صفحات مختارة

نساء في المعتقل – إعداد روزا ياسين حسن

null

(إني أتحصن في هذه القلعة وأكابد هذا الحصار لا لكي أرضي سلطاناً أو أحمي إمارة، إني هنا كي لا يقال في قادم الأيام اجتاح تيمورلنك هذه البلاد ولم يوجد من يقاوم.. إني هنا كي لا يموت الشرف في هذه الأمة)

مقولة أزدار آمر قلعة دمشق في مسرحية سعد الله ونوس “منمنمات تاريخية”.

على هذا النسق من الدونكيشوتيين الفدائيين: حاميّ الشرف، سيندرج يوسف العظمة أيضاً والمئات ممن وقفوا في وجه الطغاة، ولربما كانوا موقنين أن الطريق القصير إلى النهاية قريب، وأن كل ما ينتظرهم أقبية السجون المظلمة أو حبال المشانق أو الرصاص الغادر

تجربة المعارضة السياسية في سورية جزء لا يتجزأ من هذا النسق، بعملها السري أو العلني، وقد عملت على تأكيد مقولة برشت: فغداً لن يقولوا كان زمناً صعباً بل سيقولون لماذا صمت الشعراء؟.

والتجربة السياسية النسائية السورية، بين صفوف المعارضة، كانت تؤكد أيضاً على ذلك، وما تجربتها في المعتقلات إلا انسحاب لإجهار الصوت في زمن الصمت. حين تغدو الأنوثة بمعناها التاريخي المكرس والنظري قادرة على الوقوف في وجه الطغيان وفي وجه ظلمة المعتقلات.

بعيداً عن تقييم التجربة، عن مواطن الخلل فيها وعن مواطن الشجاعة والإباء، هذه محاولة متأخرة لكي لا يبقى المدفون مجهولاً ولكي لا تبقى لصاقات الخوف والقمع تكمم الأفواه.

من الصعب اختصار التجربة في عدة صفحات على موقع إلكتروني، كما من الصعب اختزالها في صفحات كتاب تأريخي، رغم عدم صدور أي منها إلى اليوم حسب معلوماتي، أو رواية، إلا أنها محاولة كما قلت لكسر الصمت، محاولة لتدوين تاريخ نسوي سياسي غيّب سنيناً طويلة، كما غيبت تجربة المعارضة وبمختلف أطيافها.

ومشياً على درب الروائي الليبي إبراهيم الكوني وقد سمع الحجر يقول له بهمس خفي: كتب الضياع على كل شيء في الصحراء ما لم ينقش في الحجر.

وبما أن تدوين تجربة الاعتقال هي بشكل ما تدوين للتفاصيل الصغيرة اليومية بين جدران الزنزانات، فسيكون التدوين بشكل أولي محصوراً بأوقات المعتقل وبتجربته فقط.

المشروع كبير وصعب وسنحاول أن نحيط بالأطياف الإيديولوجية للمعتقلات السياسيات في سورية قدر المستطاع على الرغم من أن ما يعترض هذا المشروع عقبات كبيرة ليس أولها جدار الصمت والقمع الذي ما زال مهيمناً على أفواهنا وعقولنا وليس آخرها المشاكل الخاصة بكل تجربة وما يدور في عقول المعتقلات.

نهاية لا نستطيع أن نقيم التجربة بعيداً عن ظرفها الإنساني. نحن نتحدث عن نساء وليس مناضلات فحسب، بقيت الكثيرات منهن صامدات وقويات وانهار البعض الآخر (مع التسليم بالتباس كلمتي صمود وانهيار). لكن الظرف الإنساني هو وحده المهم.. كان كافياً أن يخرج المرء من متاهات المعتقل وهو محتفظ بإنسانيته وبقاياه القديمة.. كان كافياً.

سيكون الخط العادي هو حديث المعتقلات بحرفيته فيما الخط الغامق والمائل بقلمي.

في عام 1990 استطاعت إحدى المعتقلات السياسيات تهريب الصور المعروضة لمعتقلات حزب العمل الشيوعي من سجن دوما .

تجربة أميرة حويجة


سجن دوما

أميرة حويجة من مواليد سلمية 1958

من معتقلات حزب العمل الشيوعي من سنة 1987 وحتى 1991

مهندسة مدنية تعمل حالياً عمل هندسي حر.

السجن: تربة فاسدة لا تترك مجالاً لا للنضج ولا للتطور. إنها تربة خصبة للخوف والقلق، ومن ثم تضخيم المشاعر السلبية التي يعيشها أي إنسان. المشاعر هناك متضخمة تجافي المنطق، والخوف هناك في السجن له أنياب، يشلّ قدرة الإنسان على التفكير، فيما الذهن يتشتت. بالنسبة لأميرة كانت أسهل فترة هي فترة التحقيق، ربما لأنها تعتقد أن الإنسان يتحمل أكثر مما يتوقع من التعذيب، وهو لا يأخذ من روحه بل يقوي إرادته ودفاعاته.

ربما يكون الصمود ذلك سبباً أساسياً في كون المعنويات عالية وقوة الإيمان شديدة أول أيام الاعتقال، مع الزمن تضمحل المعنويات حين يصطدم المعتقل ببرودة الزنازين الموحشة. دخلت أميرة السجن ومجموعة من المعتقلات من حزب العمل في حملة الاعتقال التي طالت الحزب في العام 1987، كانت حملة قاصمة، وذلك لعب دوراً سلبياً للغاية بالنسبة لهن.

هناك وردة ذهبية بحجر كريم أحمر تتدلى من سلسلة على صدر أميرة. أمسكتها وقالت لي: أن هذي الوردة كانت غالية على مضر زوجها الشهيد، وهي التذكار الوحيد الذي بقي من أيام الخطبة، لأنهما تبرعا بكل الذهب للحزب.. حين خرجت أميرة من فرع التحقيق بحلب إلى فرع التحقيق دمشق كانت تلك الوردة هي الشيء الوحيد الذي استماتت لإعادته منهم، ويومئذ، وبعد إلحاحها، أعادوا لها الوردة دون سلسلتها.

التعذيب حتى تفسخ القدمين:

كان شباب الحزب كلهم في البهو في فرع التحقيق بحلب، وكان اعتقالاً جماعياً، لم يتبقَ سوى أربع رفيقات خارج المعتقل. البهو مليء بالرفاق، مشاريع الرفاق، رفاق مرشحين، وحتى الأصدقاء، أصدقاء الحزب، اعتقلوا بالعشرات!

هناك بدأ خوفي، وراح الشك يساورني من عدم إحضار مضر إلى حلب ليستكملوا التحقيق معه وقد اعتقل في 20/9/ 1987، حين كان مسؤول منطقية حلب، وكان قد استدعي إلى دمشق والإعتقالات هناك طالت الكثيرين.

أنا وسحر البني اعتقلنا في 2/12/ من العام نفسه، بقينا في الزنزانة حوالي خمسة أيام ثم انتقلنا إلى المهجع. كنا نضحك بجنون في فترة التحقيق الأولى، كأننا ندافع عن أنفسنا بالفرح، بأبسط الأشياء، وربما للتنفيس، وقد كان الحزن على أشده بسبب الاعتقال الجماعي. وعلى مدار الخمسة عشر يوماً كان التعذيب على أشده، بالفلق بالدرجة الأولى، والضرب على الكفوف حتى الإدماء. كان التعذيب دون تطميش، أي دون وضع عصابة على عيني المعتقلة كما جرت العادة، وكأن المحقق يستمتع بمشاهدة عيون التي يعذبها. كنت وقتها أرتدي تنورة طويلة دون بنطلون وأنا في الفلق، لم تأت الألبسة ومن ضمنها البناطلين إلا بعد ثلاثة أيام من اعتقالي، وقد جلبتها لنا والدة إحدى رفيقاتنا.

حين وصلت دمشق كان باطن قدمي قد تفسخ وامتلاً بالقروح، وأعاني من التهاب حاد فيهما، لم أكن أستطيع المشي، وهناك في فرع التحقيق بدمشق أعطوني في دواء للالتهاب.

آخر أيامنا في حلب وقبل مضي شهر على الاعتقال عرفنا أننا آتيات إلى دمشق، وخوف كبير من الذهاب كان يسكننا، لأن هناك رفيقة أخبرتنا أن التعذيب والإهانات ينتظروننا هناك، على الرغم من الرغبة الكبيرة التي كانت تسكننا لرؤية الرفاق في دمشق.

أتينا بالباص، مجموعة كبيرة من الرفاق والرفيقات، أذكر أننا كنا بالأغلال، وازداد إحساس الخوف الذي تملكني من القدوم، من تحقيق منتظر، من مواجهة مضر الذي اعتقدته هناك، ومن رؤية الرفاق. مشاعر مختلطة من خوف وترقب ورغبة و… لكنها راحت تزول في الطريق وحال اقترابي من المدينة التي أحببتها ولا زلت، لم أشعر بطول الطريق ولا بالزمن.. كانت دمشق تلوح أمامنا.

للمرة الأولى مع نفسي

هذا الترقب أعقبه أول وقفة مع نفسي لأرى ما الذي حدث للحزب؟ شو صار؟ دخلنا أنا وسحر إلى المزدوجة، والرفيقات الست دخلوا المهجع.

استقبلتنا البنات في فرع فلسطين بشوق كبير، وفي المزدوجة المقابلة كان أغلب شباب الحزب. الأشواق التي لفتنا لم تستطع للأسف أن تحميني من القلق الذي راح يستحيل يقيناً تجاه مصير الحزب.

حكت البنات عن أشياء فظيعة مورست عليهم، عن التعذيب الذي تعرضوا له، وعن التعذيب الذي مورس على الشباب أمام البنات، وقد (شبحوهم) في الكوريدور، علقوهم على أبواب الحديد التي تتوسط المزدوجات، ثم ضربوهم ضرباً مبرحاً، وذلك بسبب مطالبتهم بزيادة حصة المعتقل من الخبز. كان مجرد نقل الحادثة لنا مؤلماً للغاية، فما بالك بالذي حصل؟ كنت أتخيل أصوات التعذيب تضج في ممرات الفرع.

ممنوع.. ممنوع

حين يدافع المقتول عن نفسه ليغدو قاتلاً، ربما بسبب قسوة السجن، أو الخوف من الأيام القادمة.

ممنوعات لا تعد ولا تحصى، حتى أن أصواتنا يجب أن لا تسمع من باب السجن الحديدي الذي لا يرد صوتاً ولا ضجيجاً. التهديد أولاً بخبطة على الباب، ثم بشتيمة، ثم كفين.. في اليوم الثاني للاعتقال استيقظت وأنا أغني لسبب ما: الحلوة دي قامت .. عاجلتني خبطة على الباب، يعني ذلك اخرسي، رحت أرتجف من المفاجأة.. كان الاستقبال الأول.

في اليوم الرابع من الشهر والنصف الذي قضيته في فرع فلسطين بدأت الخلافات تظهر بيننا نحن المعتقلات. كنا ما نزال في مرحلة الشعارات، وقيادة المعتقل هي أولى تلك الشعارات. للمرة الأولى أشعر كم نحن بحاجة للواقعية، وكم نحن بحاجة للنضج، وهذا هو الأمر الصعب للغاية، لأن السجن لا يساعدك على ذلك. كان جزء من روحي قد بدأ يتآكل مترافق مع إحساس المتزايد بأن الحزب قد انتهى وضعه.

التوقعات كانت تؤكد على فكرة خروج النساء المعتقلات، لم تعتقد أي منهن أن الاعتقال سيطول، كانت رغبات مسيطرة تهيم حولهن دون أية بوادر تشير إلى ذلك. إلى درجة أن البنات في الزنزانة المزدوجة بدأ ينتابهن إحساس أن اللواتي بقين في المهاجع سيفرج عنهن قريباً، لأنهن إما رهائن أو زوجات معتقلين، فيما كانت المزدوجات تغص بالملاحقات والمتخفيات.. كان هذا هو الحديث الدائم، رغم المعمعة القائمة واعتقال بنات لا علاقة لهن بالحزب ومشتبهات و.. لم تعتقد أي منهن أن السجن سيطول سنوات وسنوات.. المفاجأة الأولى كانت أخذهم لثماني بنات من المهجع إلى فرع التحقيق، دون أن يعلم أحد أنهن سيسقن إلى سجن دوما. عادت الأمور لتتخلخل: من سيفرج عنه؟ من سيبقى؟ من..

زنزانة الجرب: الشاهد

قبل أن ننتقل إلى دوما قادونا إلى فرع التحقيق، وهناك أدخلونا، أنا وسحر البني، إلى مزدوجة، أي زنزانة بطول وعرض 180 سنتيمتر. بعد دقائق سمعنا سجاناً يصيح برفيقه أن الزنزانة فيها جرب. فعملا على إخراجنا على الفور. لدهشتي فإني لم أتأثر من كلمة جرب، مع أن كلمة كهذه سابقاً كانت ستمرضني، يبدو أن السجن بدأ يفعل فعله فيّ.

هذا جعلهم ينقلوننا إلى مزدوجة أخرى، كانت جدرانها مليئة بالكتابات والخربشات، بالحك بأداة حادة أو بالقلم، وهناك جملة لا أتذكر إلاها وما زلت أحبها حتى اللحظة، كانت هند قهوجي قد كتبتها في إحدى صباحاتها الطويلة في تلك المزدوجة: “غاب نهار آخر”. الحيطان مليئة أيضاً بأسماء الرفاق والرفيقات، المزدوجة كانت بجانب زنزانة أحد المعتقلين العرفاتيين، اسمه كما أذكر: أبو مهند. وكان له مزايا كثيرة: زنزانته مفتوحة على الدوام، ويملك راديو مفتوحة دائماً على صوت فلسطين، حيث كانت الراديو ممنوعة تماماً في الفرع. ومن تلك الراديو سمعنا أن انتفاضة الـ 87 الفلسطينية قد قامت، وأغنية: ثوري ثوري تصدح في ممرات فرع التحقيق وفي أسماعنا.

بعد خمسة أيام ودعنا المزدوجة لنرحل إلى سجن دوما بشكل نهائي.

الحمام وفنجان القهوة.

كان صباحاً جميلاً في شوارع دمشق ونحن في السيارة مع دورية أمن إلى سجن دوما. وأنا متلهفة للقاء الصبايا رفيقاتي هناك، وفي دوما حيث فتحت الأبواب على مصراعيها في وجوهنا وبكافة الأشكال.

أول فنجان قهوة صباحي له رائحة عبقة، أول أغنية فيروزية بعد شهور، وأول حمام ساخن ينتظرنا، لأن مياه الحمامات في الفروع باردة على الدوام.

ثماني رفيقات كن قد ذهبن قبلنا إلى سجن دوما، وخمس أخريات مر عليهن سنوات هنا. وسجن دوما هو سجن مدني، قوات الشرطة هي المسؤولة المباشرة عنه، وفيه إلى جانب المعتقلات السياسيات، سجينات جنائيات وقضائيات بتهم القتل والدعارة والمخدرات و… دخلت الحمام وأنا غير مصدقة: مياه ساخنة وشامبو والأهم مشط أسرح به شعري الذي أضحى بعد كل تلك الفترة مشعثاً وغير قابل البتة للتسريح. ولكثرة استغراقي علق الحلق يومها بالمشط وشرم لي أذني. حتى ذلك اليوم لم أكن أعرف ما الذي ينتظرني، كان لدي رغبة فقط برؤية الصبايا، وبشكل خاص هند قهوجي وحسيبة عبد الرحمن اللتان مر عليهما زمن طويل في دوما.

ولأن السجن هو عالم التفاصيل الصغيرة ستستوي العقول والطاقات والشخصيات، وستدخل في صراع حقيقي على وهم يعمل على تضخيم كل صغيرة لتغدو الأهم، ويعمل على تحييد الحب الذي يغدو مغيباً هناك، وكأنه نسي في زحمة التفاصيل.

الصراع على أشده في المعتقل، والتحزبات قائمة. كل جبهة تقودها صبية تنتظر أن تأتي الرفيقات ليدعمنها. ربما تكون الصدمة الأولى التي عانت منها بعض الصبايا الجديدات ومنهن بالتأكيد أميرة.. هناك ستصبح السياسة والعمل السياسي عالم موازي في الظل.. مغيّب ومنسي وهامشي بامتياز!..

أين سننام؟

كانت الصدمة الثانية: أين سننام؟

المهجع 3و4 وهما غرف في البيت العربي الكبير الذي اسمه سجن دوما كانا مخصصين للسياسيات. الغالبية العظمى أخوانيات، وأقلية من التجسس لإسرائيل، وحزب التحرير، وبعث العراق، ونحن صبايا حزب العمل. كنا قد بدأنا نصبح الأغلبية في المهجعين قبل أن يستحدث مهجع جديد للسياسيات وهو المهجع 7. لم يكن مرغوباً بنا، وقد أتينا لنغير وضعاً كان قائماً ومستتباً، ليس على صعيد النوم فحسب، لأن المكان الواسع أضحى ضيقاً، بل على صعيد الزيارات أيضاً. فقد فرض وجودنا في المهجع الرابع على حساب الفراغات المتروكة بين فرشات نساء الأخوان المسلمين، وعلى حساب حاجتنا الحقيقية لأمكنة أوسع، فقد كنا خمس بنات على ثلاث فرشات عرض الواحدة 90 سنتيمتر.

لما استقر الوضع أعطيت لنا زاوية بجانب المغسلة والحمام في طرف المهجع تتسع لثلاث فرشات، كنا نضعهم بالطول ورابعة بالعرض، وننام نحن الخمسة عليهم وسط شخير جارتنا الأخوانية، وصوت المياه في الحمام، وخربشة الفئران والجرذان التي لا يهدأ طوال الليل.

كانت هناك سجينة بتهمة القتل مختصة بقتل الفئران والجرذان على الرغم من رقصها الشرقي الهائل الذي عقدنا عليه السهرات الطويلة.

أما قرار منع الزيارة الذي أتينا وجلبناه معنا إلى دوما فقد كان المشكلة الثانية التي سببناها للسجينات الخمس السابقات، وقد كان يسمح لهن بالزيارة مع القضائيات، كل يوم أربعاء من وراء الشبك ولمدة يوم كامل. صارت الزيارات للسجينات الخمس القديمات بإذن أمني مسبق من فرع التحقيق، في كل شهر مرة واحدة ولمدة ساعة فقط في غرفة بوجود ضابط شرطة. هذا ما دفعنا إلى إعلان إضراب مفتوح عن الطعام لحين العودة بالسماح للزيارات بشكلها القديم، وتحسين مستوى المعيشة السيئ، وظروف المكان. وفي يوم الأربعاء من الأسبوع الثاني حاول السجان إدخالنا إلى المهجع حيث سيغلق إلى ما بعد الساعة الثانية ظهراً، إلى حين انتهاء زيارات القضائيات. رفضنا نحن بنات حزب العمل الدخول إلى المهجع، فاستدعى السجان مدير السجن، وحصلت مواجهة بينه وبين حسيبة عبد الرحمن، أعلنا بعدها الإضراب لمدة 13 يوم. كانت تجربة قاسية لأنها أولاً عفوية، اتخذ القرار دون تخطيط، وعدم معرفتنا بأساليب الإضراب وعدم تناولنا القليل من السكر مع الماء عمل على إنهاك أجسادنا بسرعة. الأهم أننا كنا نعلن الإضراب على قرار الأمن في سجن مدني، كنا بعيدات ولم يتجاوب الأمن رغم أن شرطة السجن أوصلت الأخبار مراراً إلى الفرع.

بعد ثمانية أيام صرنا نرى كل شيء على أنه طعام، وأية رائحة هي رائحة طعام. عندما فككنا الإضراب إثر الوعود الكثيرة بتحقيق مطالبنا جلبوا لكل واحدة منا فروج بعثته جمعية خيرية.

وذهبت الوعود أدراج الرياح لأن الزيارات الرسمية لم تسمح إلا بعد ثلاث سنوات. وبعد سنة سمحت بالزيارات إذا توفرت الواسطة.

الصراع على العمل

بدأ صراع آخر بين الصبايا بعد فترة من قدومنا إلى سجن دوما. كان إيجاد رافد مادي جديد لنا، غير مخصصاتنا من السجن، وهي حوالي الـ 12 ليرة لكل امرأة منا عليها أن تكفينا للفطور والغداء وأن نقيم منها للعشاء، وللمنظفات والحاجيات الأخرى، وذلك كان بالطبع مستحيلاً لأنه لا يكفي حاجات نصف إنسان وبالحد الأدنى من العيش، على الرغم من مساعدات الأهل والأصدقاء في الخارج، لكن كان علينا حقاً أن نعمل..

وبما أن سوق العمل كان فتيات الدعارة وذلك بسبب إمكاناتهن المادية العالية.. فقد كان الخلاف حول ضرورة العمل ومشروعيته. الضرورة كان متفقاً عليها، لكن المشروعية، وخصوصاً بما يتعلق بسوق التصريف، كان المشكلة الكبرى.

عملنا ميداليات من الخشب ومن نوى التمر، واشتغلنا بالخرز: جزادين ومسابح. جاءتنا مرة صفقة جيدة من المسابح حوالي المائة مسبحة لخارج السجن. كان العمل اليدوي بالنسبة لي من الأشياء الجميلة التي ساعدتني على تزجية الوقت، وحين كنت أحوك كنزة صوفية لابنتي سنا أشعر أن كل غرزة صوف مليئة بالحب، وأعمل 12 ساعة دون أن أشعر بالوقت وأنا أفكر فيها وهي تلبسها.

أما الانفصال عن الحياة الجماعية التي عشناها فقد غدا أكثر. لأننا كنا مشتركات كشيوعيات بالأكل والنقود والثياب، الحياة جماعية والأكل جماعي، وهناك صندوق مالي جماعي وصندوق صحي.. هناك مجموعة من المعتقلات من الحزب بدأن ينفصلن عن الحياة المشتركة على أرضية سوء حال أهاليهن الاقتصادي، وعدم رغبتهن بتحميلهم أية أعباء إضافية. بدا أن الحياة الجماعية التي أسسناها قد بدأت تتفكك، ولا سبيل إلى الإكراه على البقاء فيها لأن الإكراه غير مجد.

لم على المرأة أن تحتمل دوماً؟.. لم على زيارة يوم السبت أن تتحول من فرحة لا توصف، لأن المعتقلة سترى أهلها وأصدقاءها، إلى كابوس تعود معه إلى السجن وهي تشرق بدمعها وصوتها مكبوت، لأنها قضت الزيارة وهي تتحمل إهانات أهلها واتهاماتهم بأنها جلبت لهم العار بسجنها وعملها السياسي..

هذا في المعتقل أما في الخارج وتحت ضغط القمع والخوف المهيمنين كان الحصار الاجتماعي الذي تعرضت له السياسيات المعارضات، كما تعرض له السياسيون المعارضون أيضاً، كفيلاً بتقويض جبال، وقد راح أكثر المقربين يتحاشون التعامل معهن، ولا يستقبلونهن في بيوتهم وقت الحاجة. هذا الحصار أثر على الحزب بالكامل وليس على النساء فيه فقط.

حتى أن معتقلة كأميرة سجنت حوالي الأربع سنوات لم يزرها والدها سوى مرة واحدة، فيما لم تر أخاها ولا مرة.

لقطات

طلع شريط فيروز: كيفك إنت، وسمعناه من الراديو، ثم استطعنا إدخاله في إحدى الزيارات.

دخل إلينا شريط إيمان البحر درويش، وعملنا عليه مناحة جماعية.

طلعوا الأخوانيات في أوائل الـ 1990 زعلنا لأننا لم نطلع، وفرحنا لأن الكان غدا أوسع بكثير.

عشنا أصعب اللحظات في غزو العراق أمام التلفاز والراديو.

استطعت أن أبعث بأول هدية إلى سنا ابنتي مع إحدى القضائيات المفرج عنهن: جزدان خرز صنعته بيدي عليه اسمها، وبعثت لها جميلة البطش، سجينة المنظمة الشيوعية العربية، بطة صغيرة صنعتها من الخشب، وهند قهوجي فستاناً مصنوعاً بسنارة واحدة، ووفاء إدريس عصفور من الخرز.

جاءت غرناطة الجندي من فرع التحقيق إلينا، بعد شهور قصيرة من الاعتقال، كنت في شوق إليها، لكنها كانت تحمل إلي خبر وفاة زوجي مضر الجندي تحت التعذيب..

وهم القوة

لم أدع الحزن على مضر يأخذ مجراه، تعاملت مع الأمر بشكل غير عادي، وكأن فكرة قبيحة عملت طويلاً لتتمكن منا: القوة تكمن في ألا نكون أناساً. لكن الكوابيس كانت قد فتكت بي بعد ذلك، وامتلكتني بشكل شيطاني: حصان جامح يرفس بطن مضر، أستيقظ وأنا أبكي. صرت أجاهد كي لا أتذكر الحلم. اليوم وبعد أربعة عشر عاماً من خروجي من المعتقل لا أتذكر الكثير من تلك الكوابيس، لقد نجحت في محوها من ذاكرتي. حالة الكبت تلك كابدتها وأنا أعود من زيارة ابنتي سنا للمرة الأولى. كان قد مر ثلاث سنوات ونصف لم أرها، فيهم سنة من التخفي، وسنتان ونصف في المعتقل، وقد غدا عمرها حوالي السبع سنوات. رغم أنني حصلت على صورة لها قبل ذلك، أدخلتها لي حسيبة عبد الرحمن في إحدى زياراتها، وقد بعثتها لي أختي سمر. علقتها على الحائط فوق الفرشة التي أنام عليها. فاجأتني طفلة مخيفة في يوم الزيارة ذاك: وجه محمل بالخوف والقلق، وأسئلة فوق طاقة طفل. شحوب وجه شديد، ونحول مبالغ فيه، ولهجة غريبة. ظلت في تلك الزيارة الأولى جالسة في حضني طوال ساعة الزيارة المحددة.

دخلت بعد الزيارة مخنوقة إلى السجن، كنت أجاهد لأتنفس، أحاول مداراة الأسى، وشعوري القاتل بأن هناك إنسان ظلم دون إرادة أو قصد مني. ورمت وفيقتي تماضر يومها قنبلتها، جعلتني أنفجر بالبكاء: خرجك الله لا يردك.. اللي بيجيب ولد بيربيه ما بيرميه. كانت الجملة في وقتها حتى لا أكبح حزني بعد اليوم.

أشعر حتى اليوم بمسؤولية تجاه ابنتي، غيابي عنها هو أهم ما فكرت فيه وأنا في المعتقل، لكن يبدو أن التوفيق بين عمل الحزب ووظيفتي كأم كان صعباً للغاية في ظل تلك الظروف الشديدة.

وقفة مع مصير الحزب.. النزيف

واحدة من الوقفات الكثيرة التي داهمتني في المعتقل، إضافة إلى الوقفات الأخرى المصيرية، هي موضوع الحزب: تراجع دوره إلى الحد الأدنى بعد الضربات المتوالية من النظام، والظروف العالمية السيئة، انكسار التجربة الاشتراكية وغزو العراق للكويت. كنت أفكر بجدل بنائه، بالظروف وموازين القوى التي تحيط به، قضايا التنظيم والسياسة وبرنامج الحزب، ثم قضية الحفاظ على الذات، هل كانت مدروسة من قبل القائمين على العمل؟ إضافة إلى عدم امتلاكنا للتجربة، ولا لمرونة التعامل مع أي ظرف أو مستجد يواجهنا. كم كانت البنية التنظيمية متوافقة مع المرحلة؟ كانت غير مدروسة حقاً، وتعاني من الارتجال. وهل برنامجه برنامج حزب سري؟ لأننا لم نكن حزباً جماهيرياً، لذلك ينبغي أن نكون حزب نخبة. ولم نكن نخبة حقاً. كانت الكفاحية العالية هي الشيء المهم بالنسبة للقيادات، وأحياناً على حساب الثقافة. كان من الصعب أن تجتمع الثقافة العالية والكفاحية العالية أيضاَ. وكانت تجربتنا نحن معتقلات حزب العمل الشيوعي بكافة أطيافنا وتسلسلنا الهرمي: من كادر إلى رفيقة ومشروع رفيقة وصديقة من بيئات مختلفة وأحلام وآمال مختلفة في سجن مدني فيه كل ما يمت إلى المجتمع السوري السفلي بصلة من قضائيات وقتل وسرقة ودعارة ومخدرات، إضافة إلى كل أنواع المعتقلات السياسيات من التجسس لإسرائيل إلى معتقلات المعارضة الدينية إلى أطياف البعث العراقي والمنظمة الشيوعية العربية. كان يجمعنا الكثير لكن الذي يفرقنا أكثر (اجتمعنا ولم نجتمع). ربما للأمر علاقة بطبيعة المرأة، ببنيتها العاطفية الانفعالية، وربما بالغيرة أيضاً، أنا أرى أن المرأة قد تغار من أقرب الناس لها، إضافة إلى الضغوط التي تتعرض لها في المعتقل: خوفها على أهلها ومن كلام الناس، إحساسها بالذنب تجاههم، تشتتها السريع وشعورها أن أحلى سني العمر تمر في المعتقل، سن بناء الأسرة وتربية الأطفالن وأن قطار الزواج قد يفوت وهي لا تعلم موعد الخروج. هناك رفيقات كثيرات خرجن من المعتقل بعيدات تماماً عن السياسة والشأن العام وعن كل ماضيهن النضالي.

الوقت في المعتقل ثقيل وطويل، يمر ببطء شديد، ضجيج هائل في سجن دوما، وأكثر من 200 سجينة في باحة سجن، خصوصاً حين تنتفي رغبة القراءة، ويدخل المرء في دوامة التفاصيل، ليغدو التلفاز هو سيد الموقف، وكأن العمر ينتظر لا غير. حتى الحلقات الثقافية التي حاولت بعض المعتقلات الشيوعيات إنشاءها صارت عبئاً على الأخريات اللواتي لا يرغبن بالقراءة. راحت الخلافات تتوج الحلقات، لتتحول إلى جلسات اختيارية لا غير. إنها تفاصيل السجن التي لم تكن مناسبة لإقامة علاقات سوية، التفاصيل التي تقود إلى الهاوية، إلى الغضب الذي لا يجعلك تعطي بشكل صحيح ولا تأخذ بشكل صحيح أيضاً، وتبدأ المسافات بالتطاول بين السجينات: الخوف من بعضهن البعض، واختلاف الأمزجة. تتجذر الخلافات ويصير التوتر أكبر بين القيادات، ربما لأن خوفهن كان أكبر. وتغدو التكتلات الإيديولوجية والحزبية، التي سبق وعانت منها المعتقلات، تكتلات إنسانية بغض النظر عن أي شيء، وربما كانت علاقة شيوعية بامرأة من الأخوان المسلمين أشد حميمية من أية علاقة أخرى ضمن التنظيم نفسه، ولطعم القهوة الصباحية نكهة أخرى معها. ربما لأن السجن أيضاً يعمل على تعرية البواطن، على كشف كل مخبأ ومستور.

الشرنقة: رواية المعتقلات؟

بالتأكيد لدى حسيبة عبد الرحمن الحق بالكتابة كما تريد، وهذا ما فعلته في روايتها الشرنقة، لكن اختصار تجربة المعتقلات بهذا الشكل المبكي، بالرغم من الهنات الكثيرة التي عانت منها التجربة فهي لم تكن وردية بحال. كان الأمر في الرواية أشبه بتسجيل حديث للنسوان، شخصيات غير حية تنتج عملاً ميتاً، ليس له ديمومة، ليس بسبب البناء الروائي، بل لأن الشخصيات تقدمت بطريقة ممسوخة، وبالتالي لم يمتلك العمل الكفاءة للرد عليه أو إثارة السجالات.

لا يوجد في الحقيقة خير وشر كما طرحت حسيبة، ولا سالب وموجب.. الحياة أوسع من ذلك بكثير، والتجربة ملونة بألوان الطيف.

أعتقد أن تقديم التجربة بهذا الشكل فيه إساءة للمؤرخ وليس للتجربة. المطلوب كان أكثر بكثير.

تجربة لينا وفائي


فرع فلسطين

لينا وفائي من مواليد حمص 1959

من معتقلات حزب العمل الشيوعي من سنة 1987 وحتى 1990

مهندسة مدنية

قبو تحت الأرض: سقفه أرض لساحة الفرع، ونوافذ التهوية غينات إنكليزية مفتوحة بشبك معدني على الأرض فوقه. تنقضي السنوات هناك وأنت تنتظر نصف ساعة للتنفس، وتمر الشهور وقد لا تطالك ولا نصف ساعة. ولسخرية القدر ستساهم كما الجميع في محاولات جهيدة لسد فوهات التهوية التي تضخ الأكسجين في الهواء الفاسد المعتم، لأن برد الشتاء اللاإنساني يجعلك تفضل الهواء الفاسد والدافئ على صقيع الهواء النقي.

كان وجه لينا هادئاً وهي تتحدث: حين فتح باب الزنزانة بتلك الطريقة الهمجية، ونظرة الشماتة على وجوه العناصر الثلاثة، تيقنت أن شيئاً سيئاً للغاية قد حصل. شدّوني بقوة إلى فوق، سحبوني على الأدراج، وكان هناك أكثر من خمسة عشر ضابطاً يتحلقون حول رجل ملقىً على الأرض بوجه مدمى ويدين مربوطتين في الهواء.. كان هو عدنان محفوض زوجي.

كان يصرخ: لا تخافي لينا ما بيخوفو..

مسالخ التحقيق:

حين دخلت إلى فرع فلسطين ساعة اعتقالي كانت حوالي الثامنة والنصف ليلاً.

كنت قد عدت من عند زوجي عدنان في مخبئه وقد كان ملاحقاً ومتخفياً في تلك الفترة إلى البيت لأرى مجموعة من العناصر تنتظرني في البيت، وأخذوني بعد أن طمشوني إلى فرع فلسطين. هناك أخذوا مني الجزدان والساعة، ألبسوني بنطلون بيجاما تحت الفستان الذي أرتديه، وبدأ التحقيق. لا أعرف كم استمر التحقيق.. لساعات ربما، طمشوني بعصبة سوداء، واستخدموا (الدولاب) في تعذيبي وهو دولاب سيارة يجلسون المرء فيه ويضربونه بالكابل على أقدامه، كانوا يريدون معرفة مكان زوجي عدنان، وحين رحت أختنق من الدولاب، قلت سأدلكم على مكانه، حين أخرجوني صحت: لا أعرف مكانه لماذا لا تصدقون! استبدلوه بدولاب شحن، ولما لم أخبرهم استخدموا الكهرباء في تعذيبي وقد وصلوا أشرطتها إلى ساقيّ. كانوا متيقنين من معرفتي لمكانه.

طوال اثنا عشر يوماً في غرف التحقيق في الطابق الأرضي من الفرع وأنا لا أشعر إلا بأني في مسلخ، وأصوات المعتقلين حولي، تحيطني، وتجلدني. وصرخات التعذيب تجن في كوريدورات الفرع وبين الزنازين. كنت أقضي الوقت في محاولة لمعرفة الرفاق والرفيقات من أصواتهم.. اثنا عشر يوماً لا أعرف كيف مروا، كانوا مستميتين ليعرفوا مكان عدنان.

عالم المنفردات: عالم الأحذية والأقدام

أنزلوني بعد ذلك إلى المنفردة، ووضعوني مع رفيقة لي لمدة ثلاثة وثلاثين يوماً. مساحة تتألف من 70 X180 سنتيمتر. كنا ننام عقب ورأس، كل منا تنام وهي تحتضن أقدام الأخرى. عالم المنفردة: عالم كامل من الأحذية، لأننا كنا نقضي الوقت منبطحتين نراقب من تحت الباب، المرتفع قليلاً عن الأرض، أقدام المارة في كوريدور الفرع. وليلاً عندما ينام السجانون ويغدو السكون سيد المكان نتكلم مع بعضنا: ساكنات المنفردات. كانت المنفردات من حولنا مليئة برفيقاتنا، وكنا نتعرف على بعض بأصواتنا.

في الوقت الذي قضيته في المنفردة اعتقل عدنان.

أصوات تعذيب عدنان كانت تصلني، تدخلني حالة من الجنون، وأنا في المنفردة متقوقعة على نفسي ودون حراك. كان واضحاً أنهم يتقصدون سماعي لصوته وصراخه، لأن أبواب غرفة التعذيب كانت مفتوحة على غير العادة وتسمح لكل ما يجري بالخروج إلى أسماعنا.

بعد أيام من العذاب أنزلوه إلى المزدوجة في الثانية عشر ليلاً، عرفته من صوته، وهو يساق في الكوريدور. دققت على باب المنفردة. صاح السجان أحمد: شو بدك يا أربعة؟ وهو رقم المنفردة. طلبت منه الخروج إلى الحمام في آخر الكوريدور، كنت أريد أن أخبر عدنان أني هنا، وأني بخير. وأنا أقفل عائدة إلى زنزانتي صحت بأعلى صوتي كي يسمعني عدنان في زنزانته: تصبح على خير يا أحمد. وكأن السجان أحس باللعبة، فصاح بي متبرماً وهو يدفعني إلى داخل الزنزانة: فوتي فوتي الله لا يسلم فيك ولا عضمة.

تفاصيل.. تفاصيل.. كيف سيكون الحال لسنوات تحت الأرض دون كتاب أو جريدة، دون راديو وبالطبع دون تليفزيون.. ليس ثمة أي صوت إلا أصوات المعتقلات أنفسهن وصراخ السجانة.. صوت الصمت الذي كان أفضل بما لا يقاس من آهات التعذيب وهي تصم جدران الزنازين.. خواء كامل.

المعتقل أو السجن: عالم الأشياء الصغيرة والصغيرة فقط..

تضحك لينا وهي تخبرني أنها لا تستطيع رؤية مجلة العربي حتى اليوم، بعد مضي سنوات طويلة على إطلاق سراحها من فرع فلسطين، رغم أنهم حصلوا عليه، على مجلة العربي، في المعتقل بعد إضرابين عن الطعام، الأول تحذيري استمر يوماً واحداً، والثاني كان إضراباً مفتوحاً، نزل فيه مدير السجن إلى المعتقلات في الأقبية، وراح يضربهن بالكرباج، يرفسهن بيديه وقدميه وكأنه ينتشي بهذا الضرب. ثم أخيراً استطاع اللعب على وتر الأنوثة، أخذ شعر إحدى المعتقلات، وكان طويلاً وفاحماً وجميلاً للغاية، لفه حول ساعده وهم بجزه كصوف الخراف، حينئذ انتهى الإضراب ولكنهم سمحوا بدخول مجلة العربي إلى غياهب الفرع.

الانتقال إلى المزدوجة

بعد خمسة وأربعين يوماً من الاعتقال انتقلت إلى السجن الجماعي ثم إلى المهجع رقم 6 ثم من جديد إلى المزدوجة. وهي عبارة عن أربع زنازين مزدوجة حوالي 160 سم بـ 180 بينهم الكوريدور وفي نهايته محرك السجان والحمامات. الزنزانة بطول الإنسان واقفاً وفتحتها العلوية 15 X 60 سم ولها سقف. والزنازين الأربعة كانت تبقى مفتوحة على بعضها فيما يغلق الباب الخارجي.

مرت أكثر من تسعة أشهر قبل أن نرى الشمس للمرة الأولى حيث سمحوا لنا بالخروج إلى الشمس في الباحة لنصف ساعة فحسب.

وبما أن زيارات الأهل كانت ممنوعة فإن الطعام والنقود القادمين من الخارج قليلين للغاية. الاعتماد الكلي كان، ولعدم وجود مواد أولية أو غاز أو..، كان على طعام السجن، طعام سيئ للغاية: يكتفون صباحاً ببيضة مسلوقة لكل معتقلة أو ملعقة لبنة حامضة أو ملعقة مربى مع عشر حبات زيتون. والشاي يأتي بارداً في تنكات قذرة. أما الغذاء فهو دائماً برغل مع فاصولياء حب أو زهرة مع مرقة حمراء. والعشاء صحن شوربا، وحين يكون بطاطا مسلوقة فحظنا طيب للغاية، وحينئذ كنا نقضي الليل ونحن نغني: ع البطاطا البطاطا.. يا عيني ع البطاطا.

كان اللحم يقدم مرتين بالأسبوع، ثم أصبح بعد فترة مرة واحدة وبكميات جد قليلة. أما النوم فعلى العوازل: وهي بطانية مخيط إليها قماش مشمّع سميك. لم يكن عدد العوازل كعددنا، لذا كان على كل فتاتين أحياناً أن يتشاركا العازل نفسه عقب ورأس. لكل واحدة وسادتها الخاصة تحشوها ثياب الشتاء في الصيف وثياب الصيف في الشتاء، وتحملها معها أينما نامت.. على أي عازل.

السجن في فرع التحقيق كان يعني أن التوقيف مؤقت، أي ريثما تنتقلين إلى سجن دوما مثلاً، كان توقيفنا نحن معتقلات الفرع مؤقتاً.. لمدة تزيد عن الثلاث سنوات!

أذكر أياماً طويلة قضيتها وأنا أسترق النظر من قفل الباب الحديدي، لأن عدنان، الذي كان ما يزال في المنفردة، سيخرجه السجان ثلاث مرات في اليوم إلى الحمام، وبالتالي أستطيع أن أراه لثوان في ذهابه وإيابه. كان يشعر هو بوجودي خلف الباب، لأن القفل كان يهتز من الخارج، وفي كل مرة كان يتابع القفل بنظره دون أن يراني.. كانت لحظات رائعة أن أستطيع رؤيته ولو دقائق كل يوم ودون أن يراني.

أعتقد أني قضيت السجن بشكل أقل إيلاماً من بقية رفيقاتي، لأني كنت غنية عاطفية بسبب إحساسي بوجوده، ولو باعدتنا الجدران الباردة والسجانة والقضبان.

آلة تسخين المياه عبر البلوعة

الماء البارد للاستحمام صيفاً شتاء كانت مشكلة حقيقية، خاصة في أوقات الصقيع الوحشي. كانت تمر أسابيع لا نجرؤ فيها على الولوج تحت المياه الباردة حد الجنون. المياه الساخنة ممنوعة.

في الشتاء الثاني لسجننا سمعنا طرقاً ملحاً في الحمامات آخر الكوريدور، وكانت حماماتنا ملاصقة بالحائط لحمامات الشباب الفلسطينيين (العرفاتيين)، وهناك بالوعة تصل بين الحمامين. صرخ أحدهم عبر البلوعة وقال أنهم سيبعثون لنا بشيء يسخّن المياه. وبالفعل أوصلت لنا المياه كيساً من النايلون الأسود يحتوي على آلة من صنع يدوي لتسخين المياه: علبة طون معدنية مقصوصة من منتصفها كصفيحتي معدن، بينهما قطعة بورسلان مخاطة إليهما وموصولة إلى أشرطة كهرباء، كانت تعمل كمكثفة،. وصلناها إلى أشرطة النيون الموجود في المزدوجة ووضعناها في برميل الماء الذي نستحم فيه، نعمنا للمرة الأولى بعد أكثر من سنة بحمام ساخن.

هذه الآلة البسيطة وهبتنا متعة ما بعدها متعة، جعلتنا قادرات على شرب القهوة بعد سنة وثلاثة أشهر دونها. سخنا الماء في وعاء بلاستيكي، ووضعنا فيها القهوة التي فاحت رائحتها كعبير في المزدوجات. جلسنا كدائرة نغني: دارت القهوة وعنين بدها تدور دارت علي وفنجاني مكسور.

في الساعة الثالثة ليلاً فتح أحد السجانين، وكان يُطلق عليه لقب: الحمام الزاجل لأنه ساهم مراراً بنقل الرسائل بين المعتقلين والمعتقلات، باب المزدوجة، كانت المعتقلات نائمات ساعتها، قال للينا أن تطلع إلى سقف المزدوجة ثم أقفل الباب. كانت سقيفة المزدوجة المنخفضة تطل بفتحة ضيقة من الشبك المعدني على كوريدور السجن. حين انطلقت لينا من فورها لتتسلق القضبان الحديدية لباب المزدوجة إلى فوق كان السجان قد انتظر فراغ السجن من السجانين والدوريات وأخرج عدنان زوجها إلى الكوريدور من المنفردة التي قضى أشهراً فيها. فجأة سترى لينا عدنان قبالتها بعد شهور طويلة دون لقاء كانت صدمة كبيرة. الصبايا في المزدوجة صعدن بمعظمهن إلى السقيفة وصرن يحادثن رفيقهن، فيما لينا تسمرت دون أن تستطيع الكلام، ولا هو تكلم معها، وحده صوت بثينة كان الشاهد والواصل بينهما وهو يصدح بأغنية فيروزية رقيقة: لشو الحكي طالل علينا قمر.

ربما كان لافتاً أن تنده الدواخل الإنسانية في قلب السجان، أن تستيقظ في تلك العتمة، وأن يكون صوت بثينة الفيروزي الشاهد والمؤرخ على لحظات السجن القاسية حين يرمى معتقل مدمى من التعذيب في زنزانته، وعلى اللحظات الجميلة كتلك اللحظة.

أمهات في المعتقل

– صباح سندويشات اللبنة.

– صباح كوي الصدرية.

هكذا كنا نلقي تحية الصباح على بعضنا. صباحات محملة برائحة الحنين والأطفال. كنا سبع أمهات من أصل اثنتا عشرة معتقلة. إحساس جارح بفقدان الأطفال وشعور بالذنب قاس، يتنازعك أمران: إحساسك بقدسية الأمومة من جهة، وقدسية عملك الحزبي من جهة أخرى. هل كان كل ذلك جديراً بترك أطفالنا لسنوات يتامى خارجاً؟ كان هناك رفيقات مضى على اعتقالهن أكثر من ثلاث سنوات دون أن يرين أطفالهن!

كانت ابنتي نوارة تأتيني في المنام دوماً مشعثة الشعر ممزقة الثياب باكية تسألني: لماذا تركتيني؟ كانت في الرابعة من عمرها حين اعتقلت، وعندما خرجت بعد أكثر من ثلاث سنوات كانت قد تجاوزت السابعة وأضحت فتاة مغايرة تماماً. ظلت لشهور ترافقني حتى حين أدخل الحمام مخافة أن أتركها مجدداً، وإذا طالت فترة دخولي الحمام تدق علي لأخرج.

تفاصيل الأنثى

حتى النوم سيغدو مشكلة كبرى هناك. كنت أعاني من مشكلة الصرير الليلي، يحتك فكاي ببعضهما مصدرين صوتاً يمنع من قربي من النوم، وكنت لا أستطيع الثبات على وضعية النوم نفسها طيلة الليل.. إذاً؟! ستستميت الفتيات كي لا تنام أية واحدة منهن قربي، كن يتناوبن على ذلك وويل للتي سيأتي دورها. علاوة على ذلك كنت أرفض تناول الفوستان الذي قد يريحني. لم أكن قادرة على الموت أكثر من ذلك الموت.

ستمر سنة ونصف قبل أن نستطيع استعمال أي أداة من أدوات النساء. لأن المرأة ستظل امرأة حتى لو قضت سنوات تحت الأرض دون شمس أو هواء. ولأننا كنا صغيرات، تتراوح أعمارنا بين الخامسة والعشرين والخامسة والثلاثين، فقد كنا نتوق إلى تلك الأدوات. كنا نوصي أختي وقت الزيارات المتباعدة المسموح بها على علب كبيرة من العلك، وننزع شعر أقدامنا وتحت إبطنا بمضغات العلك المعلوك. بعد فترة استطعنا إدخال عقيدة السكر لنزع الشعر بها.

بعد سنة وعدة أشهر من اعتقالي استطاعت أختي أيضاً تهريب ملقط شعر ومرآة صغيرة إلى الداخل مع الأغراض الأخرى. استطعنا بذلك أن نزيل شعر حواجبنا الذي تُرك طويلاً دون تشذيب..

وبسبب من أن إدارة السجن كانت تقوم بتوزيع المحارم النسائية فقد حررنا ذلك من عبء مادي إضافي، على الرغم من أن المحارم كانت تتأخر أحياناً كثيرة، والسجان يأتي من أول الكوريدور وهو يصيح: جبتلكون المحارم.. إي شو بتاكلوهون! هذا يعني أن يعرف كل من في الفرع أن إحدى معتقلات المزدوجات أتتها الدورة الشهرية.

كنا نتساءل مازحات قبل أن نخرج، هل من المعقول أننا أضحينا مجنونات! لأننا لن نكتشف جنوننا طالما نعاني منه جميعاً. الجنون العام كان سخريتنا الدائمة، وربما خوفنا الدائم. قد يكون ذلك بسبب وجود رفيقات عانين من مشاكل عصبية شديدة في المعتقل. كان وضعهن ضاغطاً للغاية وعلى الجميع.

في المعتقل ليست السياسة هي المسألة الأهم، رغم أن أية واحدة منا نحن معتقلات حزب العمل لم توافق أو توقع على تعهد أو تخلي أو أي تنازل آخر.. لكن السر كان في العيش المشترك (القسري) لمجموعة بشرية تسعى أن تخرج من هذا السجن بأقل الأضرار الإنسانية الممكنة.. وكان مجرد تحقيق ذلك إنجاز حقيقي.

تجربة غرناطة الجندي


سجن دوما

غرناطة الجندي من مواليد دمشق 1966

من معتقلات حزب العمل الشيوعي من سنة 1987 وحتى 1991

مهندسة ميكانيك

كانت في الحادية والعشرين من عمرها حين اعتقلت غرناطة في مدينة حلب حيث كانت تدرس في سنة 1987، وسجنت لمدة أربع سنوات، بدأت في فرع التحقيق بحلب، ثم فرع التحقيق بدمشق، ثم إلى سجن دوما حتى سنة 1991 حيث خرجت مجموعات الصبايا المعتقلات سوية، وربما كانت هذه أجمل لحظات السجن: الخروج الجماعي إلى الضوء.

تتذكر غرناطة كلمة كان يقولها مضر الجندي: إنشاالله مفكرة أنو بعد عشر سنين أو مية سنة رح يتغير شي؟ أنا عم اشتغل بس لحتى اشتغل، وحتى ما يجي يوم ما يكون حدا اشتغل.. عم ضحي لحتى ضحي وبس..

تقول غرناطة: المشكلة أني نسّاءة. على الرغم من ذلك أتحفتنا بتفاصيل غاية في الدلالة والدقة والجمال. ربما سيأتي ذلك اليوم الذي يخرج فيه كل شيء إلى العلن.

ظروف الاعتقال:

جدتي تلك المرأة التي ما عرفت ماهية الحب لولاها، والتي استطاعت ملء كل الفراغات المتروكة داخلي، ورأبت الصدوع الآخذة بالاتساع كانت هي الشاهد الأخير على اعتقالي. حين خبرت بأن الأمن يبحث عني، وقد سأل عنصران عني في الجامعة ثم في بيت خالي!. كنت قد لاحظت، وفي ظل ظروف الاعتقالات المتلاحقة، أن هناك مجموعة من الشبان خلفي دائماً، حين أخرج من البيت أو في الجامعة. كنت أقول لصديقاتي مازحة: لا يعقل أن يكونوا معجبين..

في الساعة الثانية ليلاً من ليلة كانونية خرجت من بيت جدتي، كان يجب أن أهرب حالاً. ماذا سأفعل في هذه الساعة؟! في الشوارع لا يوجد إلا الكلاب والمخبرين. كان علي أن أوقف سيارة تاكسي، وأتجاهل نظرات السائق المصوبة إلي كسكاكين متهمة، وأن أخترع طيلة الطريق قصصاً عن زوج مفترض وشجار عنيف نشب بيننا في منتصف الليل. حينها سألني: لوين بدك تروحي؟. كان ذهني فارغاً تماماً. حقاً إلى أين سأذهب؟ ربما كانت فرصة للتفكير إلى أين سأذهب؟.

حين وصلت إلى بيت أحد أصدقائي، في إحدى أحياء حلب الراقية، أحسست أن هناك أحد ما في البيت، لأن الباب الحديدي للبناية كان مغلقاً فيما يتركونه عادة مفتوحاً في حال مجيئي متأخرة إلى البيت. مشيت إلى البناية المجاورة، ودخلت إلى مدخلها الزجاجي. كان برد كانون الأول شديداً للغاية، دخلت وقعدت على درج البناية بانتظار الصباح. كلما أتى أحد كنت أختبئ أعلى الدرج، وحين طلع الصبح كنت قد تعبت حقاً، تعبت إلى الدرجة التي جعلتني أقرر الذهاب إلى بيت رفاقي وأنا شبه متأكدة أن عناصر الأمن ينتظرونني في الداخل. دخلت إلى البيت، وكانت الساعة السابعة صباحاً، وكان عناصر الأمن في الداخل بالفعل.

حين طلبت من ضابط الأمن أن يدعني أرتاح وافق لدهشتي قائلاً: أني سأضطر إلى البقاء هنا. دخلت ونمت، وفي الساعة التاسعة صباحاً، أي بعد ساعتين، أيقظني: ما عاد فينا نتأخر أكتر من هيك. ثم طلب أن أغير ثيابي، تنورتي وكندرتي، لأرتدي بنطالاً لصديقي وبوطاً رياضياً. وفي سيارة ستيشن بيضاء ذهبنا وقد عصبوا عيني بعصبة سوداء مشدودة.

تشعرين بالراحة عندما تضعين حداً لسلسلة التحقيق المستمرة، هذا أكثر ما يريح المعتقل، انتهى كل شي مهما كان الذي سيحدث كبيراً ومهما كان الذي حدث.. خلص انتهى. وهذا ما جرى بعد أن نقلونا من فرع التحقيق العسكري بدمشق إلى فرع فلسطين.

في الأشهر الستة التي قضيتها في فرع فلسطين كان الوضع سيئاً للغاية، دون شمس أو هواء، شهور وأنت تحت الأرض ممنوع زيارة الأهل، ممنوع الخروج إلى الضوء.. بعد مدة صار ممكناً أن يجلب لنا الأغراض أو النقود لكن دون أن نرى أهلنا. بعد مدة استطاع القلة أن يحصل على استثناءات، استثناءات مضحكة، مثلاً قد يستطيع أهالي أن يزوروا ابنتهم كل سنة مثلاً. مرت أوقات طويلة دون ثياب أو أغراض، نضطر إلى غسل الثياب ولبسها فوراً. في الفترة الأولى لسجني كنت أضطر إلى غسل ثيابي الداخلية بالماء البارد وصابون الفرع، ثم ألبسه من فوري، مما أدى إلى حدوث التهابات نسائية (فظيعة) عندي، عانيت منها لشهور طويلة.

الشيء الأكثر إيلاماً كان الأمهات اللواتي لم يستطعن رؤية أطفالهن.. كن كثيرات في الفرع، ثم انتقلت مجموعة كبيرة منا إلى سجن دوما. أذكر حادثة لا تمحى من ذاكرتي البتة: كنا حوالي خمس وأربعين امرأة في المهجع (المزدوجة) ننام (تسييف)، أي رأس الأولى عند قدمي الثانية وبالعكس، وهكذا على طول المهجع، ومجموعة تسهر عند الباب حتى يأتيها وقت النوم. كان يومها معنا الكثير من المعتقلات (العرفاتيات). المزدوجة كشرط أفضل من المهجع لأن لها سطح تستطيعين الصعود إليه رغم سقفه الواطئ ولها شباك (غين إنكليزي) تبدو منه أرضية ساحة الفرع التي فوقنا. كانت منى التي تركت ابنها خارجاً ولم تره طيلة شهور قد التقطت شبح طفل في الساحة يتلصص علينا من خلال الشباك، يبدو أنه كان ابن أحد الضباط، صارت منى تحكي معه لأنه كان بعمر ابنها تقريباً، الصغير صار يرمي لنا بأزهار صفراء برية من خلال تخريمات الشباك لكن دون أن يتحدث، وعندما أصرت منى على أن يحدثها قال أننا مجرمات ولا يجب أن يتحدث معنا. شيء ما انكسر داخلها وراحت تبكي بحرقة.

كيف تحول البيت العربي إلى سجن؟

طوال سنوات السجن كانت الجرائد والمجلات والكتب ممنوعة تماماً، حتى كتب الجامعة أخذت منا. لكن هناك تلفزيون في كل مهجع لا يبث إلا القنوات الرسمية السورية، الإعلام السوري فحسب.

سجن دوما هو بيت عربي، محاط بالشباك المعدنية، وحوش محاط بالغرف وفي وسطه نافورة. تفتح الغرف/ المهاجع عند الساعة التاسعة صباحاً وتغلق علينا في الثامنة ليلاً، في البداية كنا حوالي الثلاثين معتقلة في المهجع، بعد أن انتقلت الأخوانيات (معتقلات الأخوان المسلمين) صار المكان أكثر اتساعاً رغم بقاء معتقلات بعث العراق والتجسس لإسرائيل. بجانب مهجعنا كان هناك مهجعان للقضائيات (قتل أو سرقة وما شابه) وبجانبه غرفة كنا نطلق عليها: مدرسة، لأنها كانت مشروع مدرسة للقضائيات والمتهمات بالدعارة، مهجع لسجينات الدعارة والحشيش ثم المطبخ. كان هناك براد مركزي في الغرفة السابعة فقط. كنا ننام كل فتاتين على فرشة، وحدها رنا أعطيت الزاوية على فرشة خاصة لأنها أنجبت في السجن ماريا الصغيرة التي ظلت معنا في المعتقل حتى بلغت شهرها الحادي عشر. كان هناك صغيرة أخرى ابنة إحدى المعتقلات الأخوانيات ظلت حتى صار عمرها سبع سنوات في السجن، صغيرة مسكينة لا تعرف في هذه الدنيا إلا سجن دوما وحديث أمها وخالتها وجدتها (لأن الأم وابنتيها كن معتقلات معاً).

كفاف الأكل كان طعامنا، كان المتعهد (شخص يتعاقد السجن معه) هو الذي يجلب لنا الخضار والمواد الأولية، وتستطيعين تخيل الأيادي التي تصل النقود إليها من السجان إلى إدارة السجن إلى.. إلى.. وبما أن الدخل كان محدوداً للغاية فالأكل كان بالعموم سيئ. كان هناك صبيتان تتبدلان في كل يوم وهما مسؤولتان عن تنظيف السجن والطبخ في كل يوم. النقود التي كانت تصلنا قليلة للغاية، افترضي خمسمائة ليرة كل أربعة أشهر ما الذي تفعله؟ والمشكلة أن هناك الكثير من الحاجيات المتوجب شراؤها وأولها المحارم النسائية. كنا نحن الصبايا الشيوعيات نتوازع كل شيء في المهجع، وقد أنشأنا صندوقاً مشتركاً في حال احتاجت أي منا إلى معونة مالية تجتمع اللجنة التي أطلقنا عليها: وزارة المالية وتقرر المنح.

وجودك اليومي مع نساء (مجرمات) كما يصفهن المجتمع كاملاً غير وجهة نظري عن الجريمة، شو يعني مجرمة؟ هناك شيء قاس للغاية لدرجة لا يمكن تخيلها، كان هناك سجينة قضائية قتلت زوجها. عندما كانت تحكي كيف ولماذا كنت أقول لو كنت مكانها لفعلت الشيء نفسه! ذوبته بالأسيد هي وعشيقه وعشيقته بعد أن اعتدى على ابنها..

أعتقد أن الأمر الوحيد الذي خرجت به من السجن وأغناني من الداخل كإنسان أنه لا الصحيح صحيح ولا الخطأ خطأ، الحدود بينهما ظرفية للغاية، ولا تطلق أحكاماً مسبقة تروى.. وفقط تروى

بتصيري بتزعلي بتحزني بتفكري لو كنت محلها بعمل هيك ولا لاء.. بتحسي حالك مانك استثناء.. وبتحسي بانسجام إنساني غريب مع مجرمة!

الشيء المحزن أننا كنا جلادات بعضنا

حدثتني غرناطة الكثير، الكثير عن تفاصيل التعذيب والعتمة والآلام، والكثير عن الهموم الإيديولوجية التي تنتفي في تفاصيل المعتقل اليومية، حدتثني عن الشخصيات وعن التنافس الذي يصل حد القرف بين المعتقلات، عن التكتلات وعن فسيفساء الأنثى اليومية في داخل المعتقلات اللواتي بلغن العشرات في سجن دوما.. ربما سيأتي ذلك اليوم الذي نستطيع الحديث فيه بشكل أكثر جلاء حينها ستكون كمامة الصمت قد أزيحت بشكل كامل عن أفواهنا..

القسوة قسوة.. والسجن ليست تجربة للمتعة، أنت تعملين في العمل السياسي السري وتعلمين حق العلم أنك ستتعرضين للسجن والتعذيب كل ذلك معروف، لكن الدقائق الصغيرة التي تعاش في داخل المعتقل هي التي تغنيك. كنا نحن الصبايا المعتقلات في مواجهة السجن سوية ولكن لم نكن منسجمات في الغالب.. تمر أوقات نكون قريبات للغاية وأوقات تنقلب الآية.. تفاصيل عيش يومي وقسري لسنوات طوال,, ماذا سينتج عنها؟!.. أعتقد الكثير.

كنا نساء وحيدات دون أهل في السجن فقيرات، معظمنا يفتقد منطق التحليل، معظمنا ليس خلاق، نساء عاديات خاضوا تجربة سياسية قصيرة وانتهى الموضوع.. ولكننا لسنا آلهة والإنسان، أي إنسان، لديه أخطاؤه، لكن عموماً كانت التجربة بحاجة إلى نضج أكبر، تجربة النساء خصوصاً، ولم يتأتى لها الوقت الكاف للنضج. في أحيان كنا غاية في الإنسجام نجلس تحت الياسمينة في الحوش ، ننظف البحرة ونملؤها بالماء، أو نكتب المسرحيات في مناسبات عدة كعيد الحزب أو عيد الأم أو.. ونجلب السجينات الأخريات ليحضرن مسرحياتنا. في كثير من المرات كانت السجينات الأخريات يبكين.

كثيرات منا دخلن السجون ولم يكن رفيقات في الحزب أصلاً، ودون أن يكون لديهن تجربة بسبب قراءة جريدة للحزب أو بسبب صداقاتها من داخل التنظيم أو لأنها نقلت منشوراً ما، هذا ليس عمل سياسي ينبغي ألا نكذب على أنفسنا. كانت تجربة جميلة على الصعيد النظري لكن لم يعمل عليها كفاية لقد توسعنا أفقياً ونسينا أن نتعمق عمودياً. ولكن هذا لا يعني أني لا أعيد الكرة، حين سيأتي عمل يسرقني من الداخل كما سرقني يوماً عملنا في الحزب سأعود إليه بالتأكيد.

الثمالة على ديوان شعر

استطعنا أن نهرب ديوان شعر لـ “رياض الصالح الحسين” وكنا نعيش أجواء غاية في الرومنسية وأصواتنا تتناغم بعد إغلاق المهاجع ونحن نتلو قصائد الديوان حصل مرة أن أحسست بالسكر قرأت حتى الثمالة.

ختى في هذا المكان بكل قذاراته لا تستطيعين العيش دون حب وحلم! تصوري أن يكون حتى السجان إنساناًً إنساناً حتى الأقاصي. هناك رسائل كثيرة كانت تهرب إلينا من الخارج عن طريق السجانة، وكان دخول الرسائل كما تعلمين ممنوع، عاملات التنظيف كن يهربنها إلينا أحياناً، وفي أحبان كثيرة عن طريق الأيدي من وراء الشباك في أوقات الزيارات التي كان الأهل يحصلون عليها لزيارة بناتهم أو زوجاتهم أو أخواتهم…

في إحدى المرات كانت أمي قد بعثت لي مع أهل إحدى رفيقاتي حذاء. قال لي السجان: قيسي الكندرة كتير حلوة. وكان هناك رسالة داخل الكندرة. كان يحاول أن يلفت نظري إلى ذلك، أو أنه حاول أن يفهمني أنه رآها وغض النظر.

لنكن صريحات كنا نقول أننا نريد أن نبدل العالم، أن أغير الكون، وكانت أحلاماً مشروعة. لكن ما الذي كنت أعرفه عن العالم؟ ما الذي كنت أعرفه حق المعرفة عن بلدي؟

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. نشكر لكم عرض صفحات من هذا الكتاب الهام.
    اين يمكن تنزيل النص الكامل للكتاب؟
    مع الشكر والتحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى