صفحات سوريةياسين الحاج صالح

من الغرق في السياسة إلى الجفاف السياسي.. ثم إلى أين في سورية؟


 

ياسين الحاج صالح

بحكم تجربتها المكونة كبلد كان مركز النشاط الانفصالي العربي عن العثمانيين، والنواة المفترضة للمملكة العربية التي كان يؤمل أن تمتد من جبال طوروس إلى بحر العرب ومن المتوسط الشرقي إلى الخليج، ولدت سورية في السياسة وعاشت فيها. وفي هذا البلد القلق يطال الوجه التنازعي للسياسة كيانه بالذات، فلا يترك حيزا لوجهها الوفاقي أو الصانع للإجماع.
والكيان السوري “مصطنع”. هكذا كان يراه أهله. ويحيل الاصطناع هذا إلى واحد من أصلين “طبيعيبن”، “الوطن العربي”، أو العشائر والطوائف والملل والإثنيات. ولطالما كانت سياسة السوريين توقا إلى “الطبيعي”، وليست اضطلاعا جديا باصطناع كيان بلدهم والعمل على تطبيعه. وسواء تمثل “الطبيعي” في الطائفة والعشيرة كما في زمن الانتداب الفرنسي، أو في الوطن العربي بعد الاستقلال، فقد كانت سورية في الحالين بلدا يريد التخلص من نفسه.

البلد مصطنع فعلا. مثل أكثر بلاد الأرض على أية حال. وهو بالفعل مفصول ارتجاليا عن محيط جغرافي وبشري وثقافي واقتصادي كان مندرجا فيه حتى قبل أقل من قرن من اليوم. لكن بالمقابل وحدة سورية ذاتها صنعية. كانت حلب مندمجة في محيط أناضولي وعراقي، ودمشق في محيط حجازي وفلسطيني. ولم يكون كسب قضية الوحدة السورية، وكانت من أبرز شواغل النخبة الوطنية أيام الانتداب الفرنسي، بديهيا كما نميل إلى تخيله اليوم.

ومن تجربتها المكونة كبلد قلق الكيان (تعرض لقصقصة عدة مرات) وقلق التكوين الاجتماعي (متعدد دينيا وإثنيا ومذهبيا) وقلق الموقع (بين تركيا وريثة بني عثمان وإسرائيل اليهودية وحليفة الغرب) غرقت سورية في فائض سياسي، أودى بها إلى حالة من عدم الاستقرار دامت نحو ربع قرن.

لكن هذا البلد المثلث القلق والمصطخب سياسيا “مستقر” منذ 38 عاما في ظل “ملك” واحد موصول، لم يؤثر به غياب مؤسس “الملك” ذاته. كيف جرى ذلك؟

بعدة طرق. من بينها بناء ائتلاف اجتماعي واسع القاعدة نسبيا في مرحلة تأسيس النظام. ومنها، بالعكس، بناء أجهزة إكراه ضخمة ومنتشرة، تولت القيام بجباية جائرة للسياسة من السوريين الذين لا يقر لهم قرار. لكن قد يكون الحدث الأهم في هذه الحيثية هو التدخل السوري في لبنان عام 1976. فق أتاح للسلطة السورية لعبا على مستوى القمة الإقليمية والدولية، وكان مصدر فوائض مادية وسياسية للنظام قللت من اعتماده على الداخل الاجتماعي المحلي. هنا غدت سوريا لاعبا سياسيا أساسيا بعد أن كانت ملعبا يلعب فيها أهلها والأشقاء والأصدقاء والأعداء. نُزِحت السياسة منها، ودخلت في السياسة كطرف واحد يتشخص في رئيسها.

في هذه الفترة دخل تعبير نزع السياسة من المجتمع وإعادة السياسة إلى المجتمع إلى أدبيات المعارضين السوريين. وأظنه استخدم لأول مرة في بيان ناقد للنظام أصدره “التجمع الوطني الديمقراطي” (ائتلاف معارض، يساري وقومي عربي كان حديث التشكل وقتها) في مطلع ربيع 1980.

انتقل اللااستقرار هنا من داخل البلد إلى محيطه الإقليمي. وانتهت الانقلابات في سورية فيما غدت شريكا في انقلابات المنطقة و”الصراع على الشرق الوسط” حسب الكاتب البريطاني باتريك سيل. وانطوى زمن الغرق في السياسة وحل محله زمن الجفاف السياسي.

يسعنا القول، تاليا، إن السوريين اهتدوا إلى حلين للفائض السياسي المتولد من تجربتهم المكونة واصطناع وطنهم. الأول هو محاولة تجاوز اصطناع البلد بالتخلص منه و”العودة إلى الطبيعة”، سواء أخذت هذه شكل عروبيا كما في عهدي فيصل الأول وجمال عبد لناصر، أو شكلا طائفيا كما في أيام الانتداب الفرنسي. أما الثاني فهو إغلاق الملعب السوري والخروج إلى اللعب في الحي المجاور بالتفاهم مع كبار اللاعبين الدوليين.

وكما لم يجد السوريون “الطبيعة” التي عادوا إليها لا في حكم فيصل الأول الذي لعب في الوقت المستقطع بين شوطين، عثماني وفرنسي، وبرعاية بريطانية، ولا في الكيانات الطائفية التي عاشت اصطناعيا بفضل الفرنسيين لا بفضل طبيعيتها المفترضة، ولا في دولة الوحدة بين 1958، التي كانت هروبا من السياسة ومواجهة النفس، انقلب عليه سوريون بعد ثلاث سنوات ونصف؛ كذلك لم يكن اللعب في الجوار وبين الكبار آمنا. سيظهر ذلك في عام 2005 حين أقصي اللاعب السوري تحت التهديد بالقوة من الملعب اللبناني.

في التسعين من عمرها اليوم، لعله يتعين اليوم التفكير في صيغة جديدة للسياسة في سورية، تغلب وجهها الإجماعي على وجهها النزاعي. كيف يمكن فتح الملعب الداخلي مع تجنب عدم الاستقرار والانقلابات ودخول اللاعبين الخارجيين، وفي الوقت نفسه ضمان دور إقليمي مستقل لا يخضع لأجندات اللاعبين الكبار؟ كيف يتسنى ترطيب المجتمع السوري بشيء من الماء السياسي، وفي الوقت نفسه الخوض بثبات في المياه الإقليمية المضطربة؟ أية صيغة لنظام سوري جديد بحيث لا تكون السياسة كلها في البلد أو كلها خارجه؟ كيف السبيل إلى صيغة ثالثة تتجنب حياة سياسية مقترنة بعدم الاستقرار وإن تكن نشطة، أو نظاما يخمد أنفاس الحياة العامة وإن كان “مستقرا”؟

إن الإجابة الطائفية محرمة قطعا. ولا يبدو أنه ثمة ديناميات سياسية وفكرية ودولية واقتصادية تزكي الإجابة العربية في المديين القصير والمتوسط. والدور الإقليمي الهيمني مرهون برضا كبار غير وديين. الديمقراطية؟ لكن كيف لا تنزلق هذه إلى صيغة انفلات سياسي وعدم استقرار قد يدفع إلى الترحم على الدكتاتورية؟ دون توضيح ذلك تبقى الفكرة الديمقراطية بالكاد احتجاجا على الاستبداد.

هذه في تقديرنا أكبر مسائل التفكير السياسي في سورية اليوم. وهي مسألة أساسية أيضا أن أجل صوغ تصور أوضح لوطنية سورية ديمقراطية داخليا ونشطة إقليميا. سورية ليست سويسرا ولا يسعها أن تكون غير متنبهة إلى ما يجري حولها في منطقة عميقة التدويل، يتمتع فيها الأميركيون والإسرائيليون بحرية تامة في الحركة؛ وهي بالمثل لا تضمن لذاتها تطورا متوازنا إن انخرطت في الجيوسياسي تاركة الاجتماعي الداخلي للمخابرات.

مرة أخرى هذا هو موضوع السياسة. ولعله يمكن تلخيصه في كيفية بناء إجماع وطني، فكري ومؤسسي، يحد من التنازع السياسي أو يضبط مجراه في أقنية محددة. وهو ما ينحل أيضا في سبل معالجة أزمة الهيمنة المتأصلة والمتجددة التي تعاني منها سورية، وتحلها مرة بالتقلب والانقلاب المستمر ومرة بالإكراه والقسر.

ولعلنا بالتدرب على التفكير في سياسة سورية نتجاوز رثاثة سياسية متأصلة، نظرية وعملية، تسمنا منذ نشأ كياننا قبل تسعين عاما، كما سبق أن لاحظ ت.أ. لورنس، صاحب فيصل ومؤلف “أعمدة الحكمة السبعة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى