سمر يزبكصفحات ثقافية

تلفزة التاريخ السوري

null


سمر يزبك

ليتخيل أحدنا أن رجال مسلسل «باب الحارة» خرجوا علينا فجأة بخناجرهم وشراويلهم، والنساء طلعن بثيابهن السود التي لا تظهر منها سوى عيونهن، وتجولوا في شوارع دمشق!

أقول شوارع دمشق تجاوزاً، وليس العواصم العربية باعتبار أن المسلسل يعرض وفي شكل دائم منذ شهر رمضان على غالبية الفضائيات العربية، ويلقى نجاحاً قلّ نظيره في الآونة الأخيرة.

تخيلوا لو فعلوا ذلك! سيصاب الناس بذهول لا حدود له. وعلى رغم الانفصال بين أبطال هذا المسلسل والواقع، فإن أبطاله يتحولون إلى رموز في الشارع الشعبي لمفهوم الرجولة والبطولة أيضاً، في مقاربة لافتة لأبطال السير الشعبية من أمثال أبو زيد الهلالي، وعنترة بن شداد.

على امتداد تاريخها قدمت الدراما السورية الكثير من المسلسلات التاريخية التي لجأت إلى الطمس والتزوير مثل: «حمام القيشاني»، «الخوالي»، و «أيام شامية».

وهناك مسلسلات أخرى جاهدت وسط موجة الإسفاف هذه للحفاظ على مستوى فني رفيع من النزاهة منها، «هجرة القلوب الى القلوب»، «خان الحرير» و «الثريا».

لكن اللافت أن أياً من هذه السلاسل الدرامية لم يصل الى مستوى الإجحاف بالتاريخ والإمعان في الاستبعاد والتبسيط التي وصل إليها «باب الحارة» والذي كرم أبطاله على شاشات الفضائيات العربية، وأكدوا خلال ظهورهم أن هناك جزءاً ثالثاً من «باب الحارة» لا نعرف حقيقة ماذا سيحمل.

هل سيقولون إن الشعب السوري لم يعرف الكتابة والقراءة مثلاً حتى عقود مضت! هذا ليس مزاحاً، وليس بتجن عليهم، ما دامت حارتهم كلها خلت من متعلم واحد، أو حتى رجل يتردد الى المدرسة لئلا نطمع كثيراً ونقول: امرأة متعلمة. ولم تشر حلقات المسلسل الى وجود مدرسة، أو وجود حتى شيخ يعلم الصبيان فك الحرف! فهل كانوا يعيشون في جزيرة روبنسون كروزوي؟

هل كانت البيوت الشامية عبارة عن سجون مقفلة على الحريم، وعندما تجرأت واحدة منهن ورفعت صوتها أمام زوجها كانت عاقبتها الطلاق، وعاقبة ابنتها طلاقها أيضاً؟

من أين إذاً جاء الشاعر نزار قباني، ومن أين خرجت غادة السمان، أو إلفة الادلبي؟ ألم يخرج مثل هؤلاء من حارات الشام القديمة؟ هل حقاً كان المجتمع الشامي في فترة الاحتلال الفرنسي على تلك الشاكلة من البدائية والهمجية؟ وهل ترك الاحتلال أبواباً لحارات دمشق؟

حتى هذا التفصيل البسيط لم يهتم به المسلسل، فقد أزيلت كل بوابات الحارات، واهتم الفرنسيون بمسألة العقارات وتنظيم القانون.

إذا كان استسهال النص الدرامي أحد أهم مشكلات التلفزيونات العربية، فهل تكون الهاوية بلا قاع؟ والسؤال الذي يبدو ملحاً أكثر، لماذا هذا الاحتفال بباب الحارة في ظل وجود أعمال درامية مهمة مثل «الحصرم الشامي» أو نصوص تلفزيونية مبدعة لكتاب مثل نجيب نصير وحسن سامي يوسف وخالد خليفة؟ لماذا تتراجع أعمال هؤلاء أمام سطوة ما هو جاهز لتلفيق وطمس التاريخ السوري؟

الجواب عند المشاهد الذي وجد في «باب الحارة» الشفاء من كل داء، فالحارة مكتفية بذاتها عن السلطة، والرجل الخائف أصبح بطلاً، يعيش في أمان على جزيرة هو سيدها وسجانها، لكن ماذا عن المشاهدة التي عاد بها هذا التاريخ المتلفز إلى عصر الحريم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى