صفحات الناسمحمد علي الأتاسي

دموع المدينة

null


محمد علي الأتاسي

إلى فداء الحوراني

في وقتٍ تحتفل التيارات الناصرية والقومية بالذكرى الخمسين للوحدة السورية – المصرية، تقبع رئيسة المجلس الوطني لإعلان دمشق الدكتورة فداء الحوراني في السجن. هي ابنة السياسي السوري الراحل أكرم الحوراني الذي كان واحداً من أهم صنّاع الوحدة ومن أكثر منتقديها في ما بعد. هنا قراءة من وحي هذه المناسبة.

في منتصف التسعينات من القرن المنصرم سمحت لي الظروف بأن أقوم بأول زيارة للقاهرة بغرض إتمام بحث كنت باشرته عن فترة الخمسينات في سوريا ومرحلة الديموقراطية المزدهرة بين 1954 و1958 والتفاعلات والصراعات الاجتماعية والسياسية التي دفعت في اتجاه الوحدة السورية- المصرية.

كنت أتردد صباح كل يوم، وعلى مدى شهر كامل، على مكتبة القاهرة الكبرى في الزمالك لمراجعة أرشيف جريدة “الأهرام” العائد إلى تلك الفترة والمحفوظ بأكمله على شرائط الميكروفيلم.

في سيارات التاكسي العديدة التي كانت تقلّني صباح كل يوم إلى المكتبة، كنت أتسلى، أنا القادم لتوّي إلى القاهرة، بطرح السؤال الساذج نفسه على السائقين المصريين: من تحب أكثر عبد الناصر أم السادات؟ طبعاً تعددت الإجابات وتنوعت، وإن كانت في غالبيتها لصالح عبد الناصر. تطلب الأمر مني بعض الوقت لألحظ أن خيار عبد الناصر كان يرتبط أحياناً بنوع من المسايرة كوني شامياً و”الشوام” عموماً في عرف المصريين يميلون إلى عبد الناصر، وكان يرتبط في أحيان أخرى بنوع من الشطارة كون الأجرة تزداد ارتفاعاً مع خيار عبد الناصر!

ذات مرة، وفي مواجهة سائق تاكسي في خريف العمر، قررت بدوري التشاطر فغيّرت في صيغة سؤالي إلى الآتي: حضرتك حزنت أكثر لما مات عبد الناصر أم لما مات السادات؟ تأمل السائق طويلاً في عيني من خلال المرآة وهزّ برأسه ليقول هازئاً: “يا عم أنت بتقول إيه، أنا حزنت أكثر شيء لما مات أبويا“.

جواب السائق الفصيح، نبهني إلى خطئي وعلّمني درساً بليغاً في ذكاء ابن البلد المصري ومنعني من أن أكرر مثل هذه الأسئلة الساذجة التي لا تعني شيئاً آخر سوى الاستخفاف بعقول الناس.

الطريق إلى الوحدة

في مكتبة الزمالك وأمام شاشة جهاز المطالعة كنت أجلس لساعات طويلة، يوماً بعد يوم، أتصفح جريدة “الأهرام”، بدءاً من منتصف الخمسينات، أمرّرها عدداً تلو عدد، كما ترد متسلسلة على شريط الميكروفيلم. شيئاً فشيئاً، أخذتني حالٌ من الترقب والانشداد، كحال من يتابع فيلماً مشوّقاً وينتظر الخاتمة على أحرّ من الجمر. صحيح أني كنت أعرف النهاية عن ظهر قلب وبوجهيها المتعارضين، الوحدة والانفصال، إلا أني، بحكم قراءتي لهذه الجريدة اليومية، التي كتب محرروها الأخبار والمقالات من دون أن يعرفوا ما الذي سيجري في اليوم التالي، رحت أتماهى مع هؤلاء المحررين إلى درجة جعلتني أعيش الحوادث بلحظتها متناسياً ما سيأتي من بعدها.

هكذا راح الشريط يمر من أمامي بعناوينه العريضة، من مثل رفض الانضمام إلى حلف بغداد، إلى معاهدة الدفاع المشترك السورية-المصرية، إلى كسر الاحتكار الغربي لبيع منطقتنا السلاح، إلى تأميم القناة والعدوان الثلاثي، إلى تظاهرات التأييد والتضامن في مختلف أرجاء العالم العربي، إلى تفجير أنابيب النفط في سوريا، إلى التهديدات التركية، إلى إزالة آثار الاستعمار في تونس ومراكش ومساندة الثورة الجزائرية. ومن خلف هذه العناوين الكبيرة، كانت تمر العناوين الصغيرة عن مجريات الحياة اليومية في مصر من مشاريع التحديث وصولاً إلى أفلام السينما والدعايات المتنوعة.

فجأةً راحت الوقائع تتسارع، من التظاهرات السورية الحاشدة تأييداً للوحدة مع مصر، إلى تصويت مجلس النواب السوري ومن ثم مجلس الأمة المصري على مشروع إتحاد فيديرالي غير ملزم بين سوريا ومصر، إلى رفع رئيس مجلس النواب السوري أكرم الحوارني العلم المصري إلى جانب العلم السوري من على جانبي منصة الرئاسة تحت قبة البرلمان، إلى وصول وفد الضباط السوريين إلى القاهرة في 12 كانون الثاني 1958 من دون علم حكومتهم ومطالبتهم عبد الناصر بالقبول بالوحدة الفورية والاندماجية، إلى وصول وزير الخارجية السوري صلاح الدين البيطار إلى القاهرة بتكليف من الحكومة وانضمامه إلى وفد الضباط وبدء المحادثات الجدية مع عبد الناصر الذي وافق في النهاية على المضي قدماً في الوحدة، مشترطاً أن يتم حل الأحزاب في سوريا وأن يحل مكانها حزب الإتحاد القومي الواحد!

تتابع جريدة “الأهرام” وأتابع معها الطريق إلى الوحدة. ففي 30 كانون الثاني انتقل الرئيس شكري القوتلي على رأس وفد حكومي كبير إلى القاهرة وتم الإتفاق على دستور الجمهورية الموقت وعلى إجراءات توحيد البلدين، وتم تكليف رئيس الوزراء السوري صبري العسلي في اليوم التالي قراءة محضر الاجتماع المتضمن إعلان اتفاق الرئيسين على قيام الجمهورية العربية المتحدة أمام الناس المحتشدين بالآلاف أسفل شرفة قصر “شويكار“.

في 5 شباط اجتمع مجلسا النواب في سوريا ومصر، كلٌّ على حدة في بلده وفي حضور رئيسي الجمهوريتين، وصوّتوا على إعلان الجمهورية العربية المتحدة وأعلن الرئيس شكري القوتلي ترشيح الرئيس جمال عبد الناصر لرئاسة الجمهورية الجديدة من خلال استفتاء عام في كلا البلدين. وفي 22 شباط 1958 تم الاستفتاء وفاز عبد الناصر بشبه إجماع وأصبح رئيساً للجمهورية العربية المتحدة، على رغم أن قدميه لم تطآ بعد الأراضي السورية التي عمت فيها الأفراح والأهازيج بشكل لم يشهده تاريخها المعاصر من قبل.

يوم 24 شباط 1958 توجه رئيس الأركان السوري عفيف البزري على رأس وفد كبير إلى مطار المزة الدمشقي لاستقبال المشير عبد الحكيم عامر الذي كان يفترض وصوله إلى دمشق للتحضير لزيارة الرئيس عبد الناصر المرتقبة. فُتح باب الطائرة فإذا بجمال عبد الناصر شخصياً يطل من باب الطائرة. المفاجأة كانت كبيرة، لكن الضرورات الأمنية والخوف من المؤامرات ومحاولة اغتيال عبد الناصر التي تم الكشف عنها أخيراً، كلها مجتمعة فرضت على عبد الناصر أن لا يخبر أحداً في دمشق بقدومه، حتى الرئيس القوتلي شخصياً!

توجه موكب رئيس البلاد الجديد تواً إلى منزل الرئيس القوتلي في شارع أبو رمانة، وما هي إلا دقائق حتى كان الوفد في المنزل وتم إيقاظ الرئيس القوتلي وإخباره، تحت وقع المفاجأة، أن عبد الناصر في انتظاره في المنزل بصحبة الوفد المصري، وتم الاتصال برئيس مجلس النواب أكرم الحوراني وبغيره من كبار الشخصيات وطُلب منهم موافاة عبد الناصر في منزل القوتلي. وما هي إلا دقائق حتى علمت دمشق كلها بوجود عبد الناصر في منزل القوتلي فتوجهت ألوف مؤلفة من الناس إلى شارع أبو رمانة وأحاطت بالمنزل من كل صوب وهي تنادي على رئيسها الجديد وتطلب منه الخروج إلى الشرفة ليلقي التحية عليها ولتتمكن أخيراً من رؤيته بلحمه ودمه. استغرق موكب الرئيسين لقطع المسافة من منزل القوتلي إلى قصر الضيافة الذي لا يبعد عنه إلا مئات الأمتار، ساعات عدة بسبب مئات الآلاف من الناس الذين احتشدو لتحية عبد الناصر، الذي أمضى أياماً عدة محاصَراً في القصر، يطل بين فترة وأخرى من على الشرفة ليخطب ويلقي التحية على الألوف المتدفقين من كل المدن السورية واللبنانية لرؤيته والاستماع إليه. بل كان البعض منهم يبيت الليل في العراء حتى يحجز لنفسه مكاناً قريباً من الشرفة، يستطيع أن يرى من خلاله في اليوم التالي عبد الناصر بوضوح أكبر. الحقيقة أن ردود الفعل هذه تبدو غريبة بعض الشيء في أيامنا الراهنة حيث دخل التلفزيون إلى كل بيت وبات الكثير من الناس يفضلون البقاء في بيوتهم والاستماع إلى خطب القادة السياسيين من خلال شاشة التلفزيون. أما في ذلك الزمن فلم يكن التلفزيون موجوداً بعد وكانت علاقة الناس في سوريا مع كاريزما عبد الناصر تتم من خلال صوره في المجلات وخطبه التي يبثها راديو “صوت العرب”، قبل أن تتاح الفرصة لهم ليروه من على شرفة قصر الضيافة.

دموع المدينة

في مكتبة الزمالك، جالساً أمام شاشة المطالعة، وبعدما بدأ التعب ينال مني، أقرأ كلمة عبد الناصر التي ألقاها أمام مجلس الأمة في 5 شباط معلناً فيها قيام الجمهورية العربية المتحدة، فتشدّني منذ بدايتها التي يقول فيها: “في حياة الشعوب أجيال يواعدها القدر ويخصها دون غيرها بأن تشهد نقط التحول الحاسمة في التاريخ”. ثم يمر عبد الناصر بالتاريخ المشترك للشعبين لينتقل إلى تعداد مبادئ الجمهورية العربية المتحدة المكوّنة من إقليمين ورئيس واحد (مطلق الصلاحيات) ومجلس أمة، ويعلن ضمنياً حل مجلس الأمة المصري، إلى أن يختم بالآتي: “لقد بزغ أمل جديد على أفق هذا الشرق، إن دولة جديدة تبعث في قلبه، لقد قامت دولة كبرى في هذا الشرق، ليست دخيلة فيه ولا غاصبة، ليست عادية علية، ولا مستعدية. دولة تحمي، ولا تهدد، تصون ولا تبدد، تقوى ولا تضعف، توحّد ولا تفرّق، تسالم ولا تفرط، تشد أزر الصديق، تردّ كيد العدو، لا تتحزب ولا تتعصب، لا تنجرف ولا تنحاز، تؤكد العدل، تدعم السلام، توفر الرخاء لها، ولمن حولها، للبشر جميعاً بقدر ما تحمل وتطيق“.

دائما في مكتبة الزمالك، أقع على الصفحة الأخيرة لعدد آخر من “الأهرام”، فأجد على كامل الصفحة ريبورتاجاً مصوراً عن الجلسة التاريخية التي عقدها مجلس النواب السوري في 5 شباط 1958 وأعلن فيها الرئيس القوتلي قيام الجمهورية العربية المتحدة وترشيح الرئيس عبد الناصر لرئاستها. كان ذلك اليوم تاريخيا بكل ما للكلمة من معنى، فألوف الناس في الشوارع يملأون الطرق والساحات المحيطة بقاعة المجلس. أما الطريق التي سلكها موكب الرئيس القوتلي والممتدة من منزله في شارع أبو رمانة إلى مجلس النواب في شارع الصالحية، فقد اصطف على جانبيها حرس شرف رسمي من الجيشين السوري والمصري. في داخل قاعة المجلس البهية التي لم تمض سنوات على إعادة بنائها بعدما دمرها القصف الفرنسي في العام 1945، جلس أكرم الحوراني الى منصة الرئاسة وفي مواجهته في الأسفل جلس رئيس الوزراء صبري العسلي وأعضاء الوزارة وتحلق من حولهم أعضاء مجلس النواب بكامل عددهم، ما عدا الزعيم الشيوعي خالد بكداش الذي تغيب عن الجلسة وفرّ خارج سوريا. وفي مدرجات الشرفات العلوية جلس ضيوف الشرف من سفراء وقناصل ورجال دين وضباط جيش إضافة إلى زوجة الرئيس القوتلي وابنته هدى. كانت لحظات مهيبة، فالرئيس القوتلي لم يأت فقط ليعلن قيام الجمهورية العربية المتحدة، بل ليبلغ السلك الديبلوماسي المعتمد في سوريا نهاية مهامه، وأتى ليعلن للنواب انتهاء تفويضهم الشعبي ولمجلس النواب حلّه النهائي، وليشهر لنفسه ولشعبه انتهاء مهامه كرئيس منتحب للجمهورية السورية، وليقول للشعب السوري نهاية دولته وقيام حلمه في الوحدة العربية.

إذا كان صحيحاً أن هذا الشعب دفع ثمن استقلاله بالدم ابتداء من شهداء أيار في العام 1916 إلى معركة ميسلون في العام 1920، إلى الثورة العربية الكبرى في العام 1925، إلى قصف دمشق ومعركة الإستقلال في العام 1945، فإنه ربما يكون الشعب الوحيد في العالم الذي، في احتفالات الجلاء في العام 1946، يقوم رئيسه شكري القوتلي برفع علم الاستقلال السوري الذي دفع الشعب لأجله أفدح الأثمان على السرايا الحكومية ويخطب فيه قائلاً: لن يرتفع فوقه بعد اليوم إلا علم واحد هو علم الوحدة العربية.

أمام شاشة المطالعة في مكتبة الزمالك، أقراً كيف رحّب أكرم الحوارني بالقوتلي عند باب المجلس ورافقه إلى القاعة حيث استقبله النواب بالتصفيق، فتوجه القوتلي إلى المكان المعد له في منتصف القاعة، وافتتح الحوراني الجلسة التاريخية بالكلمة الآتية: “باسم الله العلي القدير، باسم الشهداء الأبرار الذين فاضت أرواحهم في سبيل هذا اليوم، باسم المجاهدين الأحرار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى ومنهم من ينتظر هذه الساعة، باسم كل من أسهم في سبيل هذه الدقيقة، باسم الأمة العربية في الوطن العربي الأكبر افتتح هذه الجلسة. احمد الله أن تكون هذه الحكومة وأعضاء هذا المجلس عاملين وشاهدين لهذه الجلسة التاريخية، وان يكون الرئيس القوتلي وهو من زكت نفسه التضحية وملأ قلبه الإيمان وتوجت هامه سلسلة الأمجاد التاريخية وحمل آمالنا في الحرية والكرامة والاستقلال قد جاء اليوم ليحمل أمنيتنا في تحقيق وحدتنا، فاللهم اشهد انه حقق الرسالة وأدى الأمانة فله تقدير الوطن ومشارف المجد وهامات الخلود“.

ثم قدم الحوراني القوتلي للنواب مطلقاً عليه اللقب الذي سيرافقه مدى حياته الباقية: “الكلام الآن للمواطن العربي الأول شكري القوتلي”. صعد القوتلي إلى المنصة واستهل كلمته بالتذكير بشهداء أيار ومعركة ميسلون والثورة السورية الكبرى ومناهضة الاستعمار وكارثة فلسطين الى أن قال الآتي: “إن السوريين لم يصونوا استقلالهم إلا ليدفعوا به إلى الأمام عجلة الاستقلال العربي كاملاً، ولم يحتفظوا لأنفسهم بسلامة كيانهم وسيادتهم في أرضهم إلا ليلقوها دعامة راسخة في بناء كيان عربي ذي سيادة، وقد شرّفني أن أعرب عن ضمائرهم وشعورهم يوم الجلاء عام 1946 عندما رفعت علم الاستقلال، وقلت لن يرتفع فوقه بعد اليوم إلا علم واحد هو علم الوحدة العربية”. ثم أعلن القوتلي مبادئ الجمهورية العربية المتحدة المكوّنة من إقليمين ورئيس واحد ومجلس أمة.

جالساً أمام شاشة المطالعة في مكتبة الزمالك، أتابع القراءة وأتذكر كيف أن القوتلي نذر نفسه للقضية العربية منذ كان مناضلا في “الجمعية العربية الفتاة” ابان العهد العثماني، وكيف حكم بالإعدام لكنه نجا بأعجوبة ولم يلق مصير من سبقه من شهداء أيار وكيف قدّر له أن يكون رئيسا ابان نيل الاستقلال، وها هو في عهده الثاني رئيساً يدشن عهد الوحدة. أتابع القراءة إلى أن يصل القوتلي إلى تلك الفقرة المؤثرة في خطابه عندما يقول معتذرا: “أرجو أيها الأخوان الأعزاء، أن أكون باعتباركم، وباعتبار هذا الشعب العربي العظيم، الذي يشرّفني أن أنتسب إليه مواطناً عادياً – كما أرجو أن أكون باعتباركم واعتباره، قد أديت واجبي نحو بلادي وأمتي، وكنت جديراً بالثقة التي أوليتموني إياها خلال هذه الحقبة من الزمن العصيب، فإن قصرت، فعذري أنني عملت بصبر وإيمان، وصدق وإخلاص، وإن أخطأت، فعذري أنني إنسان، وليس الإنسان بمعصوم. وإن فاتني شرف الاستشهاد ولم أكن بجوار الخالدين من أحرار هذه الأمة، فأمام الله أشهد أنني لم أجنب نفسي خطراً، ولم أوفرها عن شهادة“.

فجأة يرتجف صوت القوتلي من على منبر مجلس النواب وتخونه دموعه. خلفه، الى منصة الرئاسة، لم يعد الحوراني قادراً على حبس دموعه، وعلى صفحة “الأهرام” الأخيرة نرى صورة رئيس الوزراء صبري العسلي وهو يرفع نظارتيه السميكتين ويمسح دموعه، وينقل مراسل “الأهرام” كيف بكى العديد من النواب وكيف بكت زوجة القوتلي وابنته. بدوري أطفئ جهاز المطالعة في مكتبة الزمالك وأخبئ رأسي بين ساعديّ وأجهش في البكاء. يأتي مسؤول المكتبة ليشدّ أزري ويسألني ما الخطب. أعجز عن الإجابة وأغادر القاعة ولا أعود إليها أبداً واصرف النظر عن إكمال دراسة غطّتها دموعي.

ما وراء الدموع

اليوم، إذ تقبع رئيسة المجلس الوطني لإعلان دمشق فداء أكرم الحوراني خلف القضبان، وتُساق رهن الاعتقال إلى المستشفى بسبب تدهور حالها الصحية ويُقبَض على زوجها غازي عليان الفلسطيني الجنسية وتُلغى إقامته في سوريا العربية ويرحَّل في اليوم نفسه إلى الأردن، فإني لن أعود إلى جهاز المطالعة في مكتبة الزمالك. فبالتأكيد، لم تعد تنتظرني أشرطة الميكروفيلم. لكني سأقرأ من وراء الدموع كيف ضحّى الشعب السوري وطبقته السياسية بحرياته السياسية وحراكه المدني من أجل الوحدة العربية، وقبل بشرط عبد الناصر إلغاء التعددية السياسية، ففقد في النهاية الاثنتين معا: الحرية والوحدة.

سأقرأ ما وراء الدموع كيف امتلك نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع آنذاك خالد العظم، الجرأة الأخلاقية، فوافق على الوحدة ونبّه في الوقت نفسه إلى خطورة إلغاء التعددية السياسية في سوريا. سأقرأ ما وراء الدموع ما كتبه أكرم الحوراني في مذكراته عن موقف خالد العظم: “كانت اعتراضات خالد العظم على محضر الوحدة مؤثرة في المجتمعين، ولا سيما ما يتعلق منها بالديموقراطية وضرورة تعدد الأحزاب لان جميع الحاضرين من المدنيين كانوا يشعرون في قرارة نفوسهم بالخوف من حكم سوريا حكما ديكتاتوريا في ظل الوحدة، بالرغم مما كانوا يعلقونه على قيام الوحدة من آمال في تحقيق ما عجزت سوريا عن تحقيقه. اشار الرئيس القوتلي في احد هذه الاجتماعات الى وجوب تدوين محضر بنتيجة المباحثات حول الوحدة فكتبه صبري العسلي ودفع به للتوقيع، فوقّعه بعد رئيس الجمهورية، ثم وقّعه جميع الوزراء والضباط الخمسة الذين حضروا هذه الاجتماعات، وكان تعليق خالد العظم عند التوقيع: أنني أوقعه وأسأل الله أن يبدد تحفظي“.

سأقرأ ما وراء الدموع كيف أن الله لم يبدد تحفظات خالد العظم، وسأقرأ كيف أن الشعب السوري الذي كان في غالبيته العظمى مع الوحدة ومع عبد الناصر، فرض عليه في النهاية أن يتخلى عن صندوق الاقتراع وعن الستارة السوداء وأن يصوّت في استفتاء يستخف بكل أصول العملية الإنتخابية. وسأقرأ ما وراء الدموع، ما كتبه أكرم الحوراني في مذكراته عن هذا الإستفتاء: “توجهت صبيحة يوم الاستفتاء (الجمعة 21-2-1958) مع شكري القوتلي واعضاء الحكومة وكبار ضباط الجيش بموكب حافل شق طريقه بصعوبة وسط الازدحام الجماهيري الى جامع سيدي هاشم في حي الشاغور لنؤدي واجبنا في عملية الاستفتاء الذي جرى على النحو الآتي: كان رئيس المركز يسلّم المقترع ورقتين: احداهما رسمت عليها يد تحمل العلمين المصري والسوري وكتب تحتها: هل توافق على وحدة سوريا ومصر في الجمهورية العربية المتحدة؟ وفي أسفل الورقة دائرتان متساويتان إحداهما حمراء مكتوب فوقها موافق، والأخرى سوداء مكتوب فوقها غير موافق، وفي وسط كل من هاتين الدائرتين فراغ ابيض يملأه المقترع، أما الورقة الثانية فقد استبدل فيها رسم اليد التي تحمل العلمين بصورة لجمال عبد الناصر كُتب تحتها: هل توافق على انتخاب جمال عبد الناصر رئيسا للجمهورية العربية المتحدة؟ كانت أجهزة المخابرات المصرية التي تسلمت فورا شؤون وزارة الداخلية هي التي صممت هذا الاسلوب من الاقتراع العلني، وكان الاقتراع سابقا في سوريا يتم في الغرفة السرية حيث يتحرر المقترع من أي ضغط أو أكراه، وهو مكسب ديموقراطي حصل عليه الشعب في سوريا نتيجة نضال شعبي وبرلماني“.

ويضيف الحوراني متحسراً: “لم يكن الاستفتاء على الوحدة وعلى رئاسة جمال عبد الناصر بحاجة إلى مثل هذا الاسلوب الفج ولكن من يشعر بالأخطاء في غمرة الفرح الأكبر؟ أعلن وزير الداخلية المصري زكريا محيي الدين صباح يوم 22-2-1958 نتائج الاستفتاء في سوريا ومصر فكانت نسبة الموافقين في سوريا 99.98 وكان عدد المخالفين 139 شخصا وكانت نسبة الموافقين في مصر 99.99 وهنا لا بد لي من ملاحظة: أن اكبر نسبة للإقبال على الانتخابات عرفتها سوريا في اشد معاركها الانتخابية ضراوة لم تتجاوز 70 في المئة من مجموع الناخبين، ولم يكن الإقبال على مراكز الاقتراع يفوق هذه النسبة بحال من الأحوال“.

في واحدة من الوقفات الصادقة مع الذات، يورد أكرم الحوراني نص البرقية التي وجهها الى عبد الناصر وجاء فيها: “لم يشهد تاريخنا الحديث انتخابا ولا استفتاء شعبيا أكثر تعبيرا عن إرادة الشعب الحرة من هذا الذي جرى اليوم في كل من مصر وسوريا ولا غرو فقد لمس الشعب من جديد في شخصكم تاريخ العرب كله بما فيه من مآثر وبطولات وأمجاد وبما تخلله من آمال ونضال“.

وما وراء الدموع، ينتقد الحوراني نفسه بصراحة يُحسد عليها فيقول: “قد يستهجن القارئ، كما استهجن الآن، تلك المبالغات الصبيانية التي أملت نص هذه البرقية بما لا يليق صدورها من رجل مسؤول، وإنني لاعترف ان هذا الحكم من القارئ هو دليل على تقدم العقل العربي وتطوره ونضجه ولكن عذري كان في تلك الفترة التي لا استطيع وصفها، كانت فترة طغى فيها الحلم الكبير على عقلانية الواقع المرير“.

وما وراء الدموع، وربما بسببها أيضاً، سيحدث الانفصال بانقلاب عسكري في العام 1961 نفّذته بعض وحدات الجيش السوري، وسيرفض عبد الناصر إنهاء التمرد بالقوة العسكرية وسيقول في كلمة مشهودة له وجهها الى شعبه: “إني أعرف أن طعنة الصديق تمزق القلب، ولكني أطلب من الأمة أن ترتفع على شعورها بالألم. الوحدة إرادة شعبية ولن أحولها من جانبي إلى عملية عسكرية. أريد أن يعرف الشعب العربي في مصر أنه ليس هناك وقت يدعونا إلى التمسك بعروبتنا أكثر من هذا الوقت“.

وما وراء الدموع، وربما بسببها أيضاً، سيوجه المواطن العربي الأول شكري القوتلي كلمة جارحة من الإذاعة والتلفزيون في الجمهورية العربية السورية مساء 23 تشرين الأول 1961 يسمّي فيها انقلاب الانفصال “وثبة الشعب وانتفاضة الجيش الأمين”، ويسأل: “لماذا استحالت الوحدة إلى سراب؟”، ليضيف: “كنت أقول لمن بيدهم الأمر كله، إن إعلان الوحدة شيء، وممارستها شيء آخر، فبالعواطف قامت، وبالعقل والحكمة وبالحسنى تدوم“.

وما وراء الدموع، وربما بسببها أيضاً، سيكتب الحوراني في مذكراته الآتي: “إن أهم الأسباب لانهيار الوحدة المصرية السورية عام 1961 وللانهيار العاجل للوحدة الثلاثية المصرية السورية العراقية عام 1963 ولانهيار الاتحاد الثلاثي بين مصر وسوريا وليبيا بعد السبعينات ثم انهيار كل المحاولات التي جرت لتحقيق أي نوع من أنواع الوحدة او الاتحاد بين الأقطار العربية إنما يعود في الدرجة الأولى إلى أن أنظمة الحكم في البلاد العربية كانت ولا تزال إما أنظمة فردية وإما ديكتاتورية عسكرية وإما طائفية وإما عشائرية يمارس الاستعمار نفوذه عليها“.

وما وراء الدموع، وبسببها أيضاً، سأتعلم من سائق التاكسي المصري أن الدموع والعواطف إنما تُذرف لفقد الأهل والأحبة، أما السياسيون فعواطفنا نحوهم نعبّر عنها من خلال صندوق الاقتراع في الانتخابات الحرة.

عزيزتي فداء، ها أنا الآن أمسح دموعي، فلا وقت بعد الآن للدموع. عذراً لن ألوّح لك بعد اليوم بمنديل دموعي، ولن أقول لك إننا على موعد مع الحرية، فهذا تحصيل حاصل. أعدك بأني في ذلك اليوم المنتظر لن أضع منديل دموعي، بل ورقة مواطنيتي في صندوق الاقتراع

محمد علي الأتاسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى