سمر يزبكصفحات ثقافية

يوم في حياة سمر يزبك

null


لكي يكون يومي يوماً، لا بد أن يبدأ قبل أن يأتي الصباح. كلّ يوم يبدأ بعد ذلك، يذهب هباء.

في الثاني من آذار كانت الساعة الخامسة إلا ربعاً فجراً. أفتح نافذة المطبخ الصغيرة، وأغلي ركوة قهوة كبيرة. السماء لا تزال قاتمة، ورائحة الصباح تتسلل إلى رئتي. لا أريد أن أسمع أيّ صوت. أشعر بأن الصمت أجمل. لن أدير المسجّل كالعادة على صوت فيروز. فقط الصمت والهسيس الآتي من بعيد، ما أريد الآن. أجلس قرب فنجان القهوة الحلوة،
رشفات القهوة ومجّات السيجارة توقظني. السماء التي صارت بنفسجية جعلتني أهدأ قليلاً، فأنا استيقظ دائما على ضربات عنيفة لقلبي. على طاولتي الكتب التي أعمل عليها، بعضها لم يفارق الطاولة منذ زمن: “فقه اللغة” للثعالبي، الذي أقرأ مفردة واحدة من مفرداته، كتمرين يومي. معنى كلمة قد يبلغ نصف الصفحة، وأحيانا أسطراً عدة، وأحيانا جملة، هذه هي اللغة!

يوميا أفتحه، وأغلقه بالآلية نفسها. عدا أيام السفر؛ فمن النادر أن يمر يوم من دون أن أتلمسه. يرافقني منذ أيام الجامعة، بعده قليل من الشعر، ربما طرفة بن العبد، أو المتنبي.

في الثاني من آذار كنت مشوّشة، ولا يزال السفر عالقا بروحي، صور التلفزيون الليلية على مشاهد القتل في غزة عاودتني، جعلت عقلي عاجزاً عن التركيز. حاولت أن أقرأ مقاطع من ديوان “سرير الغريبة” لمحمود درويش الذي لا يتزحزح أيضا عن طاولتي مع الديوانين السابقين.

انتهت الساعة الأولى، وبدأ العالم يستيقظ. ابنتي خرجت إلى المدرسة، أغلقت الباب وراءها، وأغلقت النافذة الصغيرة التي تسرِّب ضوءاً رماديا. استيقظ العالم، وعلى بيتي أن يكون معزولاً عنه. أعود إلى طاولتي.

بدأ العمل. ولا بد لي من قراءة مراجع عدة وكتب عن أديبات حقبة الستينات والسبعينات في سوريا، وكل ما كتبته غادة السمان، فأنا أقوم بإعداد كتاب عنها. في يدي كتاب قديم صادر عن “دار الطليعة” عام 1980 كتبه الدكتور غالي شكري: “غادة السمان بلا أجنحة”. كنت مرتبكة أثناء قراءته. بعد رسائل غسان كنفاني، أحاول أن أعيد غادة إلى طفولتها وشبابها، وأحاول العيش معها، لكني اليوم مضطربة أيضا، ولن أسجل ملاحظات مهمة. سأكتفي بالقراءة عنها.

ملّت غادة مني، أو أني تعبت. أفتح التلفزيون، وأحاول التركيز لالتقاط مادة أكتب عنها زاوية “كاميرا” المحببة إلى قلبي، في جريدة “الحياة”، فلا أستطيع التركيز. عناوين تتكرر، ورأسي لا يزال مثقلاً بأخبار مجازر غزة، وبأخبار عن الوضع الداخلي السوري. لن أكتب عن السياسة، سأتلصص على الكاميرا بطريقة مختلفة. ولا أفلح بسوى الاندهاش، كما في كل مرة أمام صور المجازر والدماء. أُسكت صوت التلفزيون، أضع “سي دي” موسيقى فيلم “عودة يوليس” وافتح الكومبيوتر واكتب زاوية الـ”كاميرا”. أغلق الكومبيوتر ولا أراجعها. سأفعل ذلك غداً.

أعود إلى قهوتي الباردة، لكن الوقت أسرع مني. ابنتي سوف تعود من المدرسة. أكتب بعض الملاحظات بقلم رصاص عن غادة السمان في زاوية “أوراق بيضاء“.

لديَّ مواعيد عدة مع مخرج من أجل مشروع فيلم، ومع صديقتي ديما، ولقاء مع جبر لرؤية لوحته على غلاف كتابي الجديد “جبل الزنابق”، لكني مشوّشة تماما.

أُغلق الهاتف النقال، لأن صوتي لا يطاوعني اليوم. سأفعل ذلك مساء، أو يوم غد. اكتفي الآن بمتابعة قراءة رواية “بنت مولانا” لموول مفروي التي تحكي عن جلال الدين الرومي. أفكّر في كتّاب غربيين يدخلون على التراث من وجهه الأكثر جمالا، وفي هذه السيدة التي ولدت في باريس وتعيش في لندن، لكنها مولعة بجلال الدين الرومي، وبأشعاره. أعود إلى دفتر خاص، واكتب اسمها إلى جانب آرثر غولدن، صاحب رواية “ألموت”، وأقرر البحث عنها في “النت“.

انظر إلى ساعتي، أمامي ساعة ونصف ساعة لعودة ابنتي من المدرسة، ويجب أن أعدّ غداءها. أتشجع وأخرج من البيت. عندما تخرج من بيتك، كل شيء يعتدي عليك في هذا العالم، بدءاً من السماء الملوثة وانتهاء بالطرق الرمادية، والعيون الكئيبة، واللهاث السريع للحاق بشيء ما يتجه إليه البشر. ما هو هذا الشيء، غير المحدد الملامح، لكنه بالتأكيد استعجال لانقضاء دورة الحياة والموت.

أتسوّق بمتعة، أشتري الجرائد، وأنا أفكر أني لن افتح جهاز التلفزيون، وسأتلصص على ما يحصل في العالم من خلال الصحف، فهي أقل عنفاً من البث المباشر. ربما اكتفي من التلفزيون بمشاهدة بعض الأفلام. أقرر هذا، وأعود أحمل الباذنجان، لصناعة وجبة لذيذة لابنتي المراهقة التي لن تكتفي برؤية ما تشاهده على المائدة، بل ستشمّه، وتتذوقه، كما عوّدتها أن تفعل. أولاً، النظر إلى شكل الطعام، على العين أن تحبه، ومن ثم الامتلاء برائحته، الرائحة قبل المذاق. سيكون عليَّ إعداد مائدة تجعلها تنسى إرهاق النهار في المدرسة. أفكر لو أن حبيبي يعيش معي، سأطبخ له الباذنجان بالنبيذ الأحمر، على طريقة إيزابيل الليندي، وسأجعله يدور حولي في أثناء ذلك.

تعود ابنتي، وتفتح النوافذ، ويتحول البيت إلى مكان لها. أخبّئ قتامتي عنها، وأترك لها حرية اللعب بي كما تشاء.

بعد الطعام سيكون عليَّ التوجه لإعطاء دروس اللغة العربية لطلاب ثانوية. أعود قبل التاسعة ليلاً، وينبغي أن أتفرغ ساعة كاملة للرقص مع ابنتي على موسيقى تحددها بطريقتها، واليوم كانت لفرقة فتيات تسمى “البوسي كات”. الرقص عادة قديمة جعلتها تدمنها منذ الطفولة، تعويضا عن فكرة الحركة غير المتاحة لممارسة رياضة المشي، وانتهت هذه العادة اليومية إلى فرح ولعب يومي بيننا.

بعد الرقص، أصنع قهوة أخرى وانتظر أن تبرد، وأسمع فيروز. أفضل من أغانيها ألحان زياد.

لن أخرج هذا المساء، أعتذر من أصدقائي، أقوم بمراجعة زاوية ثقافية كتبتها الليل الفائت لجريدة “بلدنا” وأعود إلى متابعة التلفزيون، على رغم قراري الهرب منه، لكني أتابع الأخبار، وابحث عن فيلم ما. تنام ابنتي، ويعود المكان لي، يتحول الضجيج صمتاً تاماً، فينتابني إحساس بالذنب، لرغبتي في صمت لا يليق بمراهقة تتفجر بالحياة، أعود إلى فراشها بين وقت وآخر، وأنا أفكر في أنه كان من الواجب منحها وقتا أكبر لمشاهدة التلفزيون، لكني أفكر أني وعدت جمانة بإرسال مقال عن “يوم في حياتي”. وأبدأ بإعداد هذا المقال.

الثاني من آذار سنة 2008، يوم مثل كل يوم، سوى أني أعيش مع طيف كاتبة أقوم بإعداد كتاب عنها، وانتظر بجزع نشر كتاب آخر عن مناماتي “جبل الزنابق”، والأهم من ذلك أن لديَّ الكثير من الكتب تنتظرني لقراءتها. كنت في وادٍ سحيق الهاوية، بعيدا عن الحركة المحسوسة للبشر من حولي، لكن تلك الكتب والأوراق تجعلني أشعر بأني ربما، انتظر سعادة ما!

كاتبة سورية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. استغربت جملة لو ان حبييي يعيش معي ساطبخ له الباذنجان بالنبيذ الاحمر

    يا ترى فيه عندك حبيب اكتر من خيالك بالمرآة
    والطلاب المساكين يمكن انهم فقط بالخيال
    انت ما بتعطي دروس لحدا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى