صفحات سوريةياسين الحاج صالح

عقد من أجل إصلاح سورية


 

ياسين الحاج صالح

م 2008 الذي هلّ لتوه تدخل سورية عقدها العاشر من العمر. زمن قصير تقاسمه مناصفة سبعة عهود بين 1918 و1963، منها الانتداب الفرنسي (1920-1946)، مع عهد بعثي يقطع الأنفاس، مخيم منذ عام 1963.

بلد فتي جدا. لكنه يبدو متعبا مع ذلك. كل شيء فيه بطيء إلى درجة محبطة. والكآبة تبسط ظلها القاتم في على وجوه سكانه.

آن وقت التغيير. تغيير يجدد شباب البلد، ويمكنه من إنتاج الحداثة بدل التقادم واستهلاك العمر على طريقة دول ابن خلدون.

يبدو الكلام على التغيير في غير أوانه. فالنظام خرج لتوه من محنة مصيرية كانت بمثابة تطعيم فعال ضد أي تغيير، والقوى الداخلية المطالبة بالتغيير والعاملة من أجله قصيرة اليد، مهما أمكن لها أن تكون بصيرة العين. بيد أننا لا نفكر على مستوى الزمنية القصيرة. والتغيير الذي نتكلم عليه هو “إصلاح أكبر من ثورة”، حسب تعبير لإلياس مرقص كان ميشيل كيلو لا يكف عن اقتباسه، إصلاح أساسي في الدولة والمجتمع، وليس محض تبديل لنظام الحكم. بل لعل التغيير الوحيد الممكن للنظام هو ذاك الذي يندرج في تغيير عميق وثوري في الدولة والمجتمع.

عبر النظر في التحديات التي تواجه سورية على المدى المتوسط، العقد الذي يفصلنا عن تمام قرن من عمرها، أو حتى عام 2020، يتطلع هذا البحث إلى المساهمة في إعادة بناء الفكر السياسي السوري وتأسيس استراتيجية العمل الوطني عليه. ولعل في منح مزيد من الانتباه للبعد التاريخي، ما يسهم في إخراج الفكر والسياسة في سورية من مأزق لا ريب فيه، وفتحهما على آفاق أرحب وأجدى.

ثمة خمسة تحديات كبيرة تواجه سورية اليوم.

1. تحولات الاقتصاد والمفاعيل الاجتماعية المترتبة عليه؛

2. استعادة الجولان المحتل إلى السيادة السورية والتوصل إلى تسوية منصفة مع إسرائيل؛

3. صوغ دور إقليمي جديد لسورية في محيطها؛

4. تحدي بناء نظام سياسي أكثر ديمقراطية؛

5. إعادة بناء الهوية الوطنية.

 

تجري اليوم، وبسرعة تفوق الإجراءات القانونية والتنظيمية التي تبادر إليها السلطات، لبرلة الاقتصاد السوري دون “خصخصة” ودون تفكيك لـ”القطاع العام”، لكن أيضا دون رقابة اجتماعية. يستفيد من هذا التحول الفئات التي كانت انتفعت من الاقتصاد الحكومي، فيما تظهر الآثار الاجتماعية الكلاسيكية للبرلة: فقر، بطالة، تهميش، .. وتكون “أمتين” في البلد على نطاق التعليم والصحة والسكن والنقل وأنماط الحياة والثقافة..إلخ. ومن المرجح أن تعود الفجوة بين المدينة والريف إلى الاتساع. ومن المحتمل أيضا أن تكون الفئات الأكثر تهميشا أرضا خصبة للتطرف والنزعات الطائفية. إن ابتكار حلول فعالة لهذه المشكلات بما يضمن تنمية حقيقية يستفيد منها أكثرية السكان وتتفاعل إيجابيا مع العولمة، ينبغي أن يكون هدف السياسات الاقتصادية والاجتماعية الذي لا يتقدمه هدف آخر.

 

بعد 17 عاما من انطلاق “عملية السلام” في مدريد، وأكثر من ضعفها على آخر حرب على الجبهة السورية الإسرائيلية، وأزيد من أربعين عاما على حرب حزيران 1960 لا تزال مرتفعات الجولان محتلة. ولا يزال احتلالها مضخة لعسكرة الحياة السياسية والثقافية في سورية وتسويغ حالة الطوارئ وتسخير الوطنية لإدامة الانفراد بالسلطة. استعادة الجولان، عدا كونها حقا بديهيا للسوريين، هي أكبر هدية لتطور ديمقراطي في سورية. وهي كذلك مدخل محتمل إلى أوضاع مستقرة إقليميا تتيح لسورية إعادة هيكلة دورها الإقليمي على أسس جديدة. على أن استعادة الجولان لا تعني بحال حل المشكلة الإسرائيلية. فطالما بقيت إسرائيل طليقة اليد كحالها منذ أربعين عاما، لن ترتاح سورية، والمشرق ككل. بيد أن من شأن استرجاع الجولان أن يضع سورية في موقع أفضل للتعاطي مع المشكلة الإسرائيلية.

 

سورية نقطة تقاطع محورين غربي شرقي وشمالي جنوبي. فهي حلقة وصل بين الاتحاد الأوربي والعراق المدمر والثاني عالميا من حيث احتياط النفط والذي يمكن لإعادة إعماره أن تسهم في إعادة إعمار سورية ذاتها (انطلاقا من وضع أقل سوءا بكثير طبعا). وسورية حلقة وصل بين الشرق والغرب بمعنى ديني أيضا. أي عالمي الإسلام والمسيحية، فإذا تمت استعادة الجولان وتحقق سلام منصف في المنطقة كانت بلدا أقدر من غيره على احتضان تفاعل الديانات الإبراهيمية الثلاثة. ثم إن سورية تقع على محور شمالي جنوبي يصل تركيا (التي قد تنضم للاتحاد الأوربي) والقوقاز بالخليج النفطي الغني، أي عالمي الماء والنفط في مستقبل سيرفع من سعر الاثنين.. ثم إن سورية “قطر عربي”، أكثر من أي بلد عربي آخر. فلا يسعها أن تدير ظهرها للعروبة ذات يوم، وإن كان يتعين إعادة هيكلة العروبة في إطار إعادة بناء الهوية الوطنية السورية.

إن سورية اليوم ليست دولة صديقة للاستقرار في إقليمها، وهي بالمقابل حليفة قوية للركود في داخلها. هذا نصيب تعيس يتعين تغييره أيضا.

 

احتلت قضية “التغيير الديمقراطي” موقعا متضخما قياسا إلى القضايا الأخرى في السنوات المنقضية من هذا العقد والقرن. آن الأوان لوضعها في إطار أوسع، ولبناء مفهومنا لها على تصورنا لآفاق معالجة المشكلات الأخرى. ستبدو من هذا المنظار نسبية وأقل إلحاحا، وسينتقل التفكير بها من زمنية المدى القصير إلى زمنية المدى المتوسط، ما من شأنه أن ينعكس استرخاء وتطورا إيجابيا على سيكولوجية الناشطين السياسيين، وما يحتمل أن يجعل طرحها مثمرا أكثر. الجوهري في هذا الملف هو الانتقال نحو نظام سياسي ذاتي الإصلاح وتجاوز نظام الاستثناء. وأساسي فيه أيضا تطوير نموذج نظام متحرر من الطائفية. السؤال المهم هنا: كيف نخرج من الاستبداد دون أن نقع في “ديمقراطية توافقية”؟ تقديم إجابة متسقة هو العلامة الأصدق على النضج الفكري والسياسي لنخبة البلد المثقفة وناشطيه السياسيين.

 

بناء هوية وطنية سورية متميزة ومتينة هو القضية الأصعب. نفكر في المسألة من وجهة نظر عملية، وليس إيديولوجية: كيف يمكن تكوين أكثرية وطنية ضامنة للديمقراطية والعلمانية والاستقرار؟ ونضع الوطنية السورية في تقابل استبعادي مع الطوائف والروابط الإثنية، وتقابل استيعابي مع العروبة أو الإسلام. بلى، ننحاز إلى السورية كمقر للسيادة، ما يزيح العروبة والإسلام إلى موقع المسود، لكن هذا لقطع الطريق على الطائفية والتجزؤ. في سورية لا يستطاع التعامل مع العروبة باستهانة. السؤال: كيف يمكن تطوير السورية مع احترام العروبة الضروري بكل المعاني؟

 

هناك بالطبع مشكلات أخرى، لكنها ليست سورية حصرا: مشكلات الدين والثقافة بخاصة، وهي ذات مدى عربي وإسلامي.

 

سورية في مرحلة انتقالية من وجهة نظر أي من التحديات الخمس: الاقتصاد، الجولان، الدور الإقليمي، النظام السياسي، والهوية الوطنية. إنها في أفق التغيير موضوعيا. هذا وضع خطر وخصب في آن معا. تعذر التغيير بفعل معادلات إقليمية وداخلية قد يثير تفاعلا تعفنيا، نظن أننا نلمس بوادره منذ الآن على الصعيد الإيديولوجي والسياسي والسيكولوجي.

وكما سبقت الإشارة فإن من شأن التفكير في هذه القضايا أن يكون أرضية لإعادة بناء الفكر السياسي واستراتيجية العمل الوطني على المدى المتوسط. هذه حاجة لا مجال للمبالغة في إلحاحها. طوال سنوات تقترب من العقد، عمل الديمقراطيون دون توجه ودون فكر. والانقسام الراهن لحركة المعارضة السورية دافع إلى بلورة مخارج تقدمية من أزمة فكرية وسياسية متفاقمة. ومهما أمكن لإبداع رؤى وأفكار جديدة أن يكون شاقا، فإن العودة الفكرية إلى الوراء هي درب التعفن والتحلل لا الحل. أما الارتجال فلا يجدي.

(مقدمة بحث مطول بعنوان “عقد من أجل إصلاح سورية“)

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى