صفحات ثقافية

مصطفى عبّاس: الأميركيون أطلقوني مقابل عزفي و«فرق» الموت كادت تقتلني

null
صوت الكمان أنعش ذاكرة المايسترو العراقي فروى لـ«الحياة» قصة خطفه واعتقاله وعمله حمّالاً …
السليمانية – مشرق عباس
يرفع يديه متثاقلاً ليأذن بانطلاق فالس تشايكوفسكي.  تنهمر الموسيقى. العصا الصغيرة في يده ترتجف. حين يعلو صوت الكمانات تنتعش ذاكرته المثقلة.
مصطفى عباس عازف التشيلو الذي فقد قدرته على العزف بسبب التعذيب، خلال رحلة خطف استمرت تسعة شهور في بغداد، صار قائد أوركسترا صغيرة في السليمانية، لكنه قبل عودته إلى عالم الموسيقى عمل حمّالاً  وبائع خضار وسائقاً، وأصبح عاطلاً عن العمل غير قادر على سداد إيجار غرفة تؤويه وعائلته.
حولت الحرب الطائفية في العراق الفنانين إلى هدف «حلال» لانتقام المتطرفين، واختار معظم المطربين والموسيقيين والممثلين الرحيل الى سورية والاردن ومصر، فيما فضل آخرون الاعتزال او الاختباء في منازلهم خشية ان يلاقوا مصير مصطفى عباس.
لا يحسب عباس نفسه استثناء في العراق فقد سمح له جلادوه الذين ارتدوا الزي العسكري الرسمي وحملوا بطاقات الشرطة واسلحتها بالخروج حياً بعد تسعة اشهر من التعذيب، فيما كان رفاق القبو (الزنزانة) يقتلون تباعا.
يحيى المايسترو الشاب جمهوره الصغير الذي تجمع في قاعة مركز الفنون في السليمانية، بعد الاستماع الى معزوفتي رباعي هايدن ورباعي موزار. وكان التصفيق الحاد يذكر «عازف التشيلو السابق بشهور التعذيب التي  شوهت معصم يده وسببت كسوراً دائمة في قدمه وتحطماً في ضلعين، وانزلاقاً غضروفياً في احدى الفقرات القطنية.
يقول عباس:»اشتبه الجنود الأميركيون بآلة التشيلو فاعتقلوني نهاية عام 2004 من دون تهمة محددة لمدة شهرين في معسكر الرستمية، جنوب بغداد، وقبل رأس السنة عقد الضابط المسؤول عن المعسكر صفقة معي: عزفت لهم  مقابل الإفراج عني».
ويتابع: «لم يكد الأميركيون يدفعونني إلى الشارع في حي علاوي، حتى تلقفني مسلحون عراقيون بالزي العسكري. حشروني في سيارتهم لأجد نفسي في غرفة تحت الارض فيها 17 شخصاً. عرفت لاحقا انها كانت مركزاً لمنظمة مختصة برعاية الطفولة قرب كورنيش الأعظمية اسمها «دار الأب الحنون لرعاية الاطفال»، استخدمتها فرق الموت التي كانت تخترق الشرطة العراقية آنذاك مقراً لها».
المفارقة، على ما يقول عباس، إن الدار كانت بالفعل تستقبل اطفالاً ايتاماً كل صباح: «نسمع ضحكاتهم وتصفيقهم وربما كانوا يستخدمون لتمويه النشاطات التي تجري في القبو».
لمدة تسعة شهور كان يعلق في سقف الغرفة من مرفقيه المربوطين الى الخلف، وينهال عليه خاطفوه بالهراوات ثم يعلقونه على باب غرفة التعذيب ليجلبوا معتقلاً آخر مكانه. يقول: «لم اعرف انني شيعي او سني الا في المعتقل. واخبرني زملائي وجميعهم من السنة انني من عائلة الوائلي الشيعية وان عليّ ان ابلغ خاطفي بذلك فربما يطلقون سراحي. لكن المحقق الذي استمع الي بإصغاء حين اخبرته اني شيعي وانهم مشتبهون بي قال لي ضاحكا انت دنبكجي (قارع طبل) ولا يشرف الشيعة ان تكون منهم».
كان على اوركسترا السليمانية ان تختم حفلها بمعزوفة كردية تراثية بتوزيع جديد ثم برباعي فورجاك، قبل ان يبدأ الشاب النحيل رواية حكايته ويقول: «دفعت عائلتي 20 الف دولار لإطلاقي عبر قاضي تحقيق رسمي هذه المرة والقاضي كان يعرف الحكاية وكان دوره شكليا. لكن الإفراج عني نهاية عام 2005 اعقبه بقائي في المستشفى ثلاثة شهور، ولم تنته القضية، إذ كان الإفراج مشروطاً بتوقفي عن العزف. واقتحمت الشرطة منزلي ثلاث مرات عام 2006 لتكسير آلاتي الموسيقية، ومنها معشوقتي التشيلو، وكانت الشرطة تتأكد من انني لن أعزف ولتسلم مبالغ مالية جديدة مقابل عدم اعتقالي او قتلي».
مطاردة «فرق الموت» لـ «الوائلي»، فتحت شهية ميليشيات محلية في حي الامين وسط بغداد للاقتصاص من «الدنبكجي الكافر»، كما لقبوه. ولم تمض ايام حتى اطلقوا الرصاص على منزله، مطالبين العائلة كلها بالمغادرة.
فراره بعائلته المكونة من أم وشقيقة وشقيق الى السليمانية، اضطره  إلى العمل حمّالاً في مجمع لبيع الخضراوات، قبل ان يصبح بائع خضار ثم سائقاً  لنقل المواد الغذائية. لكن الحظ خدمه قبل ثلاثة شهور فقط عندما وافق معهد الفنون في السليمانية على تعيينه استاذا للموسيقي ثم قائدا للاوركسترا الصغيرة التي تحاول المدينة من خلالها التميّز عن مدن العراق الاخرى التي هجرت من سنوات أي اهتمام بالفنون.
اخبار زملائه وطلابه في معهد الدراسات الموسيقية في بغداد تصله تباعاً، لكنه يقول إن حزنه على عازف العود الشاب مهند عبدالرزاق الذي قتل نهاية عام 2007، يدفعه الى عدم التفكير بالعودة إلى العاصمة. وسيكتفي بعمله الحالي وتأليف موسيقى تصويرية لعدد من المسلسلات العراقية.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى