صفحات مختارة

الانتصار المستديم وشروطه التي يجب أن نوفر

منصف المرزوقي
نعلم جميعا أننا أمة مهزومة، لكن ما لا يفهمه وما لا يقبله الكثير أن هزيمة الأجانب لنا مجرد عرض هامشي أو تبعة من تبعات أعظم الهزائم، وهذه نحن الذين ألحقناها بأنفسنا.
والهزيمة اليوم الخاصية الأولى للقاعدة ولما يسمى القمة (الأصح تسميتها بالحضيض) ومظاهرها تعمي الأبصار
خذ شعوبا تشاهد قادة -مكان أغلبهم في أي بلد طبيعي سجون الحق العام أو حتى مستشفيات المجانين- يسرقون أموالها في وضح النهار، يسومونها الذل والهوان، يمرغون كرامتها في الوحل، يصادرون الشرطة والقضاء والسجون وسائر دواليب الدولة لمنافعهم الخاصة، يتعاملون مع ألد الأعداء، ثم يورثونها لأبنائهم أو لأصحابهم كما لو كانت قطعانا من البقر.. وهي بلا حول ولا قوة، بل وتلجأ لتبرير قعودها عن حقها بأمثلة ساقطة من نوع “شدّ مشومك لا يجيك ما أشوم” (تمسّك بالسيئ حتى لا يأتيك ما هو أسوأ).
قد يكون عمق هزيمتها، وليس الإيمان، هو الذي يدفع بشعوبنا للجوامع تستجير بالعادل الذي في السماء من الظالم الذي عجزت عن كف شرّه في الأرض.. كما فعلت الشعوب التي حررت نفسها من الظلم والطغيان منذ قرون وتقود اليوم ركب الحضارة.
خذ الأنظمة. بديهي أنها أنظمة مهزومة بكل المقاييس. هي خسرت السباق مع البلدان الأخرى من المستوى نفسه، فما بالك بالتفوق على ما تدعي مقاومته من هيمنة غربية وإسرائيلية.
كما خسرت معركة التقدم الذي وعدت به شعوبها، ناهيك عن فقدانها الشعبية والشرعية والهيبة والمصداقية والشرف، مما يضعها في أخس موضع يمكن لحاكم أن يحتله، وهو التواصل في السلطة عنوة وإكراها محفوفا بالاحتقار والخوف.
خذ الآن النخب الثقافية والسياسية العربية، جلها مهزومة، إما بخياناتها للمبادئ التي تدعيها وهي ترتمي في أحضان النظام السياسي الفاسد الذي حاربت طويلا ثم انتهت للتسليم بانتصاره.. أو مهزومة بعجزها المتمثل في فشلها في تقديم برامج وقيادات بديلة يمكن أن تلتف حولها الجماهير المقموعة
والحصيلة عندما يتضافر على وطن، شعبه ونخبه وقيادته، غرق الجميع في الحروب الأهلية الباردة أو الساخنة.. واستنزاف الطاقات والموارد.. وشل كل قوى الخلق والإبداع وتعمق التخلف داخليا والتبعية للخارج.
هكذا أصبحت أمة لها كل مقومات القوة أضعف الأمم الكبرى وأقلها تحكما في مصيرها، فما بالك بالتأثير في تشكيل صورة عالم المستقبل، بل ها هي اليوم مهددة في وجودها ذاته وقد وضعها الغربيون والإيرانيون والإسرائيليون وحتى الأتراك تحت الوصاية الخارجية، بعد أن وضعها المستبد المحلي تحت نظام الاحتلال الداخلي.
لقائل أن يقول، طيب وماذا بعد العودة من جديد لمعزوفة جلد الذات؟ آخر هم كاتب هذه السطور العودة لعادة كريهة نكاد نختص بها نحن العرب دون بقية الشعوب، فالقراءة لحد الآن لم تصل للانتصارات التي تنتظر في منعرج ما من مستقبلنا، وذلك طال الزمان أو قصر.
هذيان موجوع وطمأنة سحرية للذات؟ أبدا. مجرد قراءة موضوعية للأحداث حيث إن تسجيل عمق هزيمتنا ليس إلا قراءة للنصف الفارغ من الكأس، لكن ثمة النصف الملآن.
صحيح أن هناك هزيمة عامة لا ينكرها إلا غبي أو دعي. لكن ثمة في الطرف الآخر الوعي العام بها المنتشر بقوة وعمق.. ثمة بحثنا المحموم عن طرق تجاوزها.. ثمة قانون القوانين الذي بنى عليه المؤرخ توينبي نظريته للتاريخ، وأن عمق التحديات هو المحرك الحقيقي للأفراد والشعوب، وهو امتداد لقانون إصرار الحياة على الحياة وإصرار المريض على التعافي. بعبارة أخرى ثمة أيضا كل الإمكانيات الموضوعية للنصر.
القضية إذن ليست في تشخيص جديد للهزيمة بقدر ما هي في تشخيص طبيعة النصر المؤمل والممكن بحكم قدرة الحياة والشعوب والإنسان على رفع كل التحديات.
المشكلة أنه من فرط تلهفنا، قصرنا جهدنا على البحث المحموم والمضطرب عن أقصر السبل إليه، لكننا لم نحدد طبيعته.
مثل هذا النقص لا يلغي حتمية النصر وإنما يبعده بجعلنا نضيع كثيرا من الوقت والجهد في الجري وراء أشكاله الخادعة ومنها أننا سننتصر إن انتصرنا على الآخر وبالسلاح تحديدا. آه لو كانت الأمور بمثل هذه البساطة!
المطلوب إذن تحديد طبيعة النصر الضروري لتحقيق قدرنا كأمة تساهم في تقدم البشرية، كشعوب تضمن ظروف عيش كريمة لنفسها وللأجيال القادمة، كبشر إذا ألمت بهم مصيبة لا يهربون من وطنهم وإنما يهربون إليه.
هنا يمكن لكل واحد أن يتقدم بمفهومه وأن تتباين الآراء وأن يعلو الصراخ، لكن ثمة منهجية بسيطة يمكن أن تحظى بإجماع واسع وهي اعتبار الأطراف المسؤولة عن الوضع الحالي وأخذ الأسباب التي أوصلتنا لما نحن عليه، والقول إنها إذا عكست -بما أنها هي التي أعطتنا الهزيمة- فإنها ستقودنا على طريق نصر مستديم
لنبدأ بالذين أولتهم الصدف أو الأقدار أو المشيئة الإلهية شرف ومسؤولية قيادة الشعوب.
هزيمتهم الحالية هي نتيجة تصرفات الشخصانية والمحسوبية التي أعدمت المؤسسات ونشرت الفساد وغذت الصراعات وعممت العنف ومن ثم أهدرت الطاقات.
هذه التصرفات التي نضعها في خانة الاستبداد السياسي هي نفسها وليدة تصورات توارثناها كلنا عن غرائزنا البشرية من حب للتسلط، وأيضا عن ثقافتنا التي رضعنا باكرا مع لبنها المغذي جملة من السموم و”المبيدات” هي بعض المفاهيم والصور منها الراعي والرعية.. السلطة غنيمة حرب.. أنا وابن عمي على الغريب.. رجل كألف وألف كأف.. العاجز من لا يستبد.. تجوز التضحية بالثلثين الفاسدين لإنقاذ الثلث الصالح.. الطاعة لأولياء الأمر واجب ديني.. الخروج على الإجماع فتنة.. إلخ.
كم ننسى أن نظامنا السياسي الفاسد ليس إلا الجزء الظاهر من جبل الجليد الثقافي الذي يضرب في عمق تاريخنا وتاريخ أمم الشرق ولغرب التي ورثناها.
بديهي أن الانتصار هنا هو تخلص من شبوا على هذا العفن الفكري من مثل هذا التراث المسموم وفهمهم أنه من مخلفات الماضي، وأن عليهم استعمال تقنيات العصر في سياسة الشعوب كما يستعملون تقنياته في الاتصال والمواصلات.
بديهي أنه في فهم الجيل المقبل للقادة أنهم لا يستطيعون مواصلة السلف الطالح وإلا فنهايتهم ستكون أمرّ من نهايته.
بديهي خاصة أنه في قدرة قوى سياسية فاعلة على التخلص من كل المتخلفين الذهنيين والأخلاقيين الذين ما زالوا يعيشون بعقولهم المعتوهة ونفوسهم الصغيرة في عصور ولت إلى غير رجعة.
ماذا الآن عن النخب؟ كيف يكون الانتصار هنا؟ بداهة هو في الاضطلاع بدورها الرئيسي أي وضع البدائل وإفشال مخطط الاستبداد وأبواقه التي تعمل بكثير من الخبث على نشر التضليل الإعلامي وثقافة الاستسلام.
المشكل أن كل هذا يمر بالخطاب في عصر، أدى فيه سيل الكلمات والصور ومصادرة الاستبداد لأنبل المصطلحات، إلى حالة من الفوضى الفكرية جعلت الكلام سيفا فقد حده.. أو من الأصح القول إنه لم يعد له من فعالية إلا إذا صاحبته قوة القيم، مما يعني أنه في عصر الإسهال اللفظي، لم يعد للنخب السياسية والفكرية -وذلك أكثر من أي وقت مضى في تاريخنا- من خيار آخر غير أن تكون أيضا وخصوصا نخبا أخلاقية أو أن تختفي كفاعل سياسي واجتماعي.
مثل هذه القيادات الفكرية والأخلاقية أو الروحية والقيادات الجديدة وحدها القادرة على استنهاض الهمم الخاملة والطاقات المعطلة، ناهيك عن تحديد الأهداف المرحلية ورسم الطريق.
لكن هناك عوامل نصر ذاتية موجودة في مستوى ما يسمى الشعب (أي الجماعات المتباينة والمتصارعة أحيانا التي تعيش تحت سيطرة نفس الدولة).
فمن طبيعة التعليم والإعلام، ناهيك عن مثال الشعوب الحرة، أن يشكل حافزا متصاعد القوة لقطاعات تتوسع يوما بعد يوم للمطالبة الحازمة بالحقوق المصادرة، وأولها الحق في التقاسم العادل لخيرات البلد.
منتهى النصر هنا أن يتحول أكبر عدد ممكن من الناس من رعايا إلى مواطنين.. من مفعول بهم إلى فاعلين.
شروط النصر المستديم إذن ثلاثة وهي في آن واحد أسبابه ونتائجه:
1- قيادات راشدة تحكمها القيم (تغرفها ضرورة من الإسلام كثقافة الأمة ومن قيم حقوق الإنسان كثقافة الإنسانية).. تحكم عبر آليات الديمقراطية باعتبارها اليوم أكثر آليات الحكم تطورا، وفي كل الحالات عقلت شياطين الاستبداد داخلها، إما عن قناعة وإما عن خوف من مجتمع يقظ حذر، قادر على ضرب كل عودة لممارسات التزييف والفساد والقمع.
2- نخب تنتج المعرفة وتجسد جملة من القيم ومن أهمها الشجاعة الفكرية والسياسية التي تؤهلها لمواجهة كل انجراف داخل السلطة الراشدة نفسها.. كل هذا دفاعا عن حقوق غير قابلة للتصرف تعتبر نفسها مؤتمنة أخلاقيا عليها ولا تسمح، مهما كلّفها ذلك، لسلطة أو لعصابات أيديولوجية أو لغوغاء بالتطاول عليها ومصادرتها تحت أي ذريعة.

3- شعوب تمتلك، إلى جانب القطاعات الخاملة والمستسلمة للرعايا (وهم الأغلبية حتى في النظم الديمقراطية المتقدمة)، قطاعات مطردة الاتساع من المواطنين أي من الأشخاص الواعين والمتعلمين والمتزايدين حضورا ونفوذا في الحقل السياسي والاجتماعي.. علما بأن من طبيعة هذه الطبقة جر الرعايا ليتحولوا هم أيضا لمواطنين لا لشيء إلا للاستقواء بهم في مواجهة حكم قد يفقد رشده ونخب قد تزيغ
بديهي أن تركيبة اجتماعية مثالية كهذه لا يمكن إلا أن تحل المشاكل الهيكلية للأمة، فنهاية النظام الاستبدادي وتأثير النخب الأخلاقية وتحرر المواطنين من الخوف والمذلة والإحباط، سيطلق كل قوى الخلق والإبداع المكبوتة داخل مجتمعاتنا مع ضمان العمل المتواصل لكل آليات تصحيح الخلل قبل تفاقمه.
بديهي أيضا -بما أن وجود الدكتاتوريات هو السد المنيع أمام أي توحد عربي- أن كل هذه التغييرات ستسمح للاتحاد العربي بأن يرى النور، وهو شرط أساسي لعودة مقومات القوة للأمة.
ويوم ينتهي الاستبداد ويتحقق الاتحاد فإن كل المعطيات ستتغير لتجد الشعوب والأمة نفسها أخيرا خارج الحلقات المفرغة التي تدور فيها منذ نصف قرن، أي لتتعامل بالنجاعة المطلوبة مع كل التحديات الاقتصادية والاجتماعية، ناهيك عن حالة الوصاية الفعلية للخارج التي وضعها فيها نظام الاحتلال الداخلي.
لقائل أن يقول كل هذه حالة مثالية ما أبعدنا عنها. هذا رأي لا نجادل فيه لأن ما نريد إثباته هو عبث البحث عن الانتصار بأنظمة متعفنة، ونخب تعطي التعليمات ولا تعطي المثل، وشعوب مكونة من قطعان من الرعايا وحفنة قليلة من المواطنين.
فما يثبته حاضرنا التعيس أنه في غياب المكونات الثلاثة للانتصار الحقيقي لن نفعل سوى إخفاء ضعفنا أو الانتقال من هزيمة لأخرى.
أي غرابة في هذا والدواء لا يكون بالداء؟ في الوقت نفسه يجب أن نعي أن تحقيق الحكم الراشد وقيام نخب مسؤولة وتوسيع رقعة المواطنين داخل الشعب، عملية ديناميكية خارجة عن إرادتنا الواعية انطلقت بطبيعة قوى الحياة التي تعتمل داخل مجتمعاتنا وداخل كل فرد منا وذلك منذ لحظة تبلور النواقص التي نعاني منها.
صحيح أنه يمكن لهذه العملية أن تتباطأ كثيرا، لكن يمكنها أيضا أن تتسارع بكيفية مفاجئة للجميع وذلك نتيجة نضج الأطراف الثلاثة.
هذا النضج هو نتيجة تضافر ظروف وتحديات موضوعية مع شيء بالغ الرهافة والتقية يعتمل داخل العقول والقلوب. فلا قدرة لأحد اليوم على التنبؤ بما سيخرج في قلب وعقل هذا الحاكم المجدد وذلك المثقف العبقري أو تلك الجماعات المجهولة التي تحمل في الخفاء كل آلام وآمال أمة هزمت نفسها بنفسها شر هزيمة، ولم يبق لها من منجد غير العودة للقانون الصارم “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.
نعم، لا نصر إلا وكان أولا وأخيرا نصرا على الذات لا على الآخر
.
الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى