صفحات العالمقضية فلسطين

تقرير غولدستون… حبذا لو كان الأمر مجرد خيانة!

نهلة الشهال
خلال عشرة أيام، منذ أعلن قرار تأجيل التصويت على تقرير غولدستون في مجلس حقوق الإنسان في جنيف، وظهور ردود الفعل الشاملة الغاضبة من التأجيل ومن ملابساته الغامضة، قدمت السلطة الفلسطينية عرضاً في السلوك السياسي، مدهشاً حقاً.
فقد أدارت بتشاطر رث قرارها طلب تأجيل التصويت. فنفت مسؤوليتها بداية، ثم تقاذف كبارها التلميحات إلى براءة واحدهم وجرم الآخر، وحدث هرج ومرج كبيرين داخل فتح، وهي – حتى الآن – حاضنة السلطة، وأعلنت جهة ما إنشاء لجنة تحقيق بينما انتقدت جهة أخرى الوجهة، واستقال بعض أعضاء اللجنة المزعومة أو نفوا معرفتهم بقيامها. وأخيراً، خرجت أوزان ثقيلة في السلطة، كعريقات وعبد ربه، تقر بوقوع خطأ. وكنوع من التعويض عن الغلطة التي اقترفت في جنيف، اتخذت السلطة قراراً جديداً بعرض التقرير على مجلس الأمن، وطلبت من ليبيا، وهي حالياً عضو فيه، أن تستعجل الموعد وأن تحصل على علنية الجلسة، وطلبت من رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة الجديد، وهو ليبي أيضاً، بحث عرضه هناك! ومن غير الشاق تصور الهجوم الذي سيتعرض له تقرير غولدستون في مجلس الأمن، وقد حُرم من غطاء اعتماده من قبل مجلس حقوق الإنسان في جنيف، وهو اعتماد – لو حصل – لكان محرجاً لنقاشات المجلس. ولعل تلك الحصيلة المتوقعة ستريح السلطة، إذ تبرهن على عقم القرار الذي كان مأمولاً اتخاذه في جنيف، فيظهر حينها أن الخسارة المزعومة ليست خسارة في الحقيقة، وأن السلطة قد «لعبتها بحكمة»، أو شيء من هذا القبيل، فسلّفت واشنطن وتل أبيب، ويمكنها طلب المقابل. وهذا الاستشراف للكيفية التي ستأوِّل بها السلطة محصلة المعركة حول تقرير غولدستون، يستمد عناصره من قراءة التقافز السائد لديها مذّاك، ولعله يحسن الظن بها إذ يبحث عن معنى وغائية لسلوكها!
ولا يكتمل المشهد من دون حماس، السلطة المقابلة أو الموازية في غزة، والتنظيم الذي ينافس فتح على السطوة. فهذه كالت كل أنواع الشتائم لريتشارد غولدستون ولجنته، أثناء إجرائهم تقصي حقائق ما جرى في غزة. بدأت حماس بالتبرم من «يهودية» القاضي الدولي التي ستمنعه (حتماً!) من اتخاذ موقف موضوعي. وهو تقدير يشي بالمفهوم الذي ما زال يتبناه هذا التنظيم، وكل بيئته الفكرية، عن العالم وعن المسألة الفلسطينية نفسها، من السهل نعته بالتخلف والتسطيح، ولكن الأهم هو إدراك مدى فواته السياسي، وعجزه بالتالي عن توفير الحد الأدنى من الأساس المطلوب لقيادة المسألة الفلسطينية. ثم انتقلت حماس إلى التبرم من إدانة التقرير الدولي لإطلاقها الصواريخ على مواقع مدنية إسرائيلية، معتبرة أن في ذلك «مساواة بين الجلاد والضحية»، مما يشي هنا أيضاً بعجزها عن فهم الآليات الحاكمة لمثل هذه اللجان، التي تنطلق من الوقائع وليس من التحليلات. وأخيراً، اعتبرت أن نتائج التقرير تضيّع مسؤولية إسرائيل…وهكذا إلى أن اتخذت السلطة ذلك الموقف البشع في جنيف، فاستفاقت حماس، وصارت «غولدستونية»، تتفجع على الفرصة المضيعة، وتتفنن في العقوبات التي ينبغي إنزالها بالسلطة. فمن دعوتها للاستقالة، إلى القول بسحب الجنسية الفلسطينية من عباس، إلى رمي صوره التي ألصقتها على جدران غزة بالأحذية…وهذا غيض من فيض. فقدمت هي الأخرى عرضاً في السلوك السياسي لا يقل إدهاشاً عما فعلته السلطة، يُبرز أن همّ حماس الرئيسي هو هذه الأخيرة، وأنها تعوض بالهجوم عليها ونقدها، غياب امتلاكها لتصور سياسي خاص بها حول كيفية قيادة المسألة الفلسطينية، إذ لا يشكل الاقتصار على «لا» لهذه وتلك من مواقف السلطة برنامجاً، فلا هو تكتيك ولا استراتيجيا، ولا هو تشكيل لوعي نقيض، وذلك بغض النظر عن صواب هذه الـ «لا» – وهو صواب قائم غالباً – ولكنه في هذه الحالة يصبح لفظياً عقيماً وغير بنّاء، بل ومدعاة ليأس للفلسطينيين الذين يواجهون آلة ساحقة، عالية الكفاءة والتصميم. ثم أن مسلك حماس ذاك يقدم، من غير أن يدري أو يقصد، تبريراً لخيارات السلطة التي تبدو حينها «واقعية» ومسؤولة، وأفضل الممكن. كذلك يشي هذا المسلك بغياب امتلاك حماس لتصور حول مستلزمات الوضع الداخلي الفلسطيني اليوم، والذي لن يستقيم بالطبع بمجرد استبدال فتح بحماس، وهو استبدال مستحيل أصلاً، لأنه يستند إلى تصور إقصائي، يتنافس على كل حال التنظيمان في الإمعان فيه.
فالوضع الفلسطيني، ببنديه، الأول المتعلق بكيفية قيادة المسألة الفلسطينية سياسياً اليوم، والثاني المتعلق بالوضع الذاتي، ببناء مقترح للوحدة الوطنية، يفترض التوافق على برنامج حد أدنى يستند إلى الهدف المقبل. ولعله سيمكن لحماس «تخوين» السلطة متى ما تم تعيين الهدف المذكور، إذ من المرجح أن هذه الأخيرة قد أصبحت حقاً في مكان آخر. فهي اليوم تهجس بكيفية إتقان متطلبات اعتمادها كوسيط لإسرائيل في المحيط العربي، على كثرة الوسطاء المترشحين، وهو ما يضعها في تنافس معهم! وبالتوازي مع ذلك، بل وقبله، وكشرط له، تهجس السلطة بكيفية إتقان متطلبات اعتمادها كوكيل محلي عن إسرائيل، شيء يشبه لجان القرى القديمة لصاحبها الجعبري، الذي لو قام من قبره اليوم، لوجد السلطة قد تمادت وتجاوزته…وبالطبع، فإن الموقع والدور اللذين تأمل السلطة بالبرهان عن جدارتها بحيازتهما، هما صيغة إسرائيلية – اميركية مطورة، ومبتكرة وفق معطيات عصرية. ولكنها، رغم وظيفتها تلك، المتمثلة في التناغم مع غاية «إدارة الصراع» وليس حله – على ما باتت تعلن بوضوح الاستراتيجيا الإسرائيلية، ومعها، وإن بخفر وفصاحة أقل، تلك العالمية المستمرة بالكلام عن «العملية السلمية» – قد لا تتحقق لأسباب عديدة، على رأسها الممانعة الفلسطينية وإن العشوائية، كما اصطدامها بتناقضات لا حل لها تحكم البنية الصهيونية…ولكن ذلك شأن آخر.
والمقصـود، أن الأهم من نعت حادثة طلب تأجيل التصويت على تقرير غولدستون في مجلس حقوق الإنسان في جنيف بـ «الخيانة»، هو الإقرار بأن هناك بنية كاملة استقرت رويداً، وبلورت رويداً سماتها وخصائصها، ونسجت علاقاتها ومصالحها، وتسللت إلى حياة عموم الناس، وتحكمت بها بفعالية بفضل امتلاكها للسلطة والمال، ولغياب بدائلها، ولعنف الواقع الاحتلالي الإسرائيلي، وللاختلال في التوازن بين طرفي الصراع على كل الأصعدة، بما فيها الصعيد الإقليمي والعالمي. فحبذا لو كان الأمر مجرد خيانة..
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى