صفحات الناسفرج بيرقدار

أقل سوءاً ولكن أكثر عاراً

null
فرج بيرقدار

لا أدري إن كان من السهل الاتفاق على حقيقة، أن البلدان العربية ليس لديها ما تفترشه أو تلتحف به غير التخلف، بمعناه العميق والشامل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وصحياً وعلمياً وتعليمياً …إلخ. بالنسبة إليَّ فإن نظرة سريعة على متوسط دخل الفرد من الحرية والكرامة، بمستوياتهما الشخصية والوطنية والإنسانية، تكفي للاقتناع بحقيقة التخلف التي ليس فيها شَبَهٌ أو شيء من فضائل قهوتنا العربية ولا حتى على صعيد المرارة.

بيد أنه قد يكون من السهل الاتفاق على أن لهذه الحقيقة أو القاعدة استثناءين خطيرين يتمثلان في أجهزة الأمن ووسائل الإعلام العربية، وذلك وفق أحدث المعايير العالمية الراهنة. وقد كان يحق لنا التباهي بهذين الاستثناءين لو كان تطورهما موظفاً في خدمة المعنى الحقيقي للأمن والإعلام.

أجهزة الأمن العربية، عُرفاً وتعريفاً ووصفاً وواقع حال، إنما هي أجهزة رعب أخطبوطية وسرطانية وافتراسية، دأبها استئصال أيّ إمكان محتمل لإحساس الناس أو حتى لأحلامهم بأي مستوى من مستويات الأمن في الحلّ والترحال على حد سواء. لا يحتاج إثبات ذلك إلى حجج وبراهين ووقائع. قراءة دلالات صمت الناس تكفي، ولمن أراد بلاغة أعلى، يمكنه التماسها لدى عشرات الآلاف من حراس الضمير الوطني والإنساني، ممن لم يصمتوا، رغم معرفتهم بما يمكن أن يرتبه عليهم عدم الصمت من أخطار وضرائب وعذابات.

آخر دفعة من حرّاس شرفنا وضميرنا اشتملت على نحو من أربعين معتقلاً من أعضاء المجلس الوطني لإعلان دمشق، أفرج عن بعضهم بعد ساعات، وبعضهم بعد يوم وليلة، غير أن سبعة منهم ما زالوا رهن الاعتقال وهم: الدكتورة فداء الحوراني رئيسة المجلس الوطني، وأمينا سر المجلس أحمد طعمة وأكرم البني، وأعضاء الأمانة العامة جبر الشوفي، علي العبدالله، وليد البني، وياسر العيتي.

لكأن السلطات السورية أدركت بحس البقاء أو غريزة الحياة، أن المعارضة السورية على ضعفها عرفت كيف تدق المسمار الأول في المكان الصحيح من تابوت مهترئ وتأخر تشييعه طويلاً. هذا إضافة إلى رغبة السلطات في التأكيد أن اللا أمن بالنسبة إليها استرتيجيا عليا عمياء البصيرة وغليظة القلب بما يكفي للاستهتار بأي رمز نضالي، كما بالأعراف والأخلاق والمواثيق، وحتى بالقوانين التي شرّعتها بنفسها ولنفسها (كم هي مفارقة ملعونة، وربما مصادفة ذات استقراءات ودلالات “ذكية”، أن تحدث هذه الاعتقالات بالتزامن مع الذكرى السنوية الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كما بالتزامن مع عيدي الفطر والميلاد).

لا أشك في أن السلطات السورية كانت على قدر كبير من انعدام الحكمة، أو الحكمة المضادة، لكي تقدم على اعتقال تلك الكوكبة من الرموز الوطنية رغم تاريخها المعروف والمشهود والمشرِّف، ورغم وضوح دعواتها وبياناتها من أجل تغيير وطني، ديموقراطي، علني، سلمي ومتدرِّج.

أجل، ليس أمام سوريا والنظام السوري نفسه خيار أو مخرج آخر سوى انعدام الحكمة وإغراءات الهاوية.

ثمة من يقول إن النظام هذه الأيام يعتقل بسبب خوفه من وضعه الدولي الضاغط، وثمة من يقول إنه يعتقل الآن بسبب اطمئنانه إلى أن وضعه الدولي بدأ بالانفراج!

أنا أزعم أن النظام، في السابق وحاضراً، فعل مراراً ويفعل الأمر نفسه في حال ضعفه وفي حال قوته.

وأزعم أيضاً أن سلوك أي نظام “أرضي وليس سموياً”، لا يكون واحداً في أمرين أو حالتين متناقضتين، إلا إذا بلغ الطغيان فيه مبلغه، رؤوساً وأذرعة وطواقم مستشارين.

فهل بلغت الموجة القاع؟

لا أستعجل الإجابة أو اليقين، رغم أن كل ما يطفو على السطح، يشير إلى أن الوضع في سوريا، تحليلاً وتأويلا، استشرى واستفشر، وما من أفق أمامه، إذا استمر على هذا النحو الكالح، غير الانسداد الذي لن يبرّئ حاكماً، ولن يشفع لمحكوم.

أجهزة الأمن وتقنياتها وخبراتها المتطورة غير معنية بالبحث عن مسارب أو ثغر أو خلخلة لهذا الانسداد المحدق، وبالتالي فهي استثناء متطور يستهدف حماية الوضع المتخلف، والعمل على كل ما من شأنه تأكيده أو تأبيده، عبر الكذب والتضليل والترغيب والترهيب، كما عبر القمع العاري كلما لزم الأمر.

هي أجهزة متطورة حقاً لكنها بدون أخلاق، ولذلك فإنها لا تستحي، ولا مشكلة بالنسبة إليها، أن تتهم الصادق بأنه كاذب، والشيوعي بأنه عدو الاشتراكية، والديموقراطي بأنه عدو الحرية، والوطني بأنه عميل للخارج!

الاستثناء الثاني في تطوره وتقدّم تقنياته وخبراته، وكذلك في ما يورثه من مرارات، يتمثل في مؤسسات الإعلام العربية الكبرى، التي تدير قنوات فضائية وصحفاً ومجلات ووكالات أنباء ودعايات وأفيوناً وشياطين.

وإذا كان الاستثناء “الأمني” يتكون في الغالب من عسكريين، فإن الاستثناء”الإعلامي” يتكون في الغالب من مثقفين وكوادر فنية وعلمية عالية التأهيل، الأمر الذي يدفع إلى الاعتقاد بأن خصائص أجهزة الإعلام ومواصفاتها وأساليبها ومعناها، إنما هي على النقيض من أجهزة الأمن كاقتناعات وسلوكيات، أو ينبغي أن يكون دورها في الحد الأدنى هو الإعلام حقاً، وليس التعتيم والتضليل وانعدام الأمانة والشرف المهني، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بجرائم انتهاك الحريات وحقوق الإنسان والرموز الثقافية والديموقراطية والوطنية. أما أن تصمت أجهزة إعلامنا على ذلك، فهي في الضرورة نقيض معناها، كما هي أجهزة الأمن نقيض معناها.

هما استثناءان على قدر كبير من التشابه والتواطؤ، وربما على شراكة، بالمعنى الضمني إن لم أقل المباشر، أو بالمعنى الموضوعي إن لم أقل الذاتي.

لماذا عندما يتعلق الأمر بأبسط حدث في غوانتانامو مثلاً، تقوم قيامة قنواتنا الفضائية ولا تقعد؟!

إن اعتقال أي مواطن عادي، أو حتى مجرم، في العراق أو فلسطين، يمكن أن يحظى بأكثر مما حظيت به اعتقالات تلك النخبة من رموز سوريا، ذلك أن أقصى ما فعلته قنواتنا هو كتابة بضع كلمات خجولة عابرة على الشريط الإخباري المتحرك في أسفل الشاشة!

وربما لو لم يُنشَر خبر الاعتقالات في أكثر من موقع الكتروني حرّ وبعيد من حسابات الربح والخسارة، أو الرضوخ لإملاءات النظام السوري والأنظمة “الشقيقة”، لما كلفت نفسها تلك القنوات عناء أي إشارة للاعتقالات على أشرطتها الإخبارية.

ذلك لا يلغي أنها مؤسسات إعلامية استثنائية متطورة ولكنها، كصاحبتها الأمنية، بدون أخلاق أيضاً.

استقطب الاستثناء الأول “الأمني” عدداً من المثقفين، وكان من السهل تصنيفهم على أنهم “مثقفو السلطة”، كما استقطب الاستثناء الثاني “الإعلامي” أعداداً أخرى من المثقفين، غير أن من الصعوبة بمكان الوصول إلى تصنيف محدد يضعهم جميعاً تحت مسمى واحد.

لعل هذا الإرباك أو الالتباس أو عدم التطابق بين أصحاب أو مالكي المؤسسات الإعلامية والعاملين فيها هو الميزة الوحيدة، التي تجعل الاستثناء الإعلامي أقل سوءاً، ولكن في الوقت نفسه، وللأسف، أكثر عاراً من الاستثناء الأمني.

إذاً، قيادات المجلس الوطني لإعلان دمشق رهن اعتقالين، أمني وإعلامي، في آن واحد، وعلينا التفكير في طرائق وجهات ومواقع وأخلاقيات مختلفة للضغط من أجل الإفراج عنهم، وطي ملف الاعتقال السياسي مرة وإلى الأبد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى