جهاد صالحصفحات ثقافية

“دوائر” مرح البقاعي في المكتبات الأمريكية

null
جهاد صالح
بجوار نهرالباتوماك في العاصمة الأميركية واشنطن تجلس على مقعد خشبي يتشبث بالرصيف النظيف جدا، تتأمل الحياة وجنون المقارنة، ما بين شرق مغبّر لايعرف سوى نزيف الجراحات، وغرب يبهرنا كالحلم بحضاراته في سباق العولمة، والحرب والسلام، والديمقراطية المستحيلة.
مرح البقاعي الشاعرة الأمريكية ذات العروق الدمشقية المفعمة برائحة الليمون والياسمين الأبيض، يتقطر من عينيها أصالة سورية اختفت منذ أزمان وحقب طويلة في رحى الغبار والتراب والهواء الملوث بالخوف. الشاعرة أخفاها السفر وباتت تعيش عوالم موهوبة باندلاع قوس قزح لا يهين، فهي الغريبة عن وطنها،عن شرقها الماضي عن ذاتها السائرة فيما وراء الطبيعة، تحلم أحلاما غير اعتيادية، وتتقمص أثوابا حريرية سوداء، وتنتظر الصباحات الندية لترفع صولجانات الحزن والألم عاليا، وتقرع الكنائس أجراس حزنها العميق المعتق. حزن مريميّ صامت يتندى في حرفها من مستنقعات حبرها ،الألم في أوراقها قصيدة حية تبتسم مؤجلة الفرح والسعادة لحين اكتمال ثمار الحرية ونضوجها.
مازالت الشاعرة في رحلتها الشعرية الطويلة تختزل في قناعاتها البسيطة على الخطوة الأولى، بعيدا عن وصل النهايات في كينونة الشعر، فهي ترى أن الشعر ليس له نهايات أو قمم أوشواطئ، الشعر في قلبها روح دائمة لاتنتهي بالموت والرحيل، هو صديقها الأزلي، ولهذا نجدها تستقبل ذلك الموت القادم من عالم الغيب بشجاعة وجرأة متمردة، بل هي تهرول نحوه في عقر عشقها للحياة، ولكن في كرنفال مليء بالثمالة والتجرد.
تحتفي بالموت قبل أوانه،غير عابئة بالخوف من اللحظة المجهولة، في سريالية ورمزية مجنونة لايفقهها إلا الشعراء، تكتب بأناملها حكاية السفر إلى مدينة الموت الخيالية، وتحدثت عن عرس موتها المستقبلي ورسم طقوسه، تقول :
لقد اخترت حياتي بصورة مجزوءة، وأنا أختار شكل موتي مكتملا  هنا في الولايات المتحدة ـ الوطن المختار . فأنا من أصحاب طريقة حرق الجثة Cremation، إثر الموت، وهذه البلاد  الطافحة بالخيارات، تؤمن حرية اختيار الفرد لطريقة الانتقال من هذا العالم إلى عوالم أخرى، وأنا  تخيّرت “صراط النار” لموتي، تماما كما اصطفيته نهجا لحياتي. وإذا سألتني عن قبري، فقد اخترته على الانترنت، وهو هرم أسود يوضع فيه رمادي إثر احتراق كامل”.
لكن حلمها لم يكتمل حين رفض الموت أن ينهزم أمام طغيانها الشعري، وليعلن لها وللشعر أنه وحده المنتصر دوما، فيباغتها بالشعر نفسه، مختطفا الشاعر محمود درويش قبيل أن تعلن عن طقوس موتها بأيام، ساحبا معه قماشه الأبيض وتراتيله. وكأن درويش يوصيها أن تظل تقاوم، وأن تحتفي بالحياة بدلا من مناورة الموت، وأن تحمل شعلة الشعر من بعده مع آلهة النار على الأرض.
تتجدد فصول القصيدة في وعيها كما الشجر الذي يموت ويحيا ، يشيخ ويتشبشب، ما بين شتاء وربيع، فتزهر أصابعها قصائد بيضاء كالثلج حين يغطي سهول بلودان، رغم أنها ما زالت تحمل في سلالها القصبية دواوين شعرية مزركشة بألوان الطبيعة :
(الهروب إليه 1987 – وجه النار الآخر 1988 – ماء ولغة 1989 – جولييت تنهض من قبرها 1991 ).
فهي هبطت نحو الأمام، وقفزت من الكتابة إلى جانب اللغة العربية إلى الكتابة باللغة اللاتينية ليكون صوتها الشعري مسافرا يحلق في فضاءات الكون، ضيفا شرعيا على العالم الإنساني المتعدد الثقافات والأجناس في تمرّد وكسر لجليد اللغة الواحدة التي تأسر الكاتب، ولترسوا آهاتها على ضفاف المدن الأرضية البعيدة. حيث أبدعت حين قدمت إلى الأدب ديوان شعريا باللغة الانكليزية وسمته “O”  عنوان لفلسفة قصائدية غريبة، وإيحاءات شهية وعذبة ما بين الواقعية والخيال، وما بين الأسطورة والملحمة. وهو صادر عن دار نشر الوارف في واشنطن التي تملكها البقاعي  وتديرها في مقرّ إقامتها هناك. الكتاب سجل حجم مبيعات لافت في كبرى مكتبات الولايات المتجدة بارنز أند نوبل، وكذلك على موقع أمازون وموقع نيل وفرات
في عنوان الكتاب تخبرنا أن نجلس ونحيا في ظلال الكمال المكاني والزمني، نرسم دائرة كبيرة لأحلامنا وأمانينا، ونقتطع منها دوائر تسرد الحياة،  ولم  نحن موجودين، وقد نفهم ونستوعب حينها الفارق ما بين الخير والشر، وسر إنسانيتنا المقدس، ولحظتها يتبخر ويختفي كل الظلم عن وجه الحياة ونعيش زمنا بلا حروب، بلا سجون، وبلا فقر.
اسم الديوان وتسميته انحدر  من عنوان إحدى قصائد المجموعة وهو” آه” بالعربية؛ والحرف “O” بالانكليزية يكتب بشكل دائرة، التي هي المعادل التشكيلي للرقم 3 ـ ” الثالوث” ـ رمز الكمال في الحضارات القديمة. إنها، أعني الدائرة، الرمز الكوني للحركة، فالكون يتحرك في دوائر لا تنتهي، والصوت الشعري ليس سوى دائرة في لجّة تلك الدوائر.
انعقدت مجموعتها في 28 قصيدة تمحورت حول تراتيل الحب والحرية المنشودة، التحاور، الحلم، صولجانات الحياة، الأسئلة، الجزر، غوانتانامو، الوطن، الأنثى، الشرق والغرب، الحضارة، الأمنيات، المونولوج الداخلي، الخطيئة، الشهوة والجنس……
الديوان هو فلسفة متناقضة الرؤى والاتجاهات، يعكس عوالمنا من خلال  مراياه الشفافة، تضع الشاعرة القارئ أمام الغوص في الفكرة ليبدأ بفك الشيفرة الشعرية التي ساقتها الشاعرة إلى مداراتنا، فتتساءل هي عن ذاتها الأنثوية، و عن الشخوص الذين يسرقون ظلالها ويرحلون إلى العدم، ولتظل هي سمكة هادئة في المياه المعتمة، تحتفظ بمشهد وجمود الشعور بالوحدة لهول المنظر وقساوته. تقول البقاعي في قصيدة أنثى السؤال:
“كلٌّ غادرَها إذ قبعت إلى قفص أنثاها، مظلمةً كسمك الأعماق، مضيئة كصفعة.. كل غادرها عن جهل بها أو عن تحفّز. كل غادرها لأنها المحرق والجامح إذ اجتمعا.
المزيد كان هاجسها، الملدوغ مستساغها، والأقصى إذ هبت في السفر مرتجىً وسؤددا.
لم ترتجل حُبّاً إلا وضاعفت لظاها في التهوّر..
لم تعاقر قصيدة إلا واستباحها فيض العبارة.
مرهونة إلى انشطار اللحظة، محفوفة بسكِّين الإشارة
مدلهمّة بفوضى السؤال اللامباح..
تغمض عينيها لتحلم بجزيرة خضراء، صغيرة، لكنها تعيش محاطة  بكل غريب عنها.  يوقظها الموج بمائه لتعيش نهايات الحلم الحزين:

“هي جزيرة ملفوحة بأخضر
مشغولة من فوضى الغرباء.
بدفق يرجع الريح إلى غاياتها أنتفض كأوراق شاعر
ينتابني وهن أو حنان
أحاكي الجزيرة بذائقة القابض
تتبعني زعانفي ملكيّة
يتداولني الماء جرعة جرعة
فأكون: الكلام”
تدخلنا في متاهات وأنفاق، وشخوص عابرة تأتي وتختفي في دورة الزمن. وتتحول إلى ذكريات عزفت يوما ماضيا على طبول الشهوة والجسد، حتى لايجف ماء البحيرة، ويظل الزيت طافيا في شق الهضبة وظل الأنثى المُستصرِِخ في مَن مرّوا من هنا ورحلوا، وهكذا .. ظل وراء ظل، وصعقة  تلي الصعقة:
“عاريةً الفاكهة
هكذا يصفعني المارّون بصولجانهم/الأفعى
هكذا يردُّون على شهوتي الغطاء
هكذا يستحضرون زيت الراحلين
كي لا أموت
ابتزازاً”
الشاعرة في صراع  عادل على إسفلت الخطيئة مع الآخر المختفي، فهي التي خلفت من وراءها وطنا مكبلا بالحديد والسلاسل، وتحلم وتعمل لأجل حياة حرة لامتناهية، لهذا نجدها كامرأة سجينة  في سجن غوانتانامو ألقى ذلك بظلاله على ديوانها :
أزحف عارية السريرة
على جمر من حَجَر خطيئتك والكَرب
عليك أن تواجهها
ساطعاً وعالياً
لتسمعك على الأقل كل الضباع العطشى:
لقد انتهكت حقوقي في مبارزة عادلة”
على جدار الذاكرة رسمت البقاعي ألوانها، في طفولة  فضّت براءتها قوى قاهرة غيبية، واستطاعت أن تضيف إلى حسها الشعري والحياتي فلسفة متعددة الألوان والجوانب الفكرية والثقافية، وتغني الأدب الإنساني بحلم قادم من الشرق. ونجحت في أن ترفع راياتها  بغير لغتها الأم، وحققت نتيجة مهمة جدا وهي أن الشعر لايعرف الهوية أوالجغرافيا، وأنه يقهر كل اللغات والحواجز والرقابات، فهو الكينونة في دوائر فضاءات الروح والجسد، والحياة التي لاتعرف الموت العادي التي لا تريده مرح البقاعي.
. بيروت  2008

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى