صفحات ثقافية

من هو المثقف؟

null


د. حليم بركات

إلى إدوارد سعيد وهشام شرابي اللذين شاطرتهما معاناة الغربة، ولاهتمامها العميق بالثقافة – حليم بركات

في البدء أقول إنّني اخترت التحدّث إليكم حول دور المثقفين ودورهم في عملية التغيير، بعد أن ورد سابقاً في نشاطات “مركز الحوار” أنّ المثقفين هم المعنيّون بهذا التحدّي بالذات قبل غيرهم .

يُعرّف المثقفون عادةّ بأنّهم شريحة تستمدّ مكانتها من قوة الأفكار، ولكن هذا لا يعني أنّهم شريحة واحدة، فهم في الواقع ذوو خلفيات وانتماءات وتوجّهات متناقضة، وخاصّة في هذا الزمن المعقّد المتداخل. في مراجعة لكتابي حرب الخليج: خطوط في الرمل والزمن، يقول الناقد الأدبي فيصل دراج أنني أنتمي إلى ذلك المثقف الحديث على عكس مثقف الاختصاص الذي يقيم فصلاً زائفاً بين العلم ومسائل الحياة والمجتمع .

أقول إذن بتنوّع المثقفين حتى التناقض. في مقالة سابقة لي حول الكاتب العربي والسلطة، ميّزت بين أربعة أنواع من العلاقات بين الكتاب والسلطة واشرت الى اسماء الادباء الذين يمثلون هذه الاتجاهات:

1- علاقة اللامبالاة : مخائيل نعيمة، ورئيف خوري .

2- علاقة الاضطهاد : هذا شأن معظم الدول العربية

3- علاقة الوصاية : أيضاً معظم الدول العربية.

4- علاقة المشاركة: غير متوفّرة في أي بلد عربي، بما فيه لبنان .

وفي مقالة أخرى صنّفت الروايات العربية إلى خمسة اتجاهات :

1- الرواية التوفيقية كما في روايات توفيق الحكيم: “عودة الروح”، و”يوميات نائب في الأرياف” و”عصفور من الشرق”.

2- روايات الخضوع: نجيب محفوظ الذي يصوّر الإنسان المصري كائناً عاجزاً أمام طغيان السلطة، وخاصّة في “زقاق المدق”، و”بين القصرين”.

3- رواية اللامواجهة: “ثرثرة فوق النيل”، حيث تلجأ شخصياتها هرباً إلى عوامة فوق النيل وتمارس الإدمان، وكذلك رواية جبرا “السفينة”.

4- رواية التمرّد الفردي: رواية “أنا أحيا” لليلى بعلبكي.

5- رواية التغيير الثوري: كما هي عند غسان كنفاني وعند عبد الرحمن منيف.

ربّما نتمكّن بفعل تواجدنا كمثقفين عرب في الغرب أن نرى الأمور من زاوية خاصّة. وستكتسب رؤيتنا أهمية بالغة إذا ما تكلمنا من موقع الصراع الثقافي داخل الثقافة العربية وضدّ الثقافة الغربية المهيمنة.

واضح أنّنا منفيّون أو كثيراً ما يكون نفينا نتيجة لالتزامنا بالقضايا العربية وارتباطنا بالمصير العربي ارتباطاً عضوياً لذا لا نتكلم من موقع حيادي، ولا يمكن أن نكون كذلك طالما نملك رؤية ونصارع صراعاً مزدوجاً ضدّ الثقافة العربية السائدة، وهي ثقافة قمعية، وضد الثقافة الغربية المهيمنة، وهي ثقافة مرتبطة بنظام رأسمالي عالمي يشوّه المستغل والمستغَل معاً.

من موقع عربي ثوري تقدمي، نجد أنفسنا في حالة صراع وتنافس مع الثقافة العربية السائدة ومع قوى السلفية والليبرالية داخل المجتمع العربي. إذن، كم يكون الأحرى بنا أن نواجه الثقافة العربية السائدة وندخل في صراع محتدم معها. وكي نتمكّن من ذلك لا بدّ أن نرسّخ علاقتنا بثقافتنا العربية المضادّة الثورية عبر تاريخها الطويل (وهذه هي تراثنا وجذورنا)، وأن ندخل في حوار مع الثقافة الغربية الثورية المناهضة للثقافة للرأسمالية الاستهلاكية المهيمنة. بذلك نتحوّل من خلال تحوّل الحاضر والماضي بل نتحوّل من خلال المواجهة الداخلية والخارجية انطلاقاً من التراث العربي وغير العربي.

قد يقال نحن هامشيون في كلٍّ من الثقافة العربية والثقافة الغربية. هذا صحيح، ولكن هل الاعتراف بهذه الحقيقة يقود إلى تأجيل المواجهة والانسحاب من الصراع. طبعاً، لا، إنّ النمو يحصل دائماً داخل المواجهة وليس خارجها، فلا تؤجّل المواجهة حتى نتغلّب على هامشيتها بل نتغلّب على الهامشية في المواجهة ومن خلالها.

هذه هي الأطروحة التي أقدّمها للتداول حولها في هذا اللقاء، أقدّمها من موقع الجدّية والمسؤولية والثقة بمستقبل عربي أفضل رغم معرفتي وإحساسي العميق بهامشية القوى الثورية في الوقت الحاضر في المجتمع العربي والمجتمعات الغربية .

إنّها الوجّه الأنجح للخروج من دائرة علاقات التبعية والهيمنة، وهي علاقات فرضية تغريبية، وللدخول في علاقات تقوم على المساواة والاحترام المتبادل والأخذ والعطاء .

مثل هذه العلاقات الأخيرة لا يمكن أن تقوم مع الثقافة الغربية المهيمنة، ولكنّها يمكن ويجب أن تقوم مع القوى الثورية التقدمية في الغرب. من هنا دعوتي لعلاقات المواجهة، لا علاقات التعاون.

حين يصمّم الباحث على دراسة العلاقة بين موقع المثقفين العرب في البنية الطبقية ونتاجهم الثقافي، سيجد نفسه مضطرّاً أن يبدأ من الصفر تقريباً. سيواجه هذه الإشكالية لسبب بسيط هو غياب التنظير والبحث الميداني حول هذه المسألة المعقّدة .

خَلَت الأعمال الجادّة من أي اهتمام بهذه العلاقة، واكتفت أحياناً، وعلى نحو عابر، بالإشارة إلى بعض التحوّلات الطبقية في المجتمع العربي المعاصر. هذا ما نكتشفه إذا تفحّصنا كتاب ألبرت حوراني الشديد الانتشار حول “الفكر العربي في عصر النهضة”. نؤخَذ باطّلاع المؤلف الواسع والدقيق والعرض المسهب لأفكار عدد من أبرز المفكرين العرب. لكنّه يفعل كل ذلك دون أي اهتمام بالعلاقة بين الفكر والأصول والانتماءات الطبقية، وخارج التناقضات والصراعات الاجتماعية (1).

كذلك يكتشف هشام شرابي أنّه أهمل، دون عمد، استعمال مقولات التحليل الطبقي في تصنيف المثقفين العرب والبحث عن مصادر أفكارهم وطبيعة الصراع الذي يخوضونه، فحاول أن يعوّض عن هذا الإهمال في كتاباته اللاحقة (2). ومع أنّ عبد الله العروي عمد إلى استعمال منهج التاريخانية وركّز على الفكر الإيديولوجي بالذات، إلا أنّه هو أيضاً أغفل التحليل الطبقي واقتصر على توضيح مسألة الحداثة والصراع بين الليبرالية والسلفية في إطار اللقاء أو التصادم الذي تمّ بين الثقافة الإسلامية العربية والثقافة الغربية (3) .

وانشغل محمد عابد الجابري كما انشغل غيره بمسألة الاختيار بين النموذج الإسلامي العربي والنموذج الأوروبي، فتوسّع مرّة أخرى في بحث معركة القديم الجديد بمعزل عن الصراع الطبقي (4) .

تعترضنا، أولاً، مهمّة تحديد مصطلح المثقفين أو المفكرين أو الأنتليجنسيا، الأمر الذي كثيراً ما نفترض أنّه شديد الوضوح فلا نشعر حتى بالحاجة إلى تعريفه.

من هم المثقفون؟

هل هم الذين أتمّوا درجة محدّدة من التعليم (وهذا هو العنصر المشترك بينهم)، وأي درجة؟ وتتمّة لهذا التساؤل، هل هم الذين يمارسون مهناً ونشاطات تؤهّلهم لها الاختصاصات التي تعلموها، فنقول أنّهم الأطباء والمحامون والصحافيون والكتّاب وعلماء الدين والإداريون وغيرهم؟

وإذا اتفقنا على هذا التعريف، فلنتساءل معاً حول الفوارق بين هذه المهن على مستويات متنوعة: ما الذي يجمع بين هؤلاء سوى التعليم؟ هل يجمعهم أيضاً الموقع الذي يشغلونه في البنية الطبقية العامة؟ هل يشغلون موقعاً واحداً في هذه البنية الطبقية ؟

هل المثقفون هم الذين يمارسون مهناً ونشاطات تتطلّب مجهوداً عقلياً أكثر ممّا تتطلّب مجهوداً يدوياً؟ في هذه الحال، ما الذي يميّزهم عن الرأسماليين ورجال الأعمال والإقطاعيين والمديرين والحكّام؟ بل ما طبيعة علاقتهم بالطبقات البورجوازية الكبرى والطبقات الكادحة، وما موقعهم في الصراع الطبقي ومواقفهم من القضايا العامة؟ وكيف نقيّم وضعهم حين يجمعون بين ممارسة النشاطات الفكرية والملكية الخاصة؟ ما الذي يجمع بين المفكر الذي يملك والمفكر الذي لا يملك ؟

هل المثقفون هم من يتعاملون بالكلمات، فنميّز حينئذ بين القول والفعل كما ميّزنا بين العمل الفكري والعمل اليدوي، ونصرّح بأنّ المثقفين هم الذين يقولون ولا يفعلون، أو يفعلون ما لا يقولون ويقولون ما لا يفعلون – كما نستنتج من إشارة دوستويفسكي في كتابه “ملاحظات من العالم السفلي” حول الانفصام بين الإنسان الذي يتأمّل والإنسان الذي يفعل، إذ يقول الروائي الروسي: “أقسم، يا سادة، إنّ شدّة الوعي هي مرض… ومن يستطيع أن يفخر بمرضه؟ وفي ما يتعلّق بنا نحن الذين نفكّر وبالتالي لا نفعل شيئاً، فنادراً ما نثق بأنفسنا… هل تعرفون يا سادة؟ ربّما أعتبر نفسي إنساناً ذكياً لسبب واحد فقط، وهو أنّي لم أتمكّن، طوال حياتي، أن أبدأ أو أكمل أي شيء” (5). بل لماذا نلجأ إلى دوستويفسكي حين نعرف أنّ كاتباً عربياً هو سعيد تقي الدين قال إنّ المثقفين هم من نضجوا متى اهترأوا!.

الثقافة والفكر

إذا نحن سلكنا هذا المسلك في تعريف المثقفين، نكون قد أقمنا نظرتنا إليهم على أساس أفكارهم وليس على أساس أفعالهم وأدوارهم الاجتماعية في الصراعات القائمة. وهذا ما يفعله بعضهم فعلاً، فيُشار إلى المثقفين على أنّهم أهل الفكر أو رجال الفكر كما يقال في الغرب. وقد نذهب أبعد من ذلك، فنتساءل عن نوع الأفكار، حينئذ نخوض معركة أخرى من معارك التصنيفات. ونكتشف أن أهل الفكر موزّعون، أو بالأحرى مشتّتون، في حقول واتجاهات ومجالات وأدوار لا تتلاقى إلا في ما ندر .

هل المثقفون هم من يُعنون، في الدرجة الأولى، بوعي المجتمع لذاته، فيبدعون وينشرون المعرفة، بما فيها معرفة الذات والآخر والواقع، كما يُعنون بحاجة المجتمع إلى توضيح هويته ورؤيته، وبتصوراته ورموزه وقيمه ومعتقداته وأخلاقه وأهدافه وأحلامه وطموحاته وتوجهاته ورسالته ومنجزاته؟ هنا أيضاً قد يتفاوت المثقفون في رؤاهم، فينطلق بعضهم من أطر الثقافة السائدة، وبعضهم الآخر من أطر الثقافات الفرعية، ويلتزم آخرون الثقافة المضادة. من هذه الناحية، نجد أنهم لا يقدمون رؤية واحدة متماسكة، بل على العكس من ذلك تماماً، نجد أنّهم ينظرون لجميع الطبقات والجماعات المتصارعة – لليمين والوسط واليسار، للمجتمع البورجوازي والمجتمع الاشتراكي، للحركات السلفية والحركات العلمانية، للمحافظين والليبراليين والتقدّميين، للحرب والسلم أو اللاحرب واللاسلم .

في ضوء هذه التساؤلات، قد نستنتج أنّه من الصعب جداً أن نتوصّل إلى تحديد شامل كامل. ولكن لا بدّ من محاولة .

في رأيي أنّ المثقفين هم الذين يمارسون، في الدرجة الأولى، نشاطات فكرية، فينشغلون بالبحث والإبداع والشرح والتعليم والنشر والتعبير وصياغة الرموز لغايات قصوى تشمل الفهم والمعرفة والوعي والتخطيط والعمل .

إذا قبلنا هذا التحديد مبدئياً وتابعنا نقاشنا، قد نتوصّل إلى نتيجة لا مفرّ منها، هي أنّ المثقفين لا يشكّلون طبقة أو جماعة قائمة في ذاتها، بل شرائح أو مراتب، على صعيد معرفي. هناك، أولاً، المبدعون في العلوم والفلسفة والفنون، يتبعهم الشرّاح والمفسّرون والعاملون في التدريس والنشر. وهناك، ثالثاً، المهنيّون الذين يملكون ويزاولون مهارات واختصاصات تتطلّب معرفة معمّقة وتفكيراً مدقّقاً، مثل الأطباء والمحامين والمهندسين والمديرين الإداريين وغيرهم من المهنيين .

من حيث الأصول، نجد أنّ المثقفين العرب يأتون من مختلف الشرائح والطبقات. لكنّنا نعرف تماماً أنّ التعليم في المجتمع العربي كان، منذ بدايات النهضة حتى الاستقلال على الأقل، شبه مقتصر على أبناء العائلات البورجوازية الكبرى ومنتشراً بين بعض الجماعات أكثر من غيرها. وعلى رغم توافر مجالات التعليم أمام مختلف الطبقات بعد الاستقلال وانتشاره انتشاراً واسعاً أوصَله إلى الفلاحين والبدو والطبقات الشعبية في المدن، ففي إمكاننا أن نصرّ على أن ديمقراطية التعليم ما تزال في أزمة على الصعيدين الكمّي والنوعي .

ومن الملاحظ أيضاً أنّه، بالنسبة إلى المثقفين الذين يعودون إلى أصول طبقية شعبية، غالباً ما تمثّل الثقافة شكلاً من أشكال الاقتلاع، إذ نجدهم يقطعون صلاتهم بطبقاتهم ويندمجون بالطبقات البورجوازية، متنكّرين لأصولهم .

من هنا استنتاجي في دراسة سابقة أنّ الفكر العربي أصبح يقع تحت الاحتلال (6).

نستنتج إذاً، بعد استعراض عدد من الآراء والتعريفات، أنّ المثقفين لا يمكن اعتبارهم جماعة أو فئة قائمة في ذاتها. وما يوصلنا إلى هذا الاستنتاج أنّ الثقافة التي حصلوا عليها وتلك التي يعملون على إبداعها وتفسيرها ونشرها تمنحهم مكانة خاصّة متميّزة، مادياً ومعنوياً، فيحتلّون موقعاً وسطاً في البنية الطبقية الهرمية ويرتبطون بقوى متصارعة. وهم أشدّ ميلاً للارتباط بالطبقات الحاكمة والقوى النافذة في المجتمع. من هنا قول الزميل الطاهر لبيب ” أنّ أغلبية أهل المعرفة مرتبطون، نشوءاً ومصيراً، بتطوّر الطبقات السائدة عبر توظيفهم في تلبية حاجاتها” (7).

لكن هذا الوضع لا يجعل منهم طبقة قائمة في ذاتها. قلنا إنّهم موزّعون بين القوى الطبقية المتصارعة، بحيث ينظرون لجميع الطبقات – لليمين والوسط واليسار، للمجتمع البورجوازي والمجتمع الاشتراكي، للحركات السلفية والحركات العلمانية، للمحافظين والمصلحين والتقدميين. لذلك نستخلص أنّهم، في الواقع، يشكّلون شريحة أو شرائح في الهرم الطبقي. وإذا شئنا أن نكون أكثر دقّة وتحديداً، لقلنا إنّهم شرائح تنتمي موضوعياً إلى الطبقات البورجوازية الحديثة في المجتمع العربي .

Halim Barakat

hhbarakat@verizon.net

 

الهوامش:

1- Albert Hourani, Arabic Thought in the Liberal Ages, 1796-1039, Oxford University Press, 1962. (من الملاحظ أن فهرس هذا الكتاب لا يشير إلى مصطلح “طبقة” أو “طبقات اجتماعية”) .

2- Hisham Sharabi, Arab Intellectuals and the West. The Formative Years, 1875-1914, The John Hopkins Press, 1970

3- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، بيروت، دار الحقيقية، 1970.

4- محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، بيروت، دار الطليعة، 1982.

5- Teudor Dostoyevsky, Notes From Underground, Part 1, Section i, ii and v.

6- حليم بركات، الفكر العربي تحت الاحتلال، النهار العربي والدولي، 25 آذار (مارس) 1978.

 

7- الطاهر لبيب، تساؤلات حول المثقف العربي والسلطة، في المثقف العربي: دوره وعلاقته بالسلطة والمجتمع. المجلس القومي للثقافة العربية، 1985، ص .30 .

 

(ندوة في “مركز الحوار العربي” بواشنطن: “المثقفون العرب: هوية ودور” – 14/11/2007)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى