قانون الاحوال الشخصية الجديد

نريد دولة مدنية … لا دينية

ميشال شماس
أثار مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري ردود فعل رافضة وشاجبة في أوساط واسعة من السوريين فمن جهة رأت المنظمات النسائية والحقوقية وبعض القوى السياسية في هذا المشروع تراجعاً كبيراً إلى الوراء وأنه ينتقص من حقوق المرأة ويكرس عبوديتها للرجل، كما ينتقص من حقوق الطفل، ودعت تلك المنظمات إلى الوقوف بوجه المشروع وعدم إقراره بصيغته الحالية. ومن جهة أخرى رفضت الطوائف المسيحية مشروع القانون حيث رأت فيه تدخلاً سافراً في شؤونهم، وعبرت عن أسفها لنظرة معدي مشروع القانون إلى المسيحيين على أنهم مواطني درجة ثانية ” ذمّيون”. إلا أن اللافت والمهم في موقف جميع الرافضين لهذا المشروع هو إجماعهم على سن قانون للأحوال الشخصية على أساس قانون مدني موحد لجميع السوريين يقوم على مبدأ المساواة التامة فيما بينهم وخاصة المساواة بين المرأة والرجل في كافة المسائل المتعلقة بالزواج وما ينتج عنه.
وقد جاء مشروع القانون المذكور والذي تم إعداده بسرية تامة، ليؤكد من جديد مسألة في غاية الأهمية كنا ومازلنا نتجاهلها، ألا وهي مسألة الصراع الدائر حالياً ليس في سورية وحسب، بل وفي جميع البلدان العربية، صراع يدور الآن بين مشروعين لا ثالث لهما، مشروع الدولة المدنية ، وبين مشروع الدولة الدينية.وأي حديث عن صراعات أخرى قومية أو ليبرالية أو إسلامية، هو في الواقع حديث يلتف على حقيقة الصراع الذي يدور اليوم بين مناصري مشروع الدولة المدنية ، ومناصري إقامة الدولة الدينية.
فإذا كانت الشعوب الأوربية وغالبية دول العالم قد حسمت خيارتها باتجاه إقامة الدولة المدنية بعد أن قدمت تضحيات كبيرة، إلا أن الشعوب العربية وقواها وأحزابها التقدمية والعلمانية لم تستطع حسم خياراتها باتجاه إقامة الدولة المدنية، كما أن أنظمة الحكم في البلدان العربية هي أيضاً لم تحسم خياراتها نحو تحقيق الدولة المدنية، وفضلت البقاء في “المنطقة الرمادية” بعيدة عن الدولة المدنية وقريبة من الدولة الدينية. إلا أن النتيجة كانت هويات متعددة في البلدان العربية حتى في الدولة القطرية الواحدة. وهذا أمر طبيعي نتيجة اعتماد النظام العربي في إدارة الحكم من خلال اللعب على تناقضات وصراعات القوى والأحزاب السياسية المدنية والدينية والمثال الأبرز على ذلك السياسية التي انتهجها السادات بضرب الأحزاب والقوى ببعضها البعض حتى ذهب هو ضحية لعبته في النهاية.
وإذا كانت الأحزاب وقوى ومنظمات المجتمع المدني في أوربا قد لعبت دوراً كبيراً وحاسماً في حسم الصراع الذي جرى في أوربا لصالح إقامة الدولة المدنية، أما عندنا في البلاد العربية فإن العكس هو الذي جرى ومازال يجري بكل أسف ، فالأحزاب والقوى ومنظمات المجتمع المدني التي رفعت شعار الحرية والديمقراطية قد تراجعت عن تلك الشعارات وراحت تقدم التنازلات تلو التنازلات لأنصار مشروع الدولة الدينية، حتى إن بعض تلك القوى أخذ يدافع بقوة عن أصحاب الدولة الدينية بحجة أن أولوية المعركة الآن يجب أن تكون في الاتجاه الذي يقوده أصحاب مشروع الدولة الدينية. وأخذت تلك القوى تدير ظهرها للانتهاكات التي يتعرض لها الإنسان في الدول العربية في حقوقه وحرياته، والتزمت الصمت الخجول ولم تحرك ساكناً تجاه قمع الحريات المدنية على يد الأنظمة الحاكمة والحركات الدينية على السواء.حتى المنظمات التي تدعي أنها تدافع عن حقوق الإنسان صمتت صمت القبور عندما صدر مشروع قانون الأحوال الشخصية في سورية على سبيل المثال ، ولم تقل شيئاً تجاه الأحكام والمواد الجائرة التي وردت في مشروع القانون المذكور والتي تنتقص بشكل كبير من حقوق المرأة والطفل.
وأمام هذا الواقع لم يكن مستغرباً أن يتصدر أصحاب مشروع الدولة الدينية من تنظيمات وأحزاب وحركات دينية الساحات والمواقع بعد أن تنازلوا عن خلافاتهم ووحدوا صفوفهم، ونجحوا بجر القوى التي ترفع شعار الحرية والديمقراطية والدولة المدنية إلى جانبهم لخدمة تحقيق هدفهم النهائي في إقامة الدولة الدنية. على حساب مشروع الدولة المدنية، هذا المشروع الذي أصيب بانتكاسة كبيرة عندما تخلى المدافعون الأساسيون عنه وانخرطوا في إقامة تحالفات وتفاهمات مع مناصري مشروع الدولة الدينية، بعد أن اعتقدوا خطأ أن تلك التحالفات والتفاهمات ستمكنهم من جديد من استعادة حضورهم ومجدهم الغابر الذي أخذ بالأفول منذ نهاية الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي حتى وصلنا إلى هذه الأيام التي تراجع فيها مشروع الدولة المدنية بشكل خطير في مختلف المجالات ولاسيما الاجتماعية والثقافية منها لصالح مشروع الدولة الدينية، حيث لم يعد يذكرنا بهوية تلك الأحزاب والقوى والتنظيمات وتوجهاتها المدنية سوى الاسم فقط وبعض الممارسات والمظاهر الخجولة إن وجدت.
فالمستقبل لن يكون بالتأكيد مع الدول الدينية، بل مع الدول المدنية التي تعتمد في بنائها على العقل البشري واحترام الإنسان باعتباره حجر الزاوية في أي تطور أو نجاح. فهل ندرك ذلك قبل فوات الأوان؟
كلنا شركاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى