صفحات سوريةمحمد سيد رصاص

نــمــوذج “الدولة الفاشلة”

null


محمد سيد رصاص

ترك الإستعمار الإنكليزي مشاكل متفجرة في مناطق محددة من العالم بعد رحيله عنها، مثل مشكلة كشمير بين الهند وباكستان بعد تقسيم شبه القارة الهندية عام 1947. إلا أن ذلك لم يقتصر على المحيط الإقليمي لبلدان معينة، وإنما امتد إلى صعيد البنى الداخلية لبعض المستعمرات البريطانية السابقة، التي حوت ألغاماً انفجرت لاحقاً، إما بفعل سياسات مخططة ومدروسة في لندن، أو بفعل آليات عملية نزع الإستعمار عن البلد المعني والقوى المساهمة في ذلك آنذاك.

حصل هذا في ثمانينات القرن الماضي في سيريلانكا، لما انفجرت مشكلة الأقلية التاميلية (20%من السكان) في الشمال والشمال الشرقي من الجزيرة، بعد تهميش لها مارسته الأكثرية السينهالية (72%، غالبيتهم العظمى من البوذيين، فيما التاميل، المجلوبون في زمن الإستعمار لمزارع الشاي من اقليم تاميل نادو الهندي الجنوبي، يعتنقون الهندوسية) بعد أن كان التاميل الأكثر تعليماً، والأكثر حظوة، والمسيطرين على المناصب الإدارية في زمن الإنكليز حتى استقلال عام1948.

أيضاً، حصل هذا في جزيرة فيجي بالمحيط الهادئ بعد استقلال عام1970، عندما انفجرت اضطرابات سياسية، وحركات تمرد عسكرية أتت من فئة السكان البولينيزيين الأصليين (42%من السكان) ضد المنحدرين من شبه القارة الهندية (50%)، الآتين للجزيرة في زمن حكم لندن والمتولين للمناصب الادارية الكبرى والأكثر تعليماً في فترتي ما قبل الاستقلال وما بعده. وهو شيء رأيناه اخيراً في كينيا ضد قبيلة كيكويو (22%من السكان)، القاطنة في السهول الوسطى الخصبة، التي سيطرت على السلطة السياسية منذ استقلال 1963، بعد أن قادت تمرد “الماو الماو” بقيادة جومو كينياتا عام 1958 ضد الإنكليز، لتترجم سيطرتها السياسية إلى ميادين الإقتصاد والإدارة والاجتماع طوال خمسة وأربعين عاماً حتى لاح تهديد زعيم سياسي جديد من قبيلة أخرى (الليوس، 13%) تسكن بالغرب دل الكثير من المؤشرات على فوزه بالانتخابات الرئاسية نهاية العام الماضي ضد الرئيس المنحدر من الكيكويو.

يلاحظ في هذه الحالات الثلاث، أن الإنفجار يحصل ضد تمييز فئوي، موروث من الإنكليز (فيجي)، أو يتمرد على تمييز فئوي ضد الأقلية (سيريلانكا)، أو يحصل ضد الأوضاع القائمة الحاصلة بحكم آليات عملية الإستقلال والحقائق السياسية المتولدة عنها (كينيا). هنا، يلمس وجود كتل إثنية (قبلية في كينيا، قومية كما في حالة فيجي، وقومية – دينية مثل الحالة الموجودة في سيريلانكا وهو ما يشمل المسلمين أيضاً المنحدرين من اليمن وإندونيسيا وماليزيا ويسمون بـ”المور”، فيما لاينطبق ذلك على المسيحيين، 7%، ومعظمهم من أصول سينهالية). في الحالات المذكورة، يوجد حالة من اللااندماج المجتمعي، في ظل تمييز سياسي، واستئثار بالمناصب والتعيينات، يؤدي إلى اضطهاد وتهميش يشمل الاقتصاد والإدارة، وإلى حد”ما” الثقافة.

لا تقتصر الأمور على ذلك، وإنما تمتد إلى تمييز مناطقي – جهوي: فتلك الإثنيات التي تحوي ملامح قومية، أو قومية – دينية، أو قبلية، تعيش في مناطق منفصلة، وإن يحصل اختلاط، غالباً في العاصمة، فإن ذلك يتم عبر ضواحٍ ومدن صفيح (نيروبي، حيث يعيش النازحون من غير الكيكويو إليها، الآتون من الغرب والشرق، في الضواحي الفقيرة للعاصمة الكينية)، فيمانرى في سيريلانكا أن الإختلاط السكاني هو في حدوده الدنيا بالعاصمة كولومبو بينما تبقى مدن، مثل جافنا في الرأس البحري الشمالي، وترينكومالي في الشمال الشرقي، مدن تاميلية السكان بغالبيتها الكاسحة.

يجتمع في الإضطراب السياسي، هنا، عوامل ناتجة عن التمييز السياسي – الاقتصادي – الاجتماعي – الإداري – الثقافي – المناطقي، غالباً مايأخذ أشكالاً متحدِدة بعناوين قومية، قومية -دينية، قبلية، تكون مظاهر للصراع، إلا أن مضامينه تبقى في تلك الأوجه المتعددة للتمييز الذي تمارسه الفئة الحاكمة ضد”الآخرين“.

في كينيا، أخذ ذلك شكل احتجاج سياسي عنيف بالشارع، وصل إلى حدود مذابح وصدامات قبلية بالعاصمة وغيرها وصلت لحدود عمليات تهجير، ضد النتائج الرسمية المعلنة للانتخابات الرئاسية، كان فيها الانقسام في أصوات المقترعين ذا طابع قبلي- جهوي، فيما يأخذ في سيريلانكا منذ 1983 شكل تمرد مسلح عنيف في منطقتي الشمال والساحل الشمالي الشرقي، بينما تمظهر في فيجي عبر حركات تمرد عسكري ومحاولات وعمليات انقلاب عسكري، قام بها ضباط وجنود من البولينيزيين ضد رئيس الوزراء المعتمد على غالبية برلمانية وإدارة يسودها الهنود، بدأت سلسلتها الطويلة منذ 1987.

لم يؤدّ ذلك، في البلاد المذكورة، إلى حركات سياسية عابرة لتلك التحديدات الاجتماعية، لينتظم الإجتماع السياسي فيها على ذلك الأساس، باستثناء تجربة الماركسيين السيريلانكيين، بفصيليهما أي الحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي ذي الميول التروتسكية، فيما كان الحزبان الرئيسان، أي حزب الحرية بزعامة باندرانايكا (وقبلها زوجها المغتال في عام1959) والحزب الوطني المتحد، يعتمدان على قاعدة احتماعية سينهالية أساساً وأيضاً على المسلمين القاطنين في الجنوب والشرق وبعض مدن الشمال الشرقي (7%من السكان)، فيما نرى ذلك أكثر وضوحاً واتساعاً في تجربتي فيجي وكينيا.

هنا، كانت الهند مثالاً معاكساً، لم تهزه اضطرابات الثمانينات بين الحكومة والسيخ والتي أدت لإغتيال رئيسة الوزراء أنديرا غاندي في 1984، ولا حادث تفجير المسجد البابري من قبل المتطرفين الهندوس في 1992 والصعود اللاحق للحزب الأصولي الهنوسي (بهاراتيا جاناتا) الى السلطة البرلمانية في نيودلهي: هل كانت، هنا، الديموقراطية البرلمانية، المعتمدة على تشاركات اقتصادية – اجتماعية بالترافق مع المساواة في تعيينات الإدارة، ترياقاً منع سموم “الدولة الفاشلة” من الوصول بتجربة نهرو إلى ما وصلت إليه تجربة جومو كينياتا، وما توحي به التطورات الأخيرة من اقتراب تجربة محمد علي جناح في باكستان من النموذج الكيني؟

(كاتب سوري)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى