صفحات العالم

بعد موافقة البرلمان على قانون الانتخابات: هل يعود البعثيون الى حكم العراق؟

بغداد ـ شاكر الأنباري
باندماج جبهة الحوار الوطني بقيادة صالح المطلك، وحركة الوفاق الوطني بقيادة رئيس الوزراء السابق اياد علاوي، برزت ردة فعل عنيفة من قبل الأحزاب الاسلامية الشيعية، تمثلت بالترويج الى أن هذا التحالف سيعيد البعثيين الى السلطة والبرلمان من النافذة، بعد أن خرجوا من الباب في التاسع من نيسان عام 2003. ولردة الفعل هذه أوليات كانت سائدة في الساحة السياسية. تلك الأوليات ترتد الى سنوات خلت، ومنها الاختلاف حول مفهوم المصالحة الوطنية، وهوية العراق العربية، والعلاقة مع ايران.
وكان أعنف تصريح لرئيس الوزراء نوري المالكي، في واحدة من اجتماعاته ببغداد، تحذيره البرلمان من دخول البعثيين تحت قبته. وتزامن هذا التصريح مع اندماج جبهة الحوار الوطني وحركة الوفاق في ما عرف بالحركة الوطنية العراقية. صالح المطلك من القادة الجدد الذين برزوا بعد سقوط النظام، ويمتلك توجهات قومية، وساهم مع خلف العليان في تأسيس جبهة الحوار الوطني قبل أن ينشقا الى شقين، ليؤسس العليان بعدها مجلس الحوار الوطني الذي انضم الى جبهة التوافق السنية، بينما خاض المطلق الانتخابات وحيدا. وكانت الجبهة في البدء تتبنى خيار المقاومة ضد الأميركيين، واستطاعت ان تجمع حولها كثيرا من البعثيين السابقين، خصوصاً في المناطق السنية. لكن صالح المطلك بعد ذلك استطاع ان يجذب الشيعة الى الجبهة ايضا، وذلك من أجل ابعادها عن اللون الطائفي الواحد، وليطرح برنامجا على أساس عراقي وطني، وليس مناطقيا أو مذهبيا. وفازت الجبهة باحدى عشر مقعدا في انتخابات عام 2005 الا انها لم تدخل الحكومة، بل اعتبرتها حكومة محاصصة طائفية.
في حين كان اياد علاوي بعثيا حتى بداية السبعينيات، ثم انشق عن حكومة البعث واستقر في لندن، وأسس حركة الوفاق الوطني التي ساهمت في أعمال مؤتمر لندن للمعارضة العراقية بداية التسعينيات، وتعرض الى محاولة اغتيال فاشلة. وعاد الى بغداد ما ان دخلت الدبابات الأميركية الى القصر الجمهوري. أصبح علاوي عضوا في مجلس الحكم الذي أسسه بول بريمر، حاكم العراق المدني آنذاك. ويعتبر اياد علاوي من الداعين بقوة الى المصالحة، خاصة في فترة اندلاع التمرد ضد العهد الجديد في السنتين اللتين أعقبتا سقوط النظام. وخلال حكمه كرئيس للوزراء أرجع الى الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية كثيرا من الضباط الكبار أو من البعثيين السابقين، واعتبر علاوي حتى فترة قريبة العدو رقم واحد لايران من بين الطاقم السياسي الذي اعقب سقوط صدام حسين. ويقال ان ايران وضعت فيتو على رجوع اياد علاوي الى رئاسة الوزراء او تسلم مهام ذات منصب عال في الدولة العراقية.
بعد مجيء حكومة ابراهيم الجعفري ارتفعت حدة التمرد الى ذرى عالية. وكان للبعثين والقاعدة بصمة واضحة في تزعم ذلك التمرد، معتبرين ان النظام الجديد غير شرعي، وطائفي، وعميل لايران. في تلك الأثناء برزت الاصطفافات الطائفية بشكل حاد في انتخابات عام 2005 ثم اعقب ذلك تفجير الضريحين العسكريين في سامراء الذي اشعل تصفيات طائفية كادت ان تتحول الى حرب أهلية بين السنة والشيعة. في حمأة الصراع ذاك، كان التغلغل الايراني في الساحة العراقية عن طريق الأحزاب الدينية الشيعية، تصاعد الى مديات شاسعة خاصة في البصرة، والعمارة، المحاذيتين لايران. وكذلك في تسليح الميليشيات وتمويل الأحزاب الموالية، مما دق ناقوس الخطر لدى عدد من الفصائل المسلحة، والفصائل السياسية التي كانت تتبنى شعار المقاومة، مثل جيش المجاهدين وفصائل ثورة العشرين وحماس العراق وغيرهم.
دخلت تلك القوى في تحالف مع الأميركان ضد القاعدة باعتبار ان الأميركان أقل خطرا على وحدة العراق من ايران. وهذا ما قاد لاحقا الى تأسيس الصحوات، ثم دخول عدد من القوى السياسية الى الحكومة الجديدة التي سميت حكومة التوافق الوطنية. وفي هذه الفترة برزت ظاهرة المصالحة الوطنية. وظل مفهوم المصالحة الوطنية غامضا وهلاميا، ويفسر حسب رؤية الطرف هذا أو ذاك من المصالحة. بعض القوى فسرت المصالحة على انها ستجري بين السنة والشيعة، فحدثت اجتماعات عشائرية لتأكيد المصالحة خاصة وان اغلب العشائر العراقية منقسمة بين هذين المذهبين. وبعضها الآخر فسرها على انها مصالحة بين الأحزاب السياسية التي تقاطعت جذريا في رؤيتها لوضع العراق، على سبيل المثال المجلس الأعلى الاسلامي يمتلك علاقات واسعة مع ايران، ويتبنى كما يلاحظ المراقبون توجيهات ايران في السياسة الداخلية العراقية. فيما يقف الحزب الاسلامي على عداء كبير مع ايران، وكذلك حركة الوفاق الوطني التي يقودها اياد علاوي، وجبهة الحوار الوطني. فسرت المصالحة الوطنية على انها مصالحة بين هذين الاتجاهين على سبيل المثال.
بينما فسرت حركة الوفاق الوطني وجبهة الحوار الوطني ان المصالحة ترتكز على المصالحة مع البعثيين خاصة، وطالبوا بالغاء الفقرات الدستورية التي تمنع الحزب من ممارسة دوره في الحياة السياسية، الا من تلطخت أياديهم بالدماء. واللافت هنا أن المحاصصة الطائفية سرت ايضا على مفهوم المصالحة الوطنية مع البعثيين. فالكفاءات البعثية الشيعية من ضباط كبار، وأكاديميين، وقضاة، تم استيعابهم في الأحزاب الشيعية الدينية، بينما تم اجتثاث السنة في دوائر الدولة وفي المحافظات، وانظموا الى الأحزاب العلمانية او الدينية في مناطقهم. وهذا ما دعا بقية الأحزاب الى الاعتراض على طريقة المصالحة تلك، واعتبروها انتقائية وتكيل بمكيالين، وهذا ما لوحظ في قضية اصدار الأحكام القضائية في اعتقال بعض المسؤولين في الدولة، أو رفع الحصانة عن البرلمانيين ممن اتهموا بالمشاركة في اعمال ارهابية أو دعمها. وهذا ما حدث للنائب محمد الدايني. وهو بالمناسبة تابع لجبهة الحوار الوطني، واتهم بتخطيط وتنفيذ انفجار كافتيريا البرلمان قبل سنة، عبر حماياته وحصانته الأمنية. وصدر أمر بالقاء القبض عليه الا انه هرب خارج البلاد، بطريقة تشبه افلام جيمس بوند. وقيل انه تم القاء القبض عليه في ماليزيا وهو يحمل جواز سفر مزور، وثمة مساع لتسليمه الى الحكومة العراقية.
لكن في السنتين الأخيرتين تفتتت الائتلافات الطائفية بشكل واضح، خاصة الائتلاف العراقي الشيعي، وجبهة التوافق السنية، وبدأ الواقع العراقي يميل الى معارضة الاصطفافات المبنية على المذهب. وشرعت معظم الأحزاب والكتل تتبرأ من تهمة انغلاقها على طائفة بعينها. اما مفهوم المصالحة الوطنية فتجاوزته الأحداث بعد الاستقرار النسبي وهدوء التمرد. وأصبحت سورية، التي تؤوي بعثيين عراقيين من جماعة محمد يونس الأحمد، متهمة من قبل جهات رسمية في التفجيرات الأخيرة التي طالت وزارات ومؤسسات مهمة. على ضوء تلك الحقائق، بدا التفتت واضحا في الائتلافات التي ظهرت مؤخرا لخوض انتخابات عام 2010.
الائتلاف الوطني العراقي أدخل بعض القوى السنية لكسر لونه الواحد. وحدث الأمر مع ائتلاف دولة القانون الذي يقوده المالكي، رغم ان الائتلافين ما زالا يتصفان بالمذهبية. لكن وجود اكثر من اصطفاف في بيئة مذهبية واحدة جلب الارتياح لمعظم الناس. وكذلك ائتلاف وحدة العراق بقيادة جواد البولاني وزير الداخلية مع صحوة العراق بقيادة أحمد أبو ريشة. لكن ما ان اندمجت حركة الوفاق الوطني وجبهة الحوار الوطني حتى تغيرت الأجواء السياسية تماما. فمواصفات هذا الاندماج رسخت وجود كتلة ذات توجه قومي واضح، لا يرى في حزب البعث وأفكاره تهديدا للعملية السياسية او للعراق، كما تراه الأحزاب الشيعية الدينية. كما رفعت لافتة عروبة العراق بوضوح، وهذا يثير مخاوف كل من ايران على الصعيد الخارجي والأكراد على الصعيد الداخلي. والاندماج يثير مخاوف الأحزاب الطائفية الكبيرة كالدعوة والمجلس الأعلى والتيار الصدري، كون هذا التجمع يعبر الحدود الطائفية، وينادي بالمواطنة العراقية. وهذا ما لوحظ في الواقع أيضا، اذ يتمتع علاوي والمطلك بتأييد محسوس في المناطق الجنوبية ذات الغالبية الشيعية.
اما اذا انضم الى هذا التجمع اسامة النجيفي في الموصل، وطارق الهاشمي، ورافع العيساوي نائب رئيس الوزراء، فيمكن ان يصبح ائتلافا من الوزن الثقيل بحق. وربما هذا ما اثار الخوف في الوسط السياسي الشيعي، فراحت الأنباء تقول بقرب اندماج الائتلاف الوطني مع ائتلاف دولة القانون. لكن البعض يفسر مشروع الاندماج انما جاء بضغط من ايران لعدم تشتيت الصوت الشيعي في الانتخابات القادمة.
لكن رغم كل ما سبق الا ان عودة البعثيين لا يمكن ان تتحقق كما يعتقد المتخوفون. فهي، وحسب اغلب القراءات، ما هي الا شماعة للابقاء على الاصطفافات الطائفية من قبل أحزاب الاسلام الشيعي، وبمباركة من طهران. واقع العراق اليوم لا يمكن بأي حال ان يتقبل فكرة الحزب الواحد، هذا عدا عن التوجهات الاقليمية والدولية، كما ان وجود اقليم كردستان، بخارطته السياسية والديموغرافية، يحد من سيطرة أي قوة ذات لون واحد على الدولة. عدا ذلك يصعب التراجع عن التعددية السياسية، وفصل السلطات، والحريات العامة وحقوق الانسان، فهي أفكار وممارسات مدت جذورها عميقا في التربة العراقية، شعبيا وقانونيا. وبوجود المقومات المذكورة آنفا لا يمكن لحزب مثل حزب البعث معاودة النمو مرة ثانية مطلقا. فهو حينئذ لا يبقى اسمه حزب البعث العربي الاشتراكي، رافع لواء الوحدة والحرية والاشتراكية، والأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، فتلك شعارات صارت بائدة في عراق اليوم، ولا يستسيغها عاقل.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى