صفحات العالم

المدن والضواحي في أميركا

سمير التنير
قبيل اندلاع الحرب على العراق في بداية عام 2003 انقسم الرأي العام الغربي والعالمي الى قسمين. وذلك في المؤسسات الإعلامية الكبرى، وفي الأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة: قسم مؤيد للحرب وقسم معارض لها. ولكن الحرب اشتعلت في 20 آذار (مارس) من ذلك العام، وقد اتهمت التظاهرات الضخمة في الغرب الحكومات الغربية بشن حرب استعمارية. أما الادعاءات المضادة فكانت تؤكد امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل (ثبت كذبها في ما بعد). وقد كتب البروفسور ايان روبرتس Roberts في ذلك مقالاً مهماً في جريدة «الغارديان» يشرح فيه أسباب الحرب قائلا:
«الحرب مقبلة لا محالة، ليس بسبب وجود أسلحة الدمار الشامل، كما يدعي اليمين السياسي، ولا بسبب الاستعمار الغربي كما يدعي اليسار السياسي. سبب هذه الحرب والحروب التي قد تليها هو السيارات.. أميركا وضعت نفسها في زاوية بنيتها التـحتية وتخــطيط مدنها واقتصادها تعتمد الى درجة عالية على السيارات. يمكن اعتبار أمــيركا مصــابة بإدمان مرضي. اذ من دون المليارات من براميل ذلك الوحل الأسود الثمين تضخ في شرايين اقتصادها ستعاني أميركا ارتدادا صــحيا مدمرا.. كلما توسعت الضواحي حول المدن كلما أصبحت صناعة السيارات أقوى. تصنيع السيارات هو الآن أكبر مشغل للعمالة. صناعة السيارات هي التي توفر المعيشة وتشكل الاتساع الحضري. ومدن مثل لوس انجلوس ودالاس وفينكس، خططت لتخدم السيارات لتصبح تشتتا حضريا هائلا من امتدادات الضـواحي، الى درجة انه الآن قد يكون من المستحيل إنشاء نظام نقل عام اقتصادي، ليخدم هذه المدن. نظام النقل الاميركي يعتمد كليا على النفط. والنفط بدأ ينضب. والإنتاج العالمي سيصل إلى الذروة خلال السنين العشر أو الخمس عشرة المقبلة. حتى أقل عجز في تجهيز النفط، يمكن أن يرفع أسعار وقود السيارات كثيرا. وتعي الادارة الاميركية جيدا أهمية استمرار تدفق النفط. حيث ان كل زيادة حادة في أسعار النفط خلال السنوات الثلاثين الماضية، تبعها ركود حاد في الاقتصاد الاميركي. ضواحي المدن الاميركية تحتاج إلى النفط، والنظام العراقي يجلس على ذلك «الكنز». ومن الشرح السابق يتبين لنا ان العامل الرئيسي لمشكلة أميركا هي الوقود النــفطي المعد للنقل. على العكس من معظم الدول الصناعية الأخرى التي تعتمد على أنظمة نقل متعددة ومتنوعة. كما تستخدم الدول الأوروبية الطاقة الكهربائية في النقل. وهذا ما يجعل أميركا شديدة التأثر بأي خــفض في إنتاج النفط. ويرجع ذلك الى نمط التخطيط الذي اعتمده الاميركيون عند بناء مدنهم. وهذا ما يجعل أميركا أكثر تأثرا ليس بوصول النفط الى ذروة الانتاج، وما يلي ذلك من عجز متزايد في إنتاج النفط، بل بأي إعاقة لاسـتمرار تدفق النفط. ويشير الباحث الأميركي فلمنك Fleming الى ذلك بقوله: «حتى لو كان النفط يمثل واحدا بالمئة من الطاقة المستخدمة، واذا كان هذا الواحد بالمئة يزود النقل المستخدم للنقل، فإن أي إعاقة لتدفق النفط ينتج منها إغلاق الاقتصاد خلال أيام».
يمكن تشبيه التنقل في المجتمعات الصناعية، بأنه كالدورة الدموية بالنسبة للكائن الحي. بل هو أهم من ذلك، فالنقل وما يتعلق به من صناعات، يشكلان جزءا كبيرا من دورة الاقتصاد الاميركي. كما ان الصناعة النفطية وصناعة السيارات يشكلان جزءا كبيرا من الاقتصاد الاميركي. كما ان الصناعات النفطية وصناعات السيارات وما يتفرع عنها من خدمات تشكل جزءا كبيرا من الاقتصاد الاميركي. كما ان قيمة الدولار النقدية ترتبط ارتباطا وثيقا بالسوق النفطية. وهذه الاسباب وغيرها في رأي أغلب الباحثين والدارسين، هي التي أدت الى احتلال العراق والاستيلاء على كنزه النفطي.
تكمن المشكلة الأميركية الكبرى، في التخطيط المدني المبعثر على امتــدادات هائلة المساحة، مما يجعل تلك المدن معتمدة كثيرا جدا على الوقود النفطي، وذلك على عكس كل المدن في العالم. ولا حل لهذه المشكلة المعقدة في المدى المنظور. والحلول العملية التي طبــقتها البــلدان الصناعية في أوروبا، والمبنية على توسيع استخدام النقل العام من اوتوبيسات وقطارات، ومترو تحت الأرض، ومترو الأنـفاق، وكل وسائل النقل الجماعية. لا يمكن تطبيقها في أميركا، وذلك لأمرين أولهما ان تشــتت الـضواحي حول المدن أوجد كثافة سكانية متدنية، بحيث ان إقامة أي نوع من النقل الجماعي لا يمكن له أن يكون مربحا. فالنقل العام يحتاج الى كثافة سكانية عالـية حول خطوطه كي يعمل وكي يكون مربـحا. أما الأمر الثــاني فهو توليد الطاقة الكهربائية المطــلوبة. فأمـيركا لا تستطيع في المستقبل المنظور توفير الطاقة الكهربائية، التي تحتاج اليها أنظمة الـنقل العام. ويحتاج ذلك الى فترة تفوق العقدين من الزمان.
لقد ساهمت عوامل عديدة في نشوء المدن الاميركية بهذا الشكل المبعثر. ومن تلك العوامل وفرة النفط ورخص أسعاره، وذلك خلال حقبات القرن الماضي. إضافة الى شغف الأميركيين بالسيارات، وطبيعة السهول الاميركية الشاسعة. لكن السبب الأساسي يكمن في نشوب الحرب الباردة، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بين أميركا وحلفائها من الدول الاوروبية والنازية الألمانية، حيث كان هـناك تخـوف حقيقي من نشوب حرب نووية مع الاتحاد السوفياتي، والخسائر الاقتصادية والبشرية الناتجة من تعرض المدن الأميركية المكتظة بالسكان لهجوم نووي. وخلال الخمسينيات والستينيات وحتى السبعينيات من القرن الماضي، أنفقت الحكومة الفدرالية أموالا طائلة لتشجيع المصانع والسكان على الانتشار في ضواح بعيدة ومنخفضة الكثافة السكانية كأسلوب للدفاع المدني ضد القنابل النووية. ولكن هذا الاسلوب في الحياة أصبح جزءا لا يتجزأ من الثقافة الاميركية. وأصبح امتلاك بيت في الضواحي مع حديقة وسيارات جزءا من الحياة الاميركية. وتحقيق ما سمي «بالحلم الاميركي» The American Dream. كما أن ذلك يتعلق بمصالح الشركات الكبرى في السياسات الحضرية. وقد جعلت هذه الأسباب من أسلوب الحياة هذا أسلوب الحياة العادية بالنسبة للكثرة الساحقة من الأميركيين.
ويشير الباحث الاميركي ديفيد فلمنك في دراسة له بعنوان «ما بعد النفط» الى أن أميركا لا تعاني نقصا في كميات النفط فقط، بل العجز ايضا في توفير الغاز لتدفئة المنازل. وهو يرى أن توفير كميات إضافية من الغاز من مناطق بعيدة كالشرق الاوسط، لن يكون أمرا متوافرا، وذلك لعدم وجود البنية التحتية لذلك فهو لا يرى مفرا من زيادة استهلاك النفط. لذلك تستهلك أميركا أكثر من 25 مليون برميل من النفط في اليوم، وخصوصا كوقود للسيارات والشاحنات التي يبلغ عددها 220 مليونا، على الرغم من أن عدد سكان أميركا لا يمثلون غير 5 بالمئة من سكان العالم.
([) كاتب لبناني
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى