اللعينة.. التفاصيل.. التفاصيل. على الرغم من اعتقادها أنها اعتادت على هذي القصص، وتشكّلت لديها مناعة من آلام اللاجئين عبر سنوات من عملها في السفارة.
ليست مناعة بهذا المعنى! إنه تداخل معهم، تمازج، جعلها تتحول يوماً بعد يوم إلى جزء من تلك الحكايات، لا مجرد مستمعة خارجية. كأنها، بترجمة ما يقولون، تعيد تدوين ما عاشوه، أو تعيد عيشه من جديد بجسدها، بإحساسها، وبثقافتها الخاصة والحميمية. تتحوّل من مترجمة ـ هي في النهاية تعبث باللغة أو تعيد كببغاء قول ما يبدعه الآخرون ـ إلى مشارك في كل تلك الوقائع التي حصلت أو لم تحصل.
ربما كان ذلك الصغير في أحشائها هو من جعلها تشفّ ثانية، تتطهر من ذاكرتها المقيتة، كأنها المرة الأولى التي تجلس فيها وراء هذا المكتب تسمع، ترى، تخاف، ترتعب وترتجف.. جعلها ذاك الصغير، الذي يكاد لا يُرى، تعود صفحة بيضاء! كتلة من طين رخو لم تصلّبه صفعات الآهات الساخنة، ولا الرياح المحملة بآلام أناس أغرابٍ يتوالون على أيامها كقطار محموم لا يرضى التوقف.
يقال إن النساء بشكل خاص كنّ يعانين من أمراض تناسلية مستعصية ونزوفات مستمرة جراء الممارسات التي كانت تمارس عليهن. في مرات كثيرة كان صراخهن المستغيث يتناهى إلينا في الزنزانة مغطياً على نباح الكلاب. فقد كان ثمة ثلاثون زنزانة تحت الأرض وثلاثون زنزانة غيرها مستخدمة كحجرات للكلاب.
لا أعرف لمَ كان يسيطر عليّ هاجس أن تكون أختي إنعام أو أمي مثلاً في إحدى حجرات الاغتصاب تلك؟! وجه إنعام يستفزني مع كل صرخة أسمعها، أرى تقلصات العذاب تشوّه وجهها، تمسخه، وتشكله من جديد، وجه غريب متألم ومُغتصَب.
الكثيرون الكثيرون لقوا حتفهم في السجن، ليدفنوا في مقابر جماعية مرتجلة، قيل إنها كانت تُحفر حول السجن كيفما اتفق.
كانوا يعصبون عيني، يجردونني تماماً من ملابسي، يعلقونني ساعات طويلة من معصمي، وغالباً ما كانوا يوثقون يدي اليسرى إلى الخلف حتى عطبت تماماً.
صمت عمانويل قليلاً. يده اليسرى هاجعة في حضنه منذ البداية. كيف لم تنتبه عنات إليها!! ربما لن يستطيع بعد اليوم احتضان البزق بهذه اليد الميتة.
راحت أمعاء عنات تغلي. غرفة المكتب تمور فيها تاركة إياها تغوص إلى قاعها الفائر كبركان. التفتت إلى جوناثان حالما سكت الشاب لتعتذر منه عن الإكمال. لقد وصلت إلى الذروة، فإما ستنسحب حالاً وإما ستتقيأ كل ما في جوفها.. هنا على الطاولة. رمقها جو وعيناه تجمعان العتب واللوم والتعاطف. لكنها سارعت إلى الهرب دون أن تلتفت إليه أو إلى عمانويل. كانت خجلة للغاية، وإحساس مهين بالذنب راح يجتاحها عنوة.
لم يفارقها شعور الغثيان ذاك حتى التقطتها حارات المالكي. الجو الربيعي الحار أزاح انزعاجها قليلاً وأعادها كما كانت تقريباً.
إلى البيت انطلقت. كان ينبغي أن تتمدد حالاً في السرير وإلا…

١ـ عمانويل جمّو.. قضى في سجون صدام حسين ست سنوات. وهو شــاب كلداني يبــلغ الثلاثـين، وغير متزوج.
٢ـ لم يعد هناك صدام حسين بعد.
٣ـ لكنه ما زال موجوداً في ذاكرته جو.. ليس من السهل التخلص من الذاكرة بصاروخ!
٤ـ حسناً عمانويل تستطيع أن تسرد ما لديك.
٥ـ هل كنت منتسباً لهم حقاً؟
٦ـ لا.. أبداً.
(كاتبة سورية)
فصل من رواية ستصدر قريباً بعنوان:حراس الهواء

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى