صفحات سورية

غزّة وواعرباه!

null

حازم صاغيّة

حيال جريمة غزّة ودم أبنائها، يلوح ما هو مسكوتٌ عنه يقارب الفضيحة. فعلى رغم انتهاز الممانعين العرب تلك «الفرصة» لشتم «الصمت العربيّ الرسميّ» و «التواطؤ العربيّ الرسميّ»، يبدو الصمت والتواطؤ من شيم الموقف العربيّ «الشعبيّ» أو «الجماهيريّ» في الدرجة الأولى. فباستثناء ردود فعل اقتصر غالبها على مخيّمات وتجمّعات فلسطينيّة في البلدان العربيّة، لا سيّما لبنان، اكتفى مَن أراد المتابعة و «المشاركة»، في أوساط «الجماهير العربيّة»، بمشاهدة «الجزيرة». وكفى الله المؤمنين القتال.

ومن دون مبالغة، يجوز القول إن المواقف الرسميّة، ولأسباب عدّة ومتفاوتة، كانت أشدّ تعبيراً ومبادرةً من المواقف «الجماهيريّة» التي لا يريد الممانعون أن يسائلوها، ولا أن يعترفوا بدلالات انكفائها وعزوفها. والدلالات تلك كبيرة حقّاً، كافية لإجراء تعديلات نوعيّة في طرائق الفكر السياسيّ العربيّ، أقلّه عند الصادقين ممن يحملونه. والحال أن الظاهرة تلك تتابعت تدرّجاً وتصاعداً منذ الاجتياح الإسرائيليّ لبيروت في 1982، حين لم يتظاهر إلاّ إسرائيليّون، مروراً بحرب تمّوز المرفوعة “نصراً إلهيّاً” يغني أصلاً عن دعم البشر!

فإذا كانت ولادة «الجماهير العربيّة»، بالمعنى الحديث للكلمة، قد ترافقت مع الموضوع الفلسطينيّ، حقّ القول، والحال على ما هي عليه، إن تلك «الجماهير» ماتت بصفتها هذه، في موازاة تحوّل نوعيّ أصاب الموضوع المذكور ويصيبه. حتّى الصيغة القديمة والهلاميّة التي سمحت بإطلاق «الجماهير» وصفاً لكتل عابرة للحدود، لا تتأطّر مهنيّاً أو سلكيّاً، كفّت عن الاشتغال تماماً. فالكتل الشعبيّة اليوم، ما بين «المحيط والخليج»، إما مشغولة بهموم بلدانها واقتصاداتها ومداخيلها، أو مشغولة بمسائلها التجمّعيّة، الطائفيّة والإثنيّة والدينيّة، أو بخلطة من الانشغالين حيث غالباً ما تُرسم لـ «الوطنيّ» سيناريوات على مقاس «التجمّعيّ».

ينطبق ذلك، وهنا تكمن مفارقة المفارقات، على حركات الإسلام السياسيّ ذاتها، والتي يشكّل العنصر الإيديولوجيّ محرّكاً بارزاً من محرّكاتها. فما يُلاحَظ، هنا، أن الحركات تلك لم تعد، بعد انتصار الثورة الإيرانيّة بوصفها البدء والختام في وقت واحد، حركات هيمنة وطنيّة على مجتمعاتها. ذاك أنها، هي الأخرى، غدت حبيسة النسق التجمّعيّ الذي يعكس التفتّت أو يستدعيه، وفي أحسن أحوالها، أسيرة النسق الوطنيّ ظاهراً، التجمّعيّ ضمناً.

وليس من غير دلالة أن أحداثاً ضخمة تُعاش اليوم، من نوع زيارة الرئيس الإيرانيّ أحمدي نجاد العراق، أو ظهور المدمّرة الأميركيّة «كول» في المياه الإقليميّة للبنان، تترجّح بين الخانة الاستراتيجيّة الباردة، المحكومة بصراع الولايات المتّحدة والحلف السوريّ – الإيرانيّ، وبين الاعتبارات الأهليّة للطوائف والجماعات في العراق ولبنان. إلاّ أن الحدثين لا يجدان معادلاً لهما في السياسات المفترضة لـ«الجماهير العربيّة» ولا يتقاطعان معها.

وفي سياق كهذا، كانت حركة «حماس» الوسيط المباشر بين الوجهة تلك وبين الموضوع الفلسطينيّ. فهي أدّت، من خلال أسلمة النزاع ودفعه الى محطّة قصوى في اللاعقلانيّة، الى تعفينه الكامل وتظهيره مادّةً تتضوّر بين أضلاع ثلاثة قاتلة: صبغه بالعبث ووسمه بالإضجار، وتعقيمه من كلّ سياسة مع حصره في الشقّ الإنسانيّ الخالص، وإلحاقه الكامل بالتنازع الأميركيّ مع إيران وسوريّة.

لهذا فإن الدم في غزّة يُهدَر رخيصاً في معركة تُستأنَف بقوّة المكابرة البلهاء. وهذا إذا ما كان يستنفر أقصى الأسى والألم على ضحايا مدنيّين، في عدادهم نسبة مرموقة من الأطفال الذين يقتلهم الإسرائيليّون، فإنه يستنفر أقصى الغضب حيال «حماس» التي تمارس تجاههم ما مارسه الخمينيّ في حربه مع العراق، حين ملأ الأطفال بالقنابل ودفع بهم الى الموت. أما الذين يستغلّون كلّ هذا الدم لترداد الكلام السمج والكسول إيّاه، وإطلاق صرخات «واعرباه»، فإما أنهم يكذبون على أنفسهم، وهي سذاجة مكلفة، أو يكذبون علينا خدمةً لخطط طهران ودمشق، وهي جريمة.

الحياة – 04/03/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى