صفحات ثقافية

عـن إرادة الكتابـة

null
نصر جميل شعث
هنا، في أي مكان، هذا القلقُ يُحدِّق في المارّين المعرَّضين للشبابيك والوحشة والزوايا والإثم والحلم والدخان والموت الرخيص. والسرعة تُصدِّع وتَشوِّه صمودَ الإرادة بقوةٍ منتشرة ووقحة وساخرة تطلّ كرؤوس الشياطين من الأنحاء، ومن تفاصيل الظروف المعيشية التي تهدِّدنا، وتختزلنا في تسميات المستهلكين والجوعى والمهزومين والمذعنين والبلهاء. هذا ما يجعل الكتابةَ مدعوّةً للكتابة.
وإنّ شقاء الكتابة فيه من السعادة؛ كونه ينطوي على إرادة صبورة ومفكّرة وفكهة وغير ممتثلة للسذاجة وللمتاجرة وللادعاء بحبّ هذا الوطن الذي يشهد تطوراً داخليّاً مؤسفاً من لدن السوقة والإنتلجنسيا!
إنني لن أتمخض عن صورة شعرية أكثر أسىً وسخريةً وقدرةً على اختزال وصفي لما في السطح والعمق؛ كالتي تصوِّرُ، الآن، علمَ بلادي على السطح يرفرفُ وظلُّه يُحدثُ الضجيج على وجه قطعة صفيح في قرار حُفرة. فكلما شئتُ أن أتطلّع للأعلى برومانسية لا تخلو من الشهداء ـ مُتحيّناً إشراقَهم ـ نكّسَ الظلّ رأسي! هكذا هي جماليات الحداد، وهكذا الشعرُ يُكرِم الشهداء. وهكذا أمام المنظر جالسٌ أقشّرُ الوعي والأشياء!
وكلما تقدّمتُ عدتُ إلى طفولة الصورة: عندما، في الصباح، كان الصباح في شفاه المَدْرَسَةِ، مُماثِلاً، في الحقيقة، لكون الله في شفتي أمي.
المدْرسة تذكّرني بأنماطٍ مختلفة من الزملاء والمُدرّسين. هناك من المُدرّسين من فقد ميزة التفكير وموازنة الأمور؛ لكثرة ما رَدّدَ النصوص. اِفتحْ عقولَهم تَجِد صُفوفاً ولوحاتٍ مشاغبةً، وقهرا كبيراً، وبحيراتٍ ساخنةً وحنيناً وقواربَ مُرتجلة. الواضح هو الواضح، مثلما أنّ الغامض هو الغامض. لكني أتذكّر، الآنَ، مُدرّساً تمخّضَ عن نوبة رفض واختلافٍ وما تيسّر من عقل الجنون. كلما رمقته، من بعيدٍ، في تجلياتٍ مفاجئة؛ أتصرّفُ تجاهه بحساسية واحترام، مستجيباً لنوبة تأمّلٍ وتواصلٍ حميمٍ غيرِ معهود. المدرسون في ذاكرتي نصوصٌ ورموزٌ متراكمةٌ، ومعانٍ متراصّة كذرّات الملح والسكّر. فما الذي يدعوني للكتابة بهذه الإرادة؟ الموت وحده دائماً لا يُنسى ولا يَنفَد!
(…..)
الصورة بابٌ مفتوحٌ على ممرّ، وإطار البابِ أحمرُ، وجوهر البابِ فجوة. وأنا في الممرّ أغسلُ عينيّ بالبحر، ويديّ بالتضرع والهواء. الصورةُ سوداء، والستائر سوداء على بدن الزجاج؛ حتى الوعي والحواسّ في حليب الأم مُعارضانِ، ومُعرَّضان للصورة والزجاج، غير أنّه من حساسيتنا نحنُ المشّاءين ـ ليلاً ـ تجاه الهيولى والكومة الملقاة على هامش الشارع؛ نرى الحياة جوهرةً، من بعيد، إلينا تشير. ومِنْ حساسيّتي، في الصباح، تجاه الندى والشاي وعافية القلب والديك والمرآة وبنط الفضيلة في صوت جدّي وترنيمة البائع الجوال تجيء القصيدة فردية؛ مثل بلورة دَحْرَجَتْ نفسها باتجاه يدي.
في الحساسية الأولى: أنا كنتُ نحنُ. وفي الثانية: أنا أنا؛ أجعل الطبيعة والموضوع في تجّلٍّ لي. وأما الصورة الموضوعية، فهذا التحوّلُ مِن نحنُ إلى أنا؛ يظلّ مداناً، كونه يفضحُ ترسيمة وخطاب الأنا المحتكرة. بما هي (إرادة القوة) كمفهوم وضعي متعسّف. غير أنّ اللغةَ ملكي، والأرض ملك الشعرِ، وليست ملكه!
(…..)
إننا نعيش المشهد الكابوسي المحلوم والمعيش سواءً بسواء. ففي خلفية البيت نعامةٌ، وفي داخل البيت أفعى تنظر وتقيم، وتمضي للخارج. وتقف النعامة في فسحةٍ تتضاءل، على رِجْلٍ واحدة. وقد التفّتِ الأفعى على النعامة، وبعضلاتها الضاغطة كسرت رجلها الأخرى. فصرنا داخل الحلم الواقعي أو الواقع المحلوم أسرى صراع السؤال: هل خرجتِ الأفعى أم كمنتْ في البيت؟ في نصّه (حَجَر الورد) يقول الأديب الفلسطيني المتعدد الراحل حسين جميل البرغوثي:
(قلِّب كلماتي تدرك أين تقيم الأفعى، عندما تغترب تتساقط يا عبدُ، وعندما تتساقط تتحوّل، والعزلة زنبقة بيضاء ماطرة للبعض، وللبعض لعنةٌ، بورك الحبيب).
ما جئتُ به، وجاء به الراحل بوحٌ كابوسيّ وأسطوريّ ورمزيّ مُخيف وغامض، حدّ أنه رائع وشعريّ؛ طلباً للّطف وحياة الإسقاط والترميز. طلبًا لـ( سيغموند فرويد)؛ من أجل تحليل النفسية مُصوَّرةً في الأفعى، مثلما كان حلّل بشكلٍ رائع وخطير: فقرةً كان تحدّث فيها ليوناردو دافنشي عن طيران النسر. مقاطعاً نفسه فجأة ليتتبع ذكرى من سني حياته المبكّرة جدّاً، طرأت على ذهنه. يقول دافنشي: (يبدو أنه قد قدّر عليّ من قبل أن أشغل نفسي تماماً بالنسر، فإنه يطرأ على ذهني كذكرى قديمة جدّاً، فحينما كنت لا أزال في المهد، هبط عليّ نسر، فتح فمي بذيله، وضربني عدة مرات بذيله على شفتي). نحن بحاجة، كذلك، لـ(ليفي شتراوس)، لوصف بيّن القرابة بين الأسطورة والواقع، بين الأفعى والنعامة، وبين النسر والأفعى. لكن الأفعى، على أي حالٍ، كقيمة مزدوجة! وإنني في غياب الإجابة أسمي الأفعى (إرادة القوة). وأسمي النعامة، هذه الكائن الطبيعي أو الكائن المكسور، بـ: (إرادة ناقصة) وعاجزة؛ يمكن اعتبارها مثالاً لإرادة السياسة الكهْلة التي تسعى لها ـ الآن ـ الأفعى الشابة، وتكمن فيها. هذه النعامة تقف على أرض صلبة، وأمامها جدار لا يسمح بممارسة فنّ دفن الرأس. وهذه الأرض الصلبة تمثِّل ضعف الإمكانية. غير أن هذا الوقوف على رِجْلٍ واحدةٍ يظلّ منقسماً على تأويلين: صمود الإرادة، أو نقصها وعجزها أمام (إرادة القوة)!
(…..)
فأن نجعل الإرادة للحياة، هذا واجبنا كأبرياء. وإذا كان التاريخ يغسل نفسه بنفسه، فهذا يدلّ على نضج كافٍ فيه، وسيجعله مسؤولاً عن ذاته مسؤولية لا محيد عنها. وأما الدماء التي تجري، وأما القلق والتوتر…؛ فإنّ علينا أن نتفاءل بيومٍ ما فيه يغسل التاريخ نفسه في حوض البشرية البكّاءة. عندها يقْدر الوعي أن يرى البراءة داخل الناس وحركة الشارع. إن هذا (المقال) هو نتاج لحظة خاسرة وقلقة ويملؤها شجنٌ كونيّ أصيل، ولكن شفيعها الوقار. دون أن يفقدها ذلك هيبة الانفعال لمصلحة الوطن، بمعناه القريب، وبمعناه البعيد!
(غزة)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى