الطاهر إبراهيمصفحات سورية

الطريق إلى السلطة في سورية .. أين يبدأ، وكيف ينتهي؟

null
الطاهر إبراهيم
تقتل الأنظمة القمعية من شعوبها بالآلاف، بحجة أنهم معارضون، وأنهم يتآمرون على الوطن، فلا بد من إنهاء خطرهم، قتلاً أو اعتقالاً أو تشريداً. والأنظمة تقتل أعوانها–أيضاً- إذا ما تلفظ أحدهم بكلمة تشي بعدم رضاه. قد تخاف أن يعترف لدى المحاكم الدولية بتنفيذ جرائم كلفه بها قادة النظام، فَيُقتَل بحجة أنه أصبح خطراً على الأمن القومي. “ويا ويله ويا سواد ليله” إذا شكوا بأنه يسرب وثائق تدين النظام. عندها يرسل النظام إليه سيارة لا يدري سائقها أنها تحمل 200 كيلو غرام متفجرات. فإذا ما مرت بجانبه تُفجَّر ب”الريموت كنترول”، فتقتله وحده –أو تقتل معه آخرين- ولطالما خدم النظام. لكن المصلحة اقتضت إسكاته، وربما إسكات ابنه معه كي لا يسلّم هذا الابن ما بحوزته من وثائق تدين النظام إذا ما وصلت إلى المحاكم الدولية.
ويبقى السؤال: هؤلاء الأتباع يرون بعيونهم كيف يصفى زملاؤهم الذين حامت حولهم الشكوك رغم خدماتهم! فلِمَ لا يدرك هؤلاء أن “الدور” سيأتي عليهم عاجلاً أو آجلاً بعدما أدوا ما طلبته منهم الأنظمة فأوغلوا في دماء الأبرياء قبل المذنبين لحساب الأنظمة فقاموا بتصفية خصومها؟ كنت كتبت في مقال سابق، بأني أرفض هذا الأسلوب عقوبةً، وأرفضه عدواناً. لأن إزهاق النفس البشرية من دون محاكمة، مهما كان الذنب، جريمة كبرى وعدوانٌ غير مبرر، كما أن فيه تضييع للحقيقة التي ستموت مع موت الذين تمت تصفيتهم بالقتل.
يبدأ المشوار عندما يدخل الشاب إلى الكلية الحربية ويتخرج ملازماً ثانياً، ويضع نفسه تحت تصرف الأنظمة الانقلابية. يمشي في الشارع مزهوا بين أهله ورفاقه ينظر إلى النجمة الأولى على كتفيه، وهي تلمع في ضوء الشمس. تتوالى النجوم على كتفيه، وتكثر معها الجرائم التي يرتكبها بحق أبناء وطنه، بل قد يكونون من جيرانه في الحي. في البداية يبرر لنفسه أنه “عبد المأمور” . فإذا تحولت النجوم إلى نسر ونجمة على الكتف، ثم نسر ونجمتين ثم ثلاث، عندها يستسهل القتل وكأنه يذبح خروف العيد. بل ربما كان في صغره يجفل من دم الخروف، وهو الآن يخوض في دماء العشرات وربما المئات ولا تطرف له عين.
ومع تقدمه في الخدمة يبدأ تطلعه ليكون مكان فلان في المنصب والرتبة. لكن القيادة تفكر في اتجاه آخر. فهذا العميد أو اللواء أصبح يعرف أكثر مما ينبغي، وأصبحت طموحاته أكثر مما هو مسموح به لأمثاله. قبل أن يوضع حداً لطموحه تكثر طلبات القيادة منه، فيقدم على التنفيذ، وهو يعتقد أن ذلك يقربه من هدفه، ولا يدري أن ذلك يدنيه من نهايته وحتفه. وقد لا يجد وقتاً ليكتب وصيته، فتأتي سيارة طائشة، -حسب ما يذاع وينشر- لكنها محسوبة بدقة، وهكذا تكتب نهايةُ الطموح بدمه المسفوح على مذبح القضية! (أي قضية)؟ وعندما يفكر في السلطة، ينسى أن درب هذا السلطة سيوصله إلى إحدى غايتين: إما كرسي الرئاسة أو الاغتيال. والكرسي لا يتسع إلا لشخص “المعلم الكبير”، ولا يبقى أمامه إلا الاغتيال. ولا تنسى القيادة أن تكرمه بعد ذبحه، فترسل من يضع على قبره إكليل زهور ويكتب على قبره “شهيد الواجب”، (أي واجب)؟ ويرقى إلى رتبة عسكرية أعلى. وكما يقال: يقتلون القتيل ويمشون في جنازته.
هذا الموجز يلخص طموح مئات الضباط الذين تخرجوا من الكلية الحربية. وبدلاً من أن يكون طموحهم لقتال “إسرائيل” التي ما زالت تحتل فلسطين وتحتل الجولان السورية، ينصرف همهم وطموحهم إلى السلطة. رئيس الوزراء الأسبق “محمود الزعبي” كان مديراً عاماً في “حوض الفرات” عام 1975 ثم رقّي حتى صار رئيساً للحكومة لأكثر من 15 عاماً، ثم انتحر أو نُحِر، لم يكن أول من قتله طموحه، وقد لا يكون الأخير. اللواء “غازي كنعان” قضى عشرين عاماً حاكماً بأمره مفوضاً سامياً في لبنان، ثم رئيساً لإدارة الأمن السياسي بدمشق، فوزيراً للداخلية. لم يكن أول من انتحر أو نُحِر في مكتبه، ولن يكون الأخير. العمداء: “محمد سليمان” و”عبد الكريم عباس” و”إبراهيم الغربي” كانوا يصولون ويجولون وهم ملء السمع والبصر. لم يكونوا أول من قتله طموحه في مسيرة السلطة، ولن يكونوا الأخيرين، ولقد أصبحوا في “طرفة عين” خبراً في صحيفة أو عنواناً في نشرة أخبار متلفزة.
المشوار في سورية كان دموياً على طريق السلطة. “حسني الزعيم”، أول انقلابي، حكم سورية أربعة أشهر ونصفاً. في نهايتها صعد إليه أعوانه وهو في “العلية” فذبحوه، وسحبوا جسمه وهو يسمع لرأسه طرقات على درجات الدرج التي طالما سمعت طرقات حذائه العسكري، صعوداً وهبوطاً، (رواية “نصوح بابيل” نقيب الصحفيين وصاحب صحيفة الأيام.. الرواية الأخرى أنه أعدم هو ورئيس وزرائه “محسن برازي” في حقل رمي عرطوز جنوب غرب دمشق). قيام الوحدة بين مصر وسورية عام 1958 أنهى حلقات مسلسل الانقلابات مؤقتاً، ليستأنفها المقدم “عبد الكريم النحلاوي” مدير مكتب المشير “عبد الحكيم عامر” – وقد كان الضابط المقرب من المشير- في 28 أيلول عام 1961، وقامت دولة الانفصال.
وأنهى اللواء “زياد الحريري” حكم الانفصال بانقلابه يوم 8 آذار. وخلال أقل من أربعة شهور أطاح البعثيون بزياد الحريري وهو في زيارة للجزائر، كما أنهوا شركاءهم الناصريين. بعد أن خلا للبعثيين الحكم، بدأ مسلسل التصفيات فيما. منهم من أزيح سِلْماً، وآخرون احتاج الأمر معهم إلى انقلابات. وانقسم البعثيون إلى قوميين وقطريين. استطاع القطريون طرد القوميين من السلطة بانقلاب 23 شباط عام 1966 وأدخلوهم إلى المعتقلات. بعدها تفرغ “الشباطيون” ليصفي بعضهم البعض. استغل “سليم حاطوم” قائد كتيبة المغاوير زيارة أعضاء القيادة للجبهة فقام باعتقالهم، فهدده اللواء حافظ أسد بقصفه بالطيران هو وكتيبته فهرب خارج سورية.
ألقت هزيمة حزيران عام 1967 بظلالها على مجموعة الحكم، واستؤنف مسلسل التصفيات من جديد. انتحر “عبد الكريم الجندي” أو نُحِر. (قيل في سبب ذلك أنه اتهم قيادات بارزة في الجيش بالتخاذل أثناء هزيمة حزيران، بعد ما اتصل به عبد الناصر يشكو له تقاعس الطيران السوري عن الدخول في المعركة، بعد أن تحطم الطيران المصري وهو جاثم على الأرض).
بعدها انشطر “الشباطيون” إلى شطرين: عسكريين يقودهم وزير الدفاع “حافظ أسد”، ومدنيين يقودهم “صلاح جديد” الأمين القطري لحزب البعث.
في هذه الأجواء المكفهرة بين الطرفين انعقد المؤتمر القومي العاشر في 13 تشرين ثاني عام 1970. قرر المؤتمر وضع “مصطفى طلاس” و”حافظ أسد” تحت تصرف القيادة. فعاجلهم هذا الأخير بانقلابه عليهم في 16 تشرين الثاني، واعتقل أغلب المؤتمرين، وأنهى النزاع لصالحه، وليدوم حكمه ثلاثين سنة كاملة، أخرج فيها حزب البعث من معادلته العقائدية. وبدأ بمن حوله من العسكريين المقربين معادلة جديدة في الحكم، انتهت بموته يوم10 حزيران عام 2000.
قد يستطيع “فلان” أن يفخر أنه استطاع أن يحكم البلد بيد من حديد. وقد يقول “علان” أنّ حكمه للبلد كان حكماً مستقراً ردحاً من الزمن. لكن لا أحد من كل هؤلاء الانقلابيين الذي مروا على سورية، يستطيع أن يزعم أنه نام في سريره ليلة واحدة آمناً، ما لم تكن في حراسته كتيبة كاملة ، وما لم تستنفر نصف كتائب الحرس الجمهوري. وإذا ما ذهب إلى صلاة العيد رافقه أسطول من السيارات المرسيدس بلون واحد حتى لا يعرف في أي سيارة يركب؟
للمفارقة، وللذكرى فإن الرئيس “شكري القوتلي” كانت تقله سيارة الرئاسة إلى بيته. ثم يأمر السائق أن يعود بالسيارة إلى مرآب الرئاسة. وإذا ما احتاج إلى سيارة بعد الدوام، فإنه يستقل سيارته الخاصة، ويخرج من دون حراسة، فما كان يخاف من متربصٍ به، لأنه لم يؤذ أحداً.
* كاتب سوري
المركز الإعلامي للاخوان المسلمون في سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى