صفحات أخرى

كتاب: الإختيار العلماني واسطورة النموذج لسعيد ناشيد

المعركة حتمية لكنْ كَمَن ينحت الصخر بإبرة
يطرح انبعاث الحركات الاصولية، ذات الفكر الديني السلفي، في المجتمعات العربية والاسلامية، تحديات على هذا المجتمعات في كيفية المواءمة بين موجبات التطور والتقدم من جهة،والانشداد الى هذا الماضي المتخلف من جهة اخرى. يزداد الامر خطورة مع اصرار الحركات الاصولية ومعها المؤسسات الدينية على ادخال الدين في معمعة المعركة السياسية القائمة، وتوظيفه في خدمة الارهاب والتطرف، او اسباغ المشروعية على السلطات القائمة. ما تعانيه المجتمعات العربية والاسلامية اليوم، سبق للمجتمعات الاوروبية ان عاشته في القرون الوسطى خلال هيمنة الكنيسة على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وهي حال لم تخرج منها اوروبا الا بعد صراعات طويلة ودامية ابتدأت بالاصلاح الديني واكتساح قيم التنوير في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وانتهت بإنجاز العلمانية التي فصلت بين الدين والدولة، وكرست الحرية الفردية والاعتراف المتبادل بين البشر وتحقيق العدالة الانسانية. فإذا كانت العلمانية تعاني معضلات في مجتمعاتها الاصلية من حيث انبعاث بعض الحركات الاصولية وحنين الكنيسة الى استعادة دور سابق، فإن هذه العلمانية في مجتمعاتنا العربية تحارب من اجل موطئ قدم يؤسس لمسار مستقبلي، يعاني من الصعوبة الحجم الكبير. يأتي كتاب “الاختيار العلماني” للكاتب المغربي سعيد ناشيد الصادر عن “دار الطليعة” في بيروت ليصب في المجرى الداعي الى نشر الفكر العلماني واعادة تأصيله في مجتمعاتنا العربية والاسلامية وتجنب التقليد الغربي في هذا المجال.
يرى الكاتب في الظلامية واحداً من الاخطار الاساسية التي تنتصب في وجه العلمانية، فهي اشد ضررا على المعرفة من الجهل والأمية. يتوهم الناس في ظلها انهم يمتلكون المعرفة واسرارها، بحيث تنتفي حاجتهم الى الاتصال بمصادر الثقافات او الحضارات الاخرى. الظلامية في هذا المعنى تحجر على مغامرة السؤال، وتستبدل كل سؤال مفتوح بسؤال مغلق، والناس في مجتمع ظلامي يتكفلون التسلط على رقاب بعضهم البعض بعيدا من القانون وسلطته، وفي هذا المجتمع يفوّض الله لأي كان الحق في تنفيذ القانون الالهي بما فيه واجب “الجريمة المقدسة” لمن هو متهم بعدم الايمان او الكفر او الارتداد عن دين ما. وفي المجتمع الظلامي تزدهر المنشورات الدينية والطائفية التي تصدرها الجماعات من كل الديانات، السموية منها والوضعية، عارضة خدماتها الاستشفائية لجموع الناس اليائسين والمحبطين والبؤساء، وهو علاج يتوسل بالمعجزات والكتب المقدسة والخرافات والاساطير الشعبية الموروثة على امتداد التاريخ، ومعها استحضار سير الانبياء والاولياء والقديسين، وهي وقائع تعمل في حد ادنى على الغاء القدرة الانسانية “على امتلاك الارادة، وانحدار القدرة على الاختيار، وتلاشي القدرة على اتخاذ القرار”.
عندما تنتقل الظلامية الى ميدان السياسة، فإن القرارات السياسية تصبح مستندة الى الحجج الغيبية كلما اعوزتها الحجج الاخلاقية والانسانية، وتكتسب الخرافات والشعوذة مناعة وقوة معنوية ومادية، بحيث يتحول كل نقد لها او انتقاد لموقعها بمثابة مسّ بالحرية الدينية والتحرش بالشعائر والطقوس المقدسة. وبذلك يصبح الخطاب الديني لدى اصحابه اداة للسيطرة على العالم ووسيلة للهيمنة على العقول والنفوس، وهو خطاب يصب في الدعوة الى العنف وابادة الآخر. تنبع قوة هذا الخطاب من قدرته على تأجيج العواطف وتجييش الانفعالات المكبوتة واثارة الغرائز، وتقدم المنابر الدينية مكانا مساعدا للاستنفار واستنهاض الهمم. مع الاشارة الى ان هذا الخطاب الديني المتعصب والظلامي لا ينتج سوى مريدين بلا ارادة، ويكوّن مجتمعا تقوم السلطة فيه على الطاعة العمياء لمجموع الشعب. هذا الخطاب الديني تحوّل اليوم مصدر خطر كبيراً على الديموقراطية وعلى الفضاء العمومي، بل على السياسة في الإجمال. لذا لم يعد ما يثير الغرابة والاستهجان ان يستعين قادة الدول عندنا بالحجج الدينية والادعية والصلوات واستحضار الارواح واستدعاء الاولياء والقديسين قبل تحديد خياراتهم السياسية والعسكرية والاجتماعية، تالياً الافتخار باللجوء الى هذه الوسائل الغيبية.
هذا الاكتساح للظلامية وفكرها وصعود قواها للارتداد بالمجتمعات العربية والاسلامية مئات القرون الى الوراء، هما ما يبرر الخيار العلماني في وصفه واحدا من سبل الخلاص الرئيسية لهذه المجتمعات، وطريقا لا بد من سلوكه للدخول في عالم العقل والعقلانية والانتساب الى العصر والى قيم التنوير والحداثة. من الطبيعي ان يتناقض “البناء العلماني” مع المجتمع الذي تسوده الظلامية، لان العلمانية ثمرة حية للعقلانية السياسية، وهي لا تنبت “في ارض تقيم فوقها انفس مطمئنة الى حتمية الانتصار النهائي والاخير للعقل على الخرافات، لأن معركة العقلانية هي معركة مفتوحة ودائمة”.
يأتي التشديد على ضرورة العلمانية ايضا من كون الخطاب الديني لم يعد يكتفي بحقه وحريته في التعبير عن نفسه في المجالات العمومية وفي كل الوسائل الاعلامية المطروحة، بل من كون هذا الخطاب يهدف الى فرض نفسه مرجعا للحقل السياسي ومصدرا للقوانين والتشريعات المدنية والسياسية، ويتحول مشروعاً مجتمعياً متكاملاً، وصاحب ايديولوجيا شمولية متكاملة. في المقابل، لا تقوم العلمانية على اساس كونها عقيدة للمجتمع او ايديولوجيا للدولة، فالعلمانية في الاصل “اجراء عقلاني”، لا يضمن فقط التعايش بين المجموعات البشرية، بل يضمن ايضا العيش المشترك في ما بينها. والعقلانية السياسية هي عقلانية توافقية يقوم جوهرها على اعتماد الحقائق الموضوعية والعلمية “وليست وصايا في اللوح المحفوظ”. العلمانية في هذا المعنى تعاقد مدني لصالح العقلانية، يمنع الآراء الدينية والغيبية من ان تشكل حجة لأي قرار سياسي يمس المصالح الخاصة والعامة للمواطنين، لان استناد القرار السياسي من سلطة ما الى الحجج الدينية سيتيح اللجوء الى المنطق نفسه من القوى المناوئة، مما يجعل المجتمع ميدانا مفتوحا للنزاعات الاهلية ذات الطابع الديني والطائفي.
في ظل مجتمعات ارتدّت الى الوراء قرونا، وامام سيطرة الخرافة والاساطير على العقل وإلحاق الهزائم المتواصلة بمفاهيمه وقيمه وقواه، تبدو معركة العلمانية، في المجتمعات العربية والاسلامية، وقواها معركة طويلة وقاسية وصعبة، انها كمن ينحت الصخر بإبرة، لكنها معركة حتمية ومصيرية وتستحق الخوض في غمارها الى النهاية.
خالد غزال
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى