صبحي حديديصفحات سورية

النظام السوري بين غارة وأخرى: العجائب الخمس

  صبحي حديدي

هنا عناوين شاهدة على عجائب الحال التي يعيشها النظام السوري راهناً، ليست سوى غيض من فيض كما تقول تفاصيل المشهد الشامل العريض، كما أنها ـ في جانب آخر جدلي يعبّر عن نقض النقيض ـ ليست بعيدة عن أن تكون أقصى الفيض حيث لا غيض بعدها ولا زيادة أو استزادة:

ـ قاذفات إسرائيلية تخترق حرمة الأجواء السورية من جهة الساحل السوري، بعد أن تخترق جدار الصوت على هواها، لتبلغ أهدافاً حيوية في العمق السوري (مساحات واسعة من المنطقة الشرقية ـ الشمالية، من بادية دير الزور إلى تخوم المثلث السوري ـ العراقي ـ التركي، مروراً بمطارَين عسكريين في الأقلّ)، وتعود أدراجها سالمة مطمئنة. السلطات الإسرائيلية تلتزم الصمت المطبق، وأوّل الخيط يأتي من تصريح سوري رسمي ـ على غير العادة، ولكن ليس دون التزام بالحاشية التقليدية حول حقّ الردّ في الزمان المناسب! ـ يعلن وقوع الغارة ولكنه لا يحدّد أين وقعت، وماذا استهدفت، وكيف انتهت. باب التكهنات يُفتح على مصراعيه، وتتكاثر الروايات وتتضارب، ويتّسع الخيال وتتوسع الأقوال… وما تزال!

ـ قبل الغارة، كان فاروق الشرع، نائب الرئيس السوري، قد شنّ غارة لفظية مفاجئة على الملكة العربية السعودية، لم تدهش جميع الصحافيين الحاضرين فحسب، بل باغتت حفنة من الصحافيين السوريين المرتبطين مباشرة بالأجهزة السياسية والأمنية للنظام. صحيح أنّ هذه العلاقات شهدت، منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في شباط (فبراير) 2005 وانسحاب القوات السورية من لبنان في نيسان (أبريل) من السنة ذاتها، الكثير من المدّ والجزر والبرود والدفء، حول ثلاث ملفات إقليمية كبرى هي لبنان وفلسطين والعراق. وصحيح، كذلك، أنّ التدهور بلغ مستوى الشتائم (على لسان بشار الأسد نفسه، حين أطلق على بعض الزعامات العربية، وبينهم ضمناً ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز والرئيس المصري حسني مبارك، صفة “أشباه الرجال”، بسبب موقفهم من “حزب الله” والعدوان الإسرائيلي على لبنان صيف العام الماضي).

ولكن الصحيح، أيضاً وقبلئذ، أنّ الرياض ظلت حريصة على مستوى من العلاقة مع دمشق لم يهبط عن الحدّ الأدنى، ولكنه بلغ ذات يوم درجة ضمان السلوك المستقبلي للنظام السوري أمام واشنطن وباريس في أعقاب التقرير الأوّل للمحقق الدولي في اغتيال الحريري، ديتليف ميليس، حين بدا أنّ الضغط الأمريكي ـ الفرنسي على النظام السوري سوف يبلغ مدى غير مسبوق. بالطبع، فوجيء النظام بردّ الفعل السعودي العنيف، الذي بدأ على لسان مصدر رسمي، ثمّ تحوّل إلى حملة إعلامية منظمة نفّذتها وسائل الإعلام السعودية الخاصة، وشبه الحكومية، وبالتالي كان الأوان قد فات على أيّ ترقيع سوريالي للواقعة، من نوع تعرّض أقوال النائب الغاضب إلى تحريف أو تحوير.

ـ قبل الغارتين، كان محي الدين حلاق، القاضي في محكمة الجنايات الأولى في دمشق، قد أغار على المواطن السوري فائق علي أسعد المير (أبو علي)، العضو القيادي في “حزب الشعب الديمقراطي السوري”، حيث تمّ توجيه الإتهامات إليه إستناداً إلى المادة 264 من قانون العقوبات السوري (تنص على ما يلي: 1، كلّ سوري دسّ الدسائس لدى دولة أجنبية أو اتصل بها ليدفعها إلى مباشرة العدوان على سورية أو ليوفر لها الوسائل إلى ذلك، عوقب بالإشغال الشاقة المؤبدة؛ و2، إذا أفضى فعله إلى نتيجة، عوقب بالإعدام)؛ والمادة 285 (تنص على التالي: مَنْ قام في سورية، في زمن الحرب أو عند توقع نشوبها، بدعاوة ترمي إلى إضعاف الشعور القومي أو إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية، عوقب بالإعتقال المؤقت)؛ والماد ة286 (التي تقول: يستحق العقوبة نفسها من نقل في سورية، في الأحوال عينها، أنباء يعرف أنها كاذبة أو مبالغ فيها من شأنها أن توهن نفسية الأمة). وكان المير قد اعتُقل على يد فرع أمن الدولة في طرطوس بتاريخ 13/12/2006، بعد اعتقال سابق دام عشر سنوات، 1989 ـ 1999. وأمّا الفعل الذي استحقّ عليه الإتهام بكلّ هذه الجنايات الكبرى، فهو الإتصال مع الياس عطا الله، النائب في البرلمان اللبناني وأمين سرّ “حركة اليسار الديمقراطي” اللبنانية!

العجائبي، السوريالي أكثر، أنّ قاضي الإحالة في دمشق، نوري المسرب، كان قد أنس في نفسه مقداراً من الحياء يكفي لكي يُسقط عن المير الجناية الرهيبة المنصوص عنها في المادة 263: 1) كلّ سوري حمل السلاح على سورية في صفوف العدو عوقب بالإعدام؛ و2) كلّ سوري، وإن لم ينتم إلى جيش معاد، أقدم في زمن الحرب على أعمال عدوان ضدّ سورية عوقب بالأشغال الشاقة المؤبدة؛ و3) كلّ سوري تجند بأية صفة كانت في جيش معاد ولم ينفصل عنه قبل أي عمل عدواني ضدّ سورية، عوقب بالأشغال الشاقة المؤقتة، وإن يكن قد اكتسب بتجنيده الجنسية الأجنبية!

ـ الغارة الرابعة شنّها اللواء علي مملوك، مدير إدارة المخابرات العامة (أمن الدولة، في التسمية السورية الشائعة)، ضدّ رياض سيف، الشخصية الديمقراطية المعروفة وعضو مجلس الشعب السابق الذي اعتُقل في نيسان 2002 ضمن حملات وأد ما عُرف بـ “ربيع دمشق”، وأطلق سراحه أوائل العام الماضي. وكانت سلطات النظام الأمنية قد منعت سيف من السفر للعلاج من سرطان متقدّم في البروستات (هو، كذلك، يعاني من انسداد تامّ في الشريان الأمامي النازل)، لكنّ إغارة اللواء مملوك العجائبية السوريالية تمثّلت في عرض المقايضة التالية على سيف: يُسمح له بالسفر، بشرط أوّل هو العودة فور انتهاء العلاج، وعدم المشاركة في أيّ نشاط سياسي، والامتناع عن لقاء أية شخصية سورية معارضة، أو أية شخصية أجنبية؛ والشرط الثاني هو أن يدين، مسبقاً وقبل السفر، كلّ التصريحات التي صدرت خارج سورية وتضمنت الدفاع عن حقّه في السفر، وأن يرفضها، ويعتبرها تدخلاً سافراً في شؤون سورية الداخلية!

ـ ولا يكتمل المشهد إلا بعجيبة رئاسية حديثة العهد صدرت عن بشار الأسد شخصياً، في حديث مع كاتي كوريك، المذيعة في قناة CBS الأمريكية، تصادف أنه جرى يوم الغارة الإسرائيلية بالضبط: 6 ايلول (سبتمبر) الجاري! والعجيبة الرئاسية هذه ليست جديدة إلا في بعدها الزمني والنصّي، لأنها تكرّر نسقاً صار مالوفاً الآن: لجوء وكالة الأنباء السورية (سانا)، بتوجيهات رئاسية مباشرة أو عبر أهل النفوذ ممّن لهم على الرئاسة “موانة” كافية، بتعديل النصّ العربي الرسمي لأحاديث صحفية يدلي بها الأسد باللغة الإنكليزية.

وهكذا، مثلاً، يطلق الأسد صفة “الإرهابيين” Terrorists على الذين تقول التقارير الأمريكية إنهم يدخلون عبر الحدود السورية ويمارسون أعمال العنف المختلفة هناك، وأمّا في النصّ العربي فإنهم مجرّد “أشخاص”… فقط! (في وسع المرء أن يزور موقع القناة على الإنترنيت، ويستمع على حديث الأسد بصوته). المثال الثاني معاكس للأوّل، لأننا نقرأ في العربية نصّاً عاطفياً مشبوباً عن آلام العراقيين (يقول الأسد: “لقد قُتل أكثر من مليون عراقى حتى الآن. وماذا عن اليتامى والأرامل وأولئك الذين قطعت أيديهم وأرجلهم. هناك الملايين من هؤلاء. ما الذى تحسن. علينا أن نكون واقعيين. ينبغى أن نتحدث عن النتائج ولا نتحدث عن الاجتماعات التى تلتقط فيها الصور التذكارية”)، لكننا في المقابل الإنكليزي، نصّاً وصوتاً وصورة، لا نعثر البتة على أية مفردة تمتّ بصلة إلى الفقرة السابقة!

وفي أواخر العام 2003 أدلى الأسد بحديث إلى صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، يظلّ في تقديرنا الأكثر كشفاً ـ حتى إشعار آخر، بالطبع ـ عن الذهنية العامّة التي تحكم شخصيته وتقود أقواله وأفعاله وسلوكه إجمالاً. وهنا أرقام مفيدة عن ذلك الحديث: النصّ الإنكليزي، كما نشرته «نيويورك تايمز» في موقعها على الإنترنيت، بلغ قرابة 11.280 كلمة؛ ونصّ الحديث ذاته، كما نشرته “الشرق الاوسط” اللندنية، باتفاق مع الصجيفة الأمريكية، بلغ 7.667 كلمة؛ أمّا النصّ الرسمي الذي نشرته “سانا” فقد كان 5,500 كلمة؛ ومن غير المعقول أن يبلغ فارق الترجمة العربية بين “سانا” والشرق الاوسط” أكثر من 2,000 كلمة.

ثمة، بالتالي، كلّ المبررات لافتراض حدوث سلسلة من عمليات الحذف والتعديل والتهذيب والتشذيب، لكي لا نقول المراقبة والغربلة، على الحديث بعد تسجيله، خصوصاً وانّ الفقرات الغائبة” ساخنة” فعلاً، وليست من طراز الكلام الذي يمكن أن تتسامح الرئاسة في حذفه من وسائل إعلام النظام ذاتها. على سبيل المثال، الذي يربط سنة 2003 بالحاضر، طرح الصحافي الأمريكي السؤال التالي: «النقطة التي كنتُ أحاول إثارتها هي أنّ المواطنين في بلدان أخرى يأملون في أنّ ما سيجري في العراق يمكن أن يؤثّر نوعاً ما على حياتهم. السوريون، مثلاً، يريدون مزيداً من الحرّية. هل تعتقد أنه لو قرنت الولايات المتحدة الأقوال بالأفعال، فإنها ستمارس عليكم الضغط لكي تكونوا أكثر انفتاحاً وإصلاحاً هنا»؟ والجواب الرئاسي سار هكذا: «دعني أعرض لك رأي المعارضة السورية الموجودة أينما كان، سواء داخل سورية أو خارجها. إنهم لا يؤيدون النظام، ولا الدستور، ولا الحكومة، ولكنهم ضدّ ما يقوله الأمريكيون عن جلب الديمقراطية إلى العراق. أقصد أنهم ضدّ تصدير الديمقراطية بالقوّة أو بأية وسيلة أخرى. هذا هو رأيهم؛ إنه واضح تماماً وتستطيع أن تراه على التلفزة، أو في الصحف، الخ. تستطيع أن تسألهم».

ألا يبدو هذا التصريح سوريالياً، في ضوء ما يتعرّض له اليوم معارضان بارزان مثل فائق المير ورياض سيف، من اتهامات قضائية باطلة مضحكة بذيئة، أو منع من السفر للعلاج من السرطان، وهما حتماً يندرجان في الصنف الذي يمتدح الأسد موقفه الرافض للتدخّل الخارجي؟ أهو جزاء هذا الطراز من المعارضة؟ ثمّ لماذا حجب إعلام الأسد هذه الفقرة عن أبناء الشعب السوري، فحذفها من الترجمة العربية الرسمية؟ أهو قاصر، هذا الشعب البائس، حتى تُمنع عنه حقائق بسيطة تتعلّق بمعارضته، ويقرّ بها الأسد نفسه للإعلام الأمريكي؟

وفي جانب نراه اليوم يعود إلى الإستهلاك اليومي في إعلام النظام وفي الخطاب الرئاسي، أي مكافحة الفساد، سأل الصحافي الأمريكي عن فساد الذين «من حول» الرئيس، فردّ الأسد بسؤال مضادّ: «لماذا من حولي؟ ماذا تقصد بعبارة من حولي»؟ ولم يتردد الأمريكي بالطبع، فأشار بالاسم إلى ابن خال الرئيس، رجل الأعمال الشهير وصاحب عقد الهاتف الخليوي، وتابع بأنّ «اللائحة طويلة». الرئاسة، آنذاك، ردّت هكذا: «إنه سوري مثل أيّ سوري، وسواء أكان ابن خالي، أم أخي، أم صديقي، أم أيّ شخص آخر، هنالك قانون سوري». ومع ذلك، فإنّ معرفة الأسد بأنّ سورية باتت بالفعل مزرعة في قبضة نظام عائلي تنتظم فيه ومن حوله مافيات النهب والفساد، هي التي دفعته إلى حذف هذه المفردة بالذات: المزرعة. ففي النصّ الإنكليزي قال الأسد: «هذه ليست مزرعة. هذه دولة. ولا تستطيع تبسيط الأمر كثيراً». وأمّا في النصّ العربي فإنه يهذّب الجملة: «نحن نتحدث عن دولة. لا يمكنك أن تجعل الأمور بهذه البساطة»!

وغنيّ عن القول إنّ العجيبة الخامسة هذه استحقت وقفة أطول وأكثر ربطاً بالماضي القريب، ليس لأنها رئاسية بامتياز طاغٍ فحسب، بل لأنها أيضاً تستحقّ صفة أمّ العجائب!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى